نتائج الحرب على غزة: الإحتمالات
توفيق هندي
بغض النظر عن أهمية الجدل القائم حول من الذي تسبب بوقوع الحرب على غزة، الأهم هو تحديد طبيعة هذا الصراع ونتائجه. فالكل في لبنان والمنطقة والعالم يترقب على أية معادلة سوف تنتهي وما هي تداعياتها.
فلا شك أن هذه الحرب تعبر بأحد أوجهها عن تفاقم التناقض الإسرائيلي – الفلسطيني والإسرائيلي – العربي والإسرائيلي – الإسلامي. غير أن أهم أوجهها يكمن في إنفجار التناقض بين المربع الإستراتيجي – إيران، سوريا، “حزب الله”، “حماس” – ومجموعة الدول والكيانات والقوى، المتباينة في مصالحها ومواقعها وحساباتها ومواقفها، التي تتناقض مصالحها جوهرياً مع تصاعد قوة هذا المربع.
أما ممن تتكون هذه المجموعة؟ أميركا، أوروبا، الدول العربية المعتدلة (مصر، السعودية، الأردن،…)، السلطة الفلسطينية، قوى 14 آذار في لبنان،… وبالطبع إسرائيل.
من النافل القول إن زعيمة المربع الإستراتيجي هي إيران وأن الطرف الرئيسي في المجموعة المقابلة هو أميركا. أما روسيا والصين فخارجتان عن الاصطفافات.
بات واضحاً ما هو الهدف الإسرائيلي من هذه الحرب فهو يتلخص بسعي إسرائيل لخلق واقع عسكري يفرض ميزان قوى على الأرض يحول دون تمكن “حماس” من إطلاق صواريخها على الأراضي الإسرائيلية، ولا سيما الجنوبية منها، كما يحول دون تمكنها من القيام بعمليات إستشهادية داخل إسرائيل. ولا شك في أن إسرائيل تعلم أنه ليس بمقدورها لأسباب متعددة “شطب” “حماس” من المعادلة الفلسطينية، فضلاً عن أن هذا “الشطب” قد لا يكون بمصلحتها لأنها قد تريد الإبقاء على الصراع الفلسطيني – الفلسطيني قائماً لكي لا تضطر للسير بالعملية السلمية الآيلة إلى إقامة الدولة الفلسطينية.
غير أن تحقق الهدف الإسرائيلي يعني عملياً شل قدرة “حماس” على المقاومة المسلحة، أي إفقادها الوسيلة الرئيسة لتحرير كامل التراب الفلسطيني (أو بعبارة أخرى، تدمير دولة إسرائيل)، وبالتالي فقدانها لعلة وجودها. من هنا، إن المعيار الرئيسي لإنتصار “حماس” هو في إحتفاظها بقدراتها على إطلاق الصواريخ على إسرائيل و/ أو شن هجومات داخل الأراضي الإسرائيلية.
ولا بد من الملاحظة أنه بالرغم من أن “حماس” هي الأضعف ضمن المكونات الأربعة للمربع الإستراتيجي (وربما هذا الأمر من الأسباب التي حملت إسرائيل للتعرض لها وليس لإيران أو سوريا أو لـ”حزب الله”!)، إلا أن رمزية مقاومتها ومركزية القضية الفلسطينية تحولان خسارتها الحرب من إنكسار لها إلى إصابة بالغة للمربع الإستراتيجي بمكوناته الأربع. وهذا تطور في غاية الخطورة.
فـ”حماس” الفاقدة لوجهها المقاوم ولعلة وجودها، قد تلجأ إلى التعويض عن خسارتها بتأجيج صراعها مع “فتح” ومنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية ليس فقط في غزة ولكن أيضاً في الضفة الغربية كما في أماكن الإنتشار الفلسطيني ولا سيما في لبنان، حيث قد تلجأ إلى الإمساك كلياً بورقة المخيمات الفلسطينية، متماهية و/ أو مستعينة لتحقيق هذا الهدف بحلفائها الفلسطينيين (المنظمات الفلسطينية ولا سيما الموالية منها
لسوريا) وحلفائها اللبنانيين وعلى رأسهم “حزب الله”.
أما حزب الله وعلى لسان أمينه العام السيد حسن نصر الله في خطبة عاشوراء فيؤكد على أن “تجربة حرب تموز وتجربة المقاومة الفلسطينية في غزة حتى الآن من خلال الثبات الإعجازي الذي يقدمونه قد حسمتا ويجب أن تحسما كل نقاش عن إستراتيجية دفاعية هنا أو هناك…وأن خيار المقاومة الشعبية المسلحة المستندة إلى الايمان والعزم هي الخيار الأقوى والأفضل لمواجهة أعتى الجيوش إذا ما أرادت إحتلال بلد ما”. قد يفهم هذا الكلام على أنه نعي لطاولة الحوار أو أقله لعدم أخذها على محمل الجد. ولكن الأهم يكمن في أنه إستباق لرفض أية طروحات لإستراتيجية شاملة للأمن القومي اللبناني تتعامل مع كل المخاطر التي تتهدد أمن واستقرار وسيادة لبنان بما فيها عدوه الأوحد، أعني إسرائيل، على قاعدة حصرية السلاح واستخدامه في يد الدولة اللبنانية. وبما أن إسرائيل سوف تنسحب من غزة في نهاية الحرب ونهاية المطاف، بغض النظر عن تحقيق هدفها أم لا، يوحي كلام السيد نصر الله أن “حزب الله”، في مطلق الأحوال، سوف يعتبر أن المعجزة الإلهية قد تحققت وانتصرت المقاومة في غزة وبالتالي حسم النقاش في لبنان عن الإستراتيجية الدفاعية لصالح المقاومة، في حين أن خسارة “حماس” الحرب من خلال فقدانها وجهها المقاوم، لا شك في أنه يضعف “حزب الله” كما يضعف حجته في الدفاع عن إستراتيجية دفاع عمودها الفقري هو المقاومة.
أما سوريا، فبهزيمة “حماس” تهزل بيدها الورقة الفلسطينية وتتعثر محاولاتها لإعادة الإمساك بالوضع اللبناني، مما يضعف دورها الإقليمي في مواجهتها محور الإعتدال العربي ويؤثر سلباً على قدراتها في إتخاذ القرارات الصعبة سلماً أو حرباً.
أما إيران، فتشهد على إضمحلال أهم رافعة في تعاطيها بالقضية الفلسطينية، ألا وهي المقاومة الإسلامية في غزة (وفلسطين) كما في لبنان. فتتآكل إطلالتها على القضية العربية الأولى التي كادت تخرجها من يد العرب لتستأثر بها تحت راية الإسلام ولكي تشكل سلاحاً فتاكاً لبسط سيطرتها على العالم العربي. كما تفقد إيران من عناصر قوتها في
مواجهتها المشروع الأميركي – الصهيوني الذي يستهدفها، ولا سيما يستهدف مشروع إمتلاكها للسلاح النووي.
فهل سيقف حلفاء “حماس” الثلاثة مكتوفي الأيدي أمام انهزامها؟! موضوعياً، ليس من سبيل أمامهم سوى فتح الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية لنجدة “حماس” قبل لحظة الهزيمة. غير أن هذا الخيار محفوف بالمخاطر الجمة وقد يشكل فتيل حرب إقليمية طاحنة قد تؤذي إسرائيل ولكنها قد تدمر إيران وسوريا ولبنان من خلال لجوء إسرائيل إلى السلاح النووي إذا ما إستشعرت بخطر وجودي داهم. لذا، من المستبعد أن يتم اللجوء إلى هذا الخيار.
ولكن ماذا لو إنتصرت “حماس”؟ يكون المربع الإستراتيجي قد حقق تقدماً على المجموعة الإقليمية الدولية التي تواجهه وعلى كل طرف منها وبات يشكل خطراً حقيقياً على الأمن والإستقرار والسلام في منطقة الشرق الأوسط الكبير وبالتالي في العالم بأسره ( نظراً الى ما تختزنه هذه المنطقة من عناصر مؤثرة على الإستقرار في العالم )، وينذر بتفجير التناقضات الكامنة بين الدول كما داخلها، ولا سيما بين الحكام والشعوب، كما يشير الى ذلك السيد حسن نصر الله. ولأن تداعيات إنتصار “حماس” بهذه الضخامة، إمكانية تحققه ضئيلة جداً إن لم تكن معدومة!
غير أن إنتهاء الحرب دون وضع آلية عملية لحل سريع نهائي ومقبول للمشكلة الفلسطينية سوف يؤدي مجدداً بعد حين إلى تأزم عنيف في المنطقة يهز أمنها وأستقرارها. إن الإصرار على وضع هذه الآلية من مسؤولية المجتمع الدولي عامة وأميركا خاصة كما من مسؤولية الدول العربية عامة ومصر والسعودية خاصة.
(سياسي وكاتب)