قضية فلسطين

إيران والاختبار الصعب في غزة

د. محمد السعيد إدريس
فجأة، وجدت إيران نفسها أمام اختبارات صعبة بسبب الحرب العدوانية الشرسة التي تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. فقد واجهت إيران الاختبار مرة عندما بدأ العدوان الإسرائيلي جواً وبحراً، وواجهت الاختبار مرة ثانية عندما خالفت إسرائيل كل التحذيرات الإيرانية بعدم التورط في شن حرب برية ضد القطاع، وفي المرتين واجهت إيران اختبار المكانة والمصداقية لأنها لم تستطع أن تقدم من المواقف العملية ما يحمي شعب غزة، ولم تستطع تجاوز ما رأته عجزاً ومهانة وضعفاً وربما تواطؤا من دول عربية وإسلامية.
لقد جاء الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة في وقت غير مناسب لإيران في ضوء عاملين: أولهما، أن إيران كانت تسعى في الأسابيع التي سبقت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة إلى تهدئة الأوضاع في مناطق التوتر استعداداً لتفاهمات مع الإدارة الأميركية الجديدة، على أمل خلق فرصة حوار مع هذه الإدارة حول البرنامج النووي الإيراني. أهم تلك المساعي كانت في اضطرار إيران إلى القبول الضمني للاتفاقية الأمنية العراقية – الأميركية، على عكس الموقف الإيراني من تلك الاتفاقية في الأشهر الأخيرة الذي شهد رفضا متشددا لهذه الاتفاقية باعتبارها تتضمن تهديداً للأمن والمصالح القومية الإيرانية. وثانيهما، أن إيران كانت قد دخلت في مواجهة سياسية وإعلامية عنيفة مع كل من المملكة العربية السعودية ومصر، بسبب مشاركة العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز في مؤتمر «حوار الأديان» الذي عقد في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، والذي حضره رئيس الدولة الإسرائيلية شمعون بيريز، وبسبب رفض مصر فتح معابرها مع قطاع غزة.
فقد نظمت إيران العديد من التظاهرات شارك في بعضها الرئيس أحمدي نجاد ورئيس مجلس الشورى علي لاريجاني، ونددت بـ «الصمت» الذي تلتزمه الدول العربية تجاه الحصار على غزة، متهمة بعض الرؤساء العرب بالتآمر على غزة مثلما تآمروا على لبنان خلال العدوان الإسرائيلي العام 2006، كما تعرضت بعض المصالح السعودية لهجمات في طهران، حيث حاولت جماعة طلابية يطلق عليها «إخوان الرضوان» إشعال النار في مكتب الخطوط الجوية السعودية بطهران، احتجاجاً على ما أسمته بـ «الدعم السعودي للمبادرة العربية للسلام بين العرب وإسرائيل»، وذكرت الجماعة في بيان أن «سبب الهجوم هو تحرك السعودية مؤخراً من أجل المصالحة والمتعلق بخطة السلام العربية».
التحرش بمصر بعد السعودية

ولم تكن حملة الهجوم على مصر أقل منها بالنسبة للسعودية، حيث صعد الإيرانيون من هجومهم على السياسة المصرية إزاء الحصار المفروض على قطاع غزة، وبدأ التصعيد بتوجيه مسؤولين إيرانيين على رأسهم رئيس مجلس الخبراء رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني ورئيس مجلس الشورى علي لاريجاني، انتقادات حادة للسياسة المصرية تجاه أزمة حصار غزة، واتهامهم السلطات المصرية بمنع الحجاج الفلسطينيين من أداء الفريضة وإغلاق معبر رفح أمامهم، والأرجح أن تتفاقم الأزمة بعد العدوان الإسرائيلي السافر ضد غزة وهو العدوان الذي أعقب زيارة قامت بها تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الإسرائيلية لمصر بدعوة من الرئيس حسني مبارك، وهي الزيارة التي اختتمتها ليفني بوعد تغيير الموقف في غزة، وإنهاء سيطرة حركة «حماس»، رداً على ما وصفته بـ «هجمات الصواريخ» ضد مدنيين إسرائيليين، عقب إعلان حركة «حماس» إنهاء العمل باتفاقية التهدئة التي تمت منذ شهور قليلة بوساطة مصرية، وهي الزيارة التي سعت بعض الأجهزة الإعلامية الإيرانية على تصويرها بأنها دليل على تواطؤ مصري مع إسرائيل ضد حركة حماس.
رفسنجاني اتهم مصر بالمساهمة في حصار غزة وتدمير الأنفاق التي يمر بها الفلسطينيون ويستخدمونها للحصول على احتياجاتهم الضرورية. دخول رفسنجاني كطرف مباشر في هذه الأزمة وهو المشهود له بأنه رجل دولة مقتدر يعطي انطباعاً بأن خيارات إيران باتت واضحة بالنسبة للعلاقة مع مصر، وأن طهران لم تعد تراهن على انتظار تحسن في العلاقات مع مصر على الأقل في ظل هذه الظروف.
عود إلى بدء
أما علي لاريجاني فقد حرص على تفنيد ما أسماه بـ«مبررات مصر فى إغلاق المعابر»، ووصفها بأنها غير مقنعة ومرفوضة في ظل الأوضاع المزرية التي يعيشها الفلسطينيون في غزة.
هذه الانتقادات فتحت الأبواب لخروج مظاهرات أمام مقر بعثة المصالح المصرية في طهران، حيث تجمع المئات من الطلاب وأعضاء «الجمعية الإسلامية» و«حركة العدل»، وقذفوا مقر البعثة بالحجارة وأطلقوا شعارات مثل «كلنا خالد الإسلامبولي»، كما رفعوا صوراً للرئيس المصري الراحل أنور السادات وكتبوا عليها «هذا جزاء المساومين». وطالبت المظاهرات بمحاكمة الرئيس المصري حسني مبارك بتهمة الخيانة والمشاركة في جرائم ضد الفلسطينيين، وحذرته من أنه سيلقى مصيراً مشابهاً لشاه إيران رضا بهلوي الذي أزاحته الثورة العام 1979.
وفجأة، وفي ظل هذا الاحتقان في العلاقات مع كل من مصر والسعودية شن الإسرائيليون حربهم على قطاع غزة، ووجد الإيرانيون أنفسهم أمام الاختبار الصعب الذي وضعهم أمام خيارات ضيقة ومحدودة. فإذا اكتفى الإيرانيون بسياسات الشجب والإدانة والمظاهرات، وهذه كلها موجودة عند الأطراف الأخرى التي سبق أن اتهمت بالتواطؤ والضعف، فإنهم سيفقدون الهيبة والمصداقية، وكل ما استطاعوا تحقيقه من رصيد إيجابي لدى الفلسطينيين وخصوصاً حركة «حماس» التي من المؤكد أنها كانت ومازالت تعوِّل على الدور الإيراني الداعم، وإما أن تتجاوز هذا الخيار السلبي وتدفع بنفسها في مواجهة مع إسرائيل سواء بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر عن طريق دفع «حزب الله» في لبنان إلى فتح جبهة حرب ثانية مع إسرائيل لتخفيف الضغط على جبهة قطاع غزة.
هذا الخيار له صعوباته إذ إنه يمكن أن يعجل بالحرب الإسرائيلية – الأميركية ضد المنشآت النووية الإيرانية، وهي حرب ظلت إسرائيل تحفز الإدارة الأميركية عليها طيلة الأشهر الماضية، باعتبار أن البرنامج النووي الإيراني هو التهديد الرئيسي لإسرائيل الآن، وأنها لن تستطيع أن تعيش آمنة في ظل شبح امتلاك إيران سلاحاً نووياً، كما أن الدفع بـ«حزب الله» لفتح جبهة ثانية ضد إسرائيل لم يعد ممكناً في ظل حسابات سياسية داخلية معقدة أصبح «حزب الله» طرفاً فيها، وفي ظل حسابات إقليمية ودولية تأكدت كلها في اتفاق الدوحة الذي أنهى الأزمة السياسية اللبنانية، وفي ظل شبكة من التوافقات الإقليمية والدولية الضامنة للاستقرار في لبنان.
لقاء الاضداد
كان يمكن أن يكون هناك خيار ثالث وهو خلق جبهة تضامن إقليمية قوية تضم إيران وسورية مع مصر والسعودية وتركيا تضغط من أجل وقف الحرب وتنجح في تشجيع مصر على اتخاذ مواقف إيجابية في مواجهة إسرائيل أولاً وفي اتجاه القبول بمطالب فتح المعابر المصرية لدخول المساعدات الطبية والمادية ثانياً، ومراجعة موقفها من اتفاقية المعابر التي تحول دون القبول المصري بالفتح الدائم للمعابر، ولكن سخونة الأزمة التي تفجرت بين إيران وكل من السعودية ومصر على النحو الذي أشرنا إليه حال دون النجاح في ولوج هذا الخيار الثالث، رغم المعلومات التي ترددت عن أن علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى الإيراني سيصل إلى دمشق (كان المقرر أن يصل يوم الاثنين 5 يناير الجاري)، لمناقشة القضايا الإقليمية مع رؤساء البرلمانات الأعضاء في ترويكا اتحاد البرلمانات الآسيوية: إيران وسورية وإندونيسيا، وأنه سيبحث في دمشق طرق دعم أهالي غزة بما فيها زيارة رؤساء البرلمانات إلى القاهرة لإجراء المحادثات مع نظيرهم المصري أحمد فتحي سرور بشأن إرسال المساعدات إلى غزة.
آفاق محدودة
لم يصل لاريجاني (حتى كتابة هذه السطور) لكن وصل سعيد جليلي الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني وزار دمشق، والتقى الرئيس بشار الأسد وكبار المسؤولين السوريين، كما التقى خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» وسلمه رسالة دعم من المرشد الأعلى السيد علي خامنئي، والتقى أيضاً رمضان شلَّح الأمين العام لحركة «الجهاد الإسلامي»، ثم ذهب إلى بيروت والتقى الرئيس اللبناني ومسؤولين لبنانيين كان على رأسهم السيد حسن نصرالله، وعاد بعدها ثانية إلى دمشق للبحث في مسألة تنسيق المواقف والاتفاق على القيام بدور عملي وملموس لمواجهة الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، أي أن الدور الإيراني المحتمل ربما يبقى محصوراً في نطاق جبهة الممانعة والصمود أي في إطار العلاقة مع سورية وحزب الله وحركتي حماس والجهاد الإسلامي.
هذا التحرك الإيراني تبدو آفاقه محدودة، كما هي آفاق التحرك الدبلوماسي، لذلك لم تنكشف حتى الآن أية سياسات إيرانية في مقدورها تجاوز الدور الدبلوماسي ومواصلة شن الهجوم السياسي والإعلامي ضد الدول العربية المتهمة إيرانياً بالتخاذل، الأمر الذي من شأنه أن يضيق من فرص إيران لقيادة دور إقليمي ناجح مقارنة بالدور التركي، لكن الأهم من ذلك وضع إيران في موقف الداعم بالكلام دون قدرة على فعل له مردوده الإيجابي نظراً للحسابات الإقليمية المعقدة.
كاتب من مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى