«أكلوني البراغيث».. بين النحو والسياسة
حنا عبود
يختلف النحاة في استخدام فاعلَين لفعل واحد. بعضهم يجيز استخدام الفاعلَين، على اعتبار أن الثاني بدل من الأول، ويرفض بعضهم كل الرفض استخدام فاعلين لفعل واحد، ولا يجيز استخدام البدل كمخرج لهذه الورطة. وحتى اليوم لم يتفق النحاة على حل، فبقي الخلاف، ولا يزال الجدل حتى اليوم دائراً بين كبار النحاة وصغارهم حول هذه المشكلة الخطيرة، حرصاً على سلامة اللسان العربي.
وما ينطبق على «أكلوني البراغيث» ينطبق تماماً على الأنظمة العربية والمقاومة، فكأن وجود الطرف الأول ينفي وجود الثاني، والعكس صحيح.
وبكلام واضح نقول: إن الأنظمة العربية ترفض أي اجتماع بينها وبين المقاومة، فكأن وجود المقاومة يعني تماماً حذفاً لوجودها. فهي ترفض «إعراب الثاني بدلاً من الأول». ومع أن المقاومة تتمنى أن تقف الأنظمة العربية معها، فإنها لم تستطع أن تحقق ذلك إلا لفترات زمنية قصيرة جداً، سرعان ما يتبيّن أن هذا الموقف يخدم الأنظمة وحدها، ولا يخدم المقاومة.
سبب هذا الخلاف بين الطرفين يعود إلى الطريقة التي ظهر فيها هذان الطرفان. فالأنظمة العربية ظهرت بطريقة عملت فيها أصابع أجنبية، والمقاومة ظهرت نتيجة رغبة شعبية وإرادة جماهيرية، وموقف موحد من الاحتلال والتسلط. ولهذا يرى المفكرون السياسيون أن حرب الوجود بين المقاومة والمحتل تقود في الوقت نفسه إلى إحساس الأنظمة العربية بأن وجودها مهدد. يكفي أن تشيع طريقة ظهور المقاومة حتى ينتهي دور السلطة العربية الرسمية… الخ.
حجة الأنظمة العربية أن المقاومة تستمد وجودها الفاعل (المال والسلاح) من الأنظمة، فلا حاجة إلى أن تحارب بالوكالة، لأنها منقسمة على ذاتها (كأن الأنظمة ليست منقسمة على ذاتها، وكأن انقسامها لا ينعكس على حركات المقاومة) مما يعرقل مساعي الأنظمة للخلاص من الاحتلال.
وهناك تسابق محموم بين الأنظمة العربية والمقاومة. الأنظمة تسعى إلى الطريق الدبلوماسية لحل المسألة (تقدمت بمبادرة قوبلت بازدراء المحتل وبتجاهل الراعي الأميركي، ومع ذلك لا تشعر الأنظمة بأي إهانة) في حين تسعى المقاومة إلى الكفاح المسلح لانتزاع حق الفلسطينيين انتزاعاً، بعدما تبيّن أن 270 لقاء بعد اتفاقية أوسلو ولم تتقدم المسألة خطوة واحدة إلى الأمام، بل على العكس من ذلك تماماً.
ولكن لماذا جاء المثال عن البراغيث وليس عن حشرة أخرى أو حيوان آخر؟ هل لكثرة البراغيث عند العرب (وهل هي غير كثيرة عند غيرهم!)؟ هل جاءت هذه الكلمة على نحو عفوي تماماً، من غير أن يفكر فيها قائلها؟… المسألة أبعد من ذلك.
هذا المثال من أصدق الأمثلة، فلا يمكن استخدام كلمة غير البراغيث في هذا المكان. والسبب أنك يمكن أن تتجنب خطر أي حشرة أو حيوان سوى البراغيث، فأي حشرة أو حيوان آخر تراه فتبتكر الطرق لاجتنابه أو الإجهاز عليه، إلا البراغيث، لأنها تعمل بطريقة خفية. فالبراغيث تمص دمك في منطقة، ولا يصل الإحساس بالألم إلا وتكون البراغيث قد غادرت هذه المنطقة المرعية، فيبحث صاحب الجسد عن المسؤولين عن هذا الاعتداء بيديه وعينيه، فلا يجد أثراً لبرغوث. ثم يشعر بأثر اللذع واللدغ في منطقة أخرى، فيصير إلى ما صار إليه، ولا يعثر على مجرم.
إن هذا المثال مدروس بعناية ودقة، وليس مثالاً عفوياً أو عبثياً. وإذا ترجمنا البراغيث إلى اللغة الجيوبوليتيكية العصرية، رأينا أن البراغيث هي المقاومة المتخفية أبداً، والتي تلدغ وتهرب مثل البراغيث. والمقاومة هي الوحيدة التي ابتكرها العصر الحديث ضد الجبابرة، الذين يملكون آلة حربية جبارة. قد تختلف التسميات من شعب إلى شعب، ومن مفكر إستراتيجي إلى مفكر إستراتيجي آخر. بعضهم يسميها «ميليشيا» وبعضهم يسميها «حرب العصابات» وبعضهم يسميها «حرب الإغارة» وبعضهم يسميها «الحرب الشعبية» وبعضهم يسميها «المقاومة الجماهيرية»… لكن الهدف منها واحد، وهو مواجهة المحتل الممتلك لكل أسباب القوة والجبروت، سواء في أوروبا أو آسيا أو أفريقيا… أو عندنا في الشرقين: الأدنى والأوسط.
في النصف الأول من القرن العشرين، ابتكر ماو تسي تونغ هذه النظرية، وجعل لها أسسها في الكر والفر وتأسيس المركز الرئيس الذي يدير العمليات المتفرقة، والتموين والتمويل. وأهم مبادئ حرب المقاومة هي العشرة ضد الواحد، أي يجب على المقاومة أن تهاجم المركز الواحد للعدو بعشرة أمثاله، حتى تقضي عليه قضاء مبرماً، فلا يعود إلى الحرب ثانية. والمؤسف أن هذا المبدأ لم يراعَ من قبل أي مقاومة، نظراً إلى ضعف التخطيط، الذي امتاز به ماوتسي تونغ بصورة لافتة للنظر.
ومن مبادئه أن المقاومة يجب أن تبدأ من الريف، حيث يمكن التواري بسهولة عن العدو، وتجنب المداهمة، وغير ذلك. وبعد أن تنشأ مراكز المقاومة في الريف، تبدأ محاصرة المدن من الأطراف، ثم القيام بعمليات أقرب إلى قاع المدينة، حتى تسقط السلطة.
أما القاعدة الأساسية في حماية المقاومة، فهي التعامل وفق مبادئ راقية وسامية مع الشعب، ومساعدة الجماهير في حل قضاياها المعيشية. ويكتب النصر لهذه المقاومة بمقدار ما تضمن القاعدة الأساسية التي ترتكز عليها وهي الشعب، لأنه كما يقول ماوتسي تونغ : معين لا ينضب، وكل علاقة سيئة مع هذا الشعب، ستنعكس سلباً على المقاومة.
نجحت المقاومة الصينية لالتزامها بهذه المبادئ، وكذلك المقاومة الفيتنامية. ولكن ثورة غيفارا لم تنجح، لاعتماده على الثوريين، وليس على جمهور الشعب. الثوريون للقتال، والشعب خزان عطاء، وأي انقطاع بين الطرفين يوقف المقاومة، فلا تجد ثوريين بما يكفي، ولا تجد مؤيدين بما يكفل النجاح. ولكن هذه النظرية (نظرية من الريف إلى المدينة) قد تصدق على المساحات الكبرى. المساحة الصغرى تلجأ إلى حرب المدن، حرب الشوارع، حرب الكمائن.
لقد انجرفنا مع النظرية والمنظرين واللغة واللغويين ونسينا الأنظمة العربية والبراغيث. لنعد إلى أساس كلمتنا، ولنقل إن محاولة الأنظمة العربية الإجهاز على البراغيث، على وهم أنها ستعيش هنية البال، سعيدة الحال، سوف يؤدي إلى الإجهاز عليها نفسها، إما من قبل القوة الجبارة التي سحقت البراغيث، وإما من قبل البراغيث أنفسهم، إذا تغلغلوا في جسد الأنظمة العربية، وما أكثر الأمثلة.
أنا أخشى على الأنظمة العربية من الصراخ: أدركوني فقد أكلوني البراغيث
كاتب من سورية