امتحــان تاريخــي
شوقي بغدادي
لم تعد لان المسألة في هذا المحتسر العربي الاخير ان نعرف من هو البادئ في اختراق عقد اتفاقية التهدئة الاسرائيليون ام الفلسطينيون؟
ان أي نقاش الان من هذا النوع عن تحديد المسؤولية في المجزرة الدائرة لا بد ان يتحول الى مرافعة للدفاع عن الشر المطلق في محكمة عدل افتراضية لا وجود لها على الاطلاق. وهو نقاش يدور بالفعل ليس في الخندق الاخر بين حمائم السلام القليلة وصقور الحرب التي تكاد تحجب وجه السماء، بل هو يدور حتى بين العرب وفيهم من اضناهم الملل من هذه القضية المستعصية التي تبدو بلا حل، فجنحوا الى مناظرة باطلة منذ الاساس، مناظرة في قضية لا تتحمل ان تكون ذات وجهين متضادين ذلك لانها قضية شريرة ليس لها سوى وجه واحد هو وجه الشر المطلق من كل الاعتبارات الاخلاقية كي لا يمثل سوى وجه الجور والاغتصاب والعنف والقوة المبالغ فيها.
ليست المسألة مسألة مسؤولية تحتملها »حماس« مثلا وحدها وتنجو منها »فتح« ذلك انه حين تغدو القوة الوحشية هي الناطقة الوحيدة باسم الحق لا يجوز عندئذ اطلاقاً الدخول في مناقشة حماس او فتح، فالعرب بأجمعهم والمجتمع الدولي بكامل فئاته وتنويعاته، كلهم يحملون على ظهورهم قسطا من هذه المسؤولية المخيفة التي صنعت مشروع دولة ونفذته بقوة السلاح وحده.
ماذا يجري الان اذن في غزة؟
ان اسرائيل المدججة بأعنف وأرقى صنوف الاسلحة والمدعومة بموافقة اميركية مسبقة تمارس استخدام القوة في حرب ليس اقذر منها حرب، في زمن يدّعي قادة أميركا ان زمن الحروب العدوانية قد ولى الى الابد، وان البشرية مقبلة على انجاز التجربة الارقى في تاريخ البشير الاجتماعي وهو: العيش في ظل دولة واحدة ـ كما يعد نظام العولمة ـ يحكمها العدل والسلام.
إن ما يجري في غزة اليوم يكذب هذه الأمنية او هذا الادعاء على الاصح، كي يؤكد من جديد ان العقل البشري لم يرق بعد الى مستواه المحكي عنه وان الجانب الحيواني فيه ما يزال هو الغالب والمحرّض الأبلغ تأثيراً.
امام رؤية من هذا النوع لم يعد امام العرب ـ وليس امام الفلسطينيين وحدهم بالطبع ـ ان يناقشوا المسألة في هيئة الامم المتحدة فقط، او على طاولة الجامعة العربية، فوقها او تحتها، ان العرب يخرجون من التاريخ ـ او لعلهم خرجوا ـ وما من عودة ترجى لهم في الأفق القريب ولا البعيد كما يبدو.
ان انقاذ غزة الان هو العمل الوحيد الذي يمكن ان يدفعنا للقول واثقين، بأننا نشارك حقاً في صنع تاريخ، وبالتالي فنحن نتحدث من داخله لا من خارجه.
هذا هو امتحاننا الاخير ـ كما يقول ـ ولكي ننجح فيه فلا بد من ان نضع جانبا كل المحاذير المستمدة من الصالح الخاص. ونشرع فعلا بصنع قرارانا التاريخي المنتظر منذ مئات السنين، اي نواجه الشر المطلق بكل ما نملك من طاقات وقدرات، أي »صولد« لا كما يصنع المقامرون على طاولات القمار، بل كما يصنع الذين يستخدمون عقولهم بالفعل حين يتضح لهم انهم يملكون فعلاً قوة اخرى ممانعة قادرة على المجابهة وأنهم قرروا اخيرا ان يستخدموها.
(شاعر سوري)
المستقبل