أي ثمن لتسوية التهدئة المقبلة؟
ماجد الشيخ
لم يبق ما ينتظره الإسرائيليّون لتطوير هجومهم الإرهابي الوحشي ضدّ قطاع غزّة، بعد أن دخلوا بحذر شديد إحدى مراحل الهجوم البرّي، في الوقت الّذي لم يتم فيه حتى الآن تقديم أيّ عرض جدّي لوقف إطلاق نار حقيقي. وحتى لو كان هناك عرض من هذا القبيل، فإنّ »نشوة النّجاحات الأولى« تجعل القيادة الأمنيّة الإسرائيليّة أبعد من أن تفكّر بأن ذلك أمر يمكن تحقيقه خلال أيّام قليلة قادمة. ولذلك فهي تستعدّ لمراحل أخرى ما زالت طي الكتمان من العمليّة البرّية، عبر دراسة الترجيحات المحتملة لإمكانية القيام بمجموعة من هجمات الكوماندوس تلافيا لأخطاء وخسائر متوقّعة يمكنها أن تكون كبيرة، في حال الدّخول البرّي الواسع؛ حيث رأى عاموس عوز (يديعوت أحرونوت ٣٠/١٢) أنّها يمكن أن تؤدّي إلى التّورّط والغرق في أوحال القطاع، ذلك أنّ »الوحل اللبناني« يعتبر شيئا لا يذكر مقارنة بـ »أوحال غزّة«. فيما لا يريد الإسرائيليون تفويت فرصة هندستهم لفرصة جديدة للتهدئة القادمة تستجيب لشروطهم، ولو عبر أطراف إقليمية أو دوليّة.
وكان رافضو الاقتراح الفرنسي بشأن »الهدنة الإنسانيّة«، قد عمدوا إلى توجيه انتقادات لوزير الدّفاع إيهود باراك، بسبب موافقته الأوّليّة على الاقتراح. ونقل الإعلام الإسرائيلي عما يسمى »المطبخ المصغّر« أنّ إسرائيل ليست على استعداد للاستجابة لأيّ توجّه لوقف العمليّة العسكريّة، أو الموافقة على »هدنة إنسانيّة«.
وفي هذا الاتّجاه رأى أليكس فيشمان، أنّ باراك يخطّط لعمليّات طويلة، إلاّ أنّ قسما من الخبراء يرون أنّه ليس لديه الكثير من الوقت بعد عطلة الأعياد، واقتراب موعد الانتخابات العامة للكنيست بعد حوالى الشهر من الآن، وحينها يبدأ العالم بالضّغط، ويتمخّض ذلك عن آليّة معــينة لتسوية، وهذا بحاجة إلى وقف إطلاق نار، وكي يتوقّف إطلاق الــنار ينبغي التّوصّل إلى توافق على تسوية، فأيّ ثمن يمكن لإسرائيل أن تدفعه من أجل التّوصّل إلى مثل تلك التّسوية؟. لهذا يفضّل الإسرائيليّون التوصّل إلى قرار (داخلي) قبل أن يقرّر العالم فرض مثل هذا القرار على إسرائيل.
ويبدو أنّه من دون تحقيق الأهداف المعلنة لعمليتها العسكريّة، سيكون من الصعب على القيادة العسكرية والأمنيّة التّوقف عن تحقيق المزيد من إنجازات »الرّصاص المصبوب« في الوقت الّذي تمضي »حماس« ومعها فصائل المقاومة في تقييم إنجازات »بقعة الزّيت« على أنّها الأكثر صمودا في مواجهة هجمة جوّيّة شرسة؛ بات الطّرفان في منتصف الطّريق كلّ في مواجهة الآخر، بحيث بات من الصعوبة إمكان تصوّر تراجع أيّ طرف، عما يفترض أنّها أهدافه الأغلى والأعلى، والتي يسعى إلى تحقيقها على حساب الطّرف الآخر. مع أنّ ذلك لا يمكن تصوّره عسكريّا نظرا للتفاوت الشديد في موازين القوى، ومواضع الألم الشّديدة التي ينثرها »الرصاص المصبوب« من جهة، وإلى حدّ ما »بقعة الزّيت« الصّاروخيّة من جهة أخرى.
لهذا بدت العمليّة البرّيّة »طبيعيّة«، نظرا للتّوقّعات التي تأملها وتراهن عليها الحكومة والجمهور الإسرائيلي عامّة منها. وإذا لم يكن من اليسير تصوّر استراتيجيّة إعادة خروج من القطاع مرّة أخرى، فإنّ »وحل غزّة« لن يكون أرحم من »وحل لبنان« الّذي جرّبته العسكريّة الإسرائيليّة في ثمانينيات القرن الماضي. وفي كلّ الأحوال يتوقّف على مصير المعركة الرّاهنة؛ أيّ الاتجاهات ستسلكها وأي نتائج سوف تترتب عليها في الانتخابات المقبلة، وعليها يتوقّف مصير الحكومة القادمة. لكن قبل ذلك فإنّ ما يترتّب على قرار إنهاء الحرب في غزّة عبر تسوية يجري التّوافق في شأنها، أو عبر تسوية تفرض من طرف واحد (إسرائيل). وما يترتّب على ذلك؛ هو تماما ما يحدّد أسلوب التعامل المستقبلي مع غزّة: بقاء الاحتلال، وهذا مستبعد. وسلوك طريق التّسويّة مع جهة فلسطينيّة رسميّة تعترف بها إسرائيل، وهذا هو الأرجح.
لكن إسرائيل الذاهبة إلى اجتياح غزّة برّيّا تبدو حذرة من رفع سقف أهدافها، بما يذكّرنا بحرب العام ٢٠٠٦ في لبنان. فهي إذ تضع هدف إنهاء هيمنة »حماس« على غزّة، تدرك أنّ ذلك هدف لا يمكن أن يكون آنيّا أو تكتيكيّا، بل هو الهدف الأقصى للجيش الإسرائيلي؛ المطلوب منه إسقاط »حماس« بالضّربة القاضية، لكن دون الاحتلال أو البقاء في غزّة فترة زمنيّة طويلة، أو على الأقل فرض تسوية تهدئة أو هدنة جديدة بشروط إسرائيليّة مجحفة أوّلا وأخيرا، ودون السّماح لـ »حماس« بالمناورة مرّة أخرى لفرض تهدئة قسريّة؛ لم تعد إسرائيل تملك ترف الموافقة عليها، ولا سيّما أنّ الانتخابات المقبلة تدفع باتّجاهات اليمين القومي المتطرّف إلى الواجهة من جديد: واجهة الصّعود إلى حلبة زعامة الحكومة وقيادة إسرائيل. وعلى مصير العمليّة العسكريّة الرّاهنة في غزّة ونهاياتها، يتوقّف مصير القوى الحزبيّة في معركة الانتخابات المقبلة.
ولأنّ استمرار الاحتلال وبقاء قوّاته العسكريّة داخل القطاع، سوف يعنيان استمرار النّزف البشري، ودفع أكلاف عالية، خبرها الإسرائيليّون جيّدا في فلسطين (غزّة تحديدا) وفي لبنان من قبل، ليعود الخيار بين القبول بالخسائر التي يحتّمها الاحتلال مباشرة، وبين تلك التي تفرضها المقاومة على قرى وبلدات ومستوطنات ما يسمى »غلاف غزّة« أي استمرار الوضع على حاله.
وهكذا.. بدون مشروع حلّ أو تسوية يجري فرضها من جديد، وبتعاون إقليمي ـ دولي بين إسرائيل والوضع الفلسطيني ـ الرّسمي أو غير الرّسمي ـ لن يكون هناك ما يمكن الرّكون إليه على أنّه »الحل النّهائي« لمسألة الصّواريخ. وما يخسره الفلسطينيون اليوم في غزّة، لا يشكّل المقياس النّهائي لموضوعة تسليمهم أو استسلامهم للشروط الإسرائيليّة. فأيّ تسوية يمكنها أن تعقب الاجتياح البرّي؟.
إذا كانت العمليّة العسكريّة الجوّيّة قد بدأت من نقطة أعلى من استخدام القوّة التّدميريّة الهائلة، فإنّ عمليّة الاجتياح البرّي البطيء الجارية اليوم، ستكون هي نقطة الضّعف التي ستضعضع قوّة التّسوية التي تستهدف الوصول إليها الجهات الأمنيّة والسّياسيّة الإسرائيليّة، ذلك أنّها العمليّة التي لا يمكن ضمان نتائجها مسبقا. ولأنّ التّهدئة مرّة أخرى لن تكون كما المرة السّابقة بشروط غير واضحة، وبشكل من أشكال الهشاشة التي تحمّلها الطّرفان على أنّها الهدنة التي تحقّق لكل منهما جزءا من أهدافه ومطالبه التّكتيكيّة.
([) كاتب فلسطيني