إنها المحرقة وقد انقلبت الأدوار
راسم المدهون
هستيريا القتل الجماعي التي تنفث ريح الموت في شوارع قطاع غزة لم توفّر مكانا واحدا دون أن تطاله بآلاتها الجهنمية، المحمومة، والباحثة عن نصر ما ولو على أجساد الأبرياء من المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ الذين يأتيهم القتل وهم في بيوتهم، أو أمام الأفران القليلة التي يمكن أن تكون لا تزال تخبز شيئا في عصف الحرب الدائرة هناك.
من تابع تفاصيل ما جرى في القطاع الصغير المنكوب خلال الأيام الماضية على شاشات الفضائيات، يلحظ بسهولة أن تلك المذابح الجماعية قد تجاوزت التسمية المألوفة، وصعدت منذ اليوم الأول إلى مصاف المحرقة: هنا آلة قتل عسكرية حديثة تأتي من الجو والبحر والبر كي تحصد أرواح المواطنين المدنيين دون تمييز أو مراعاة لأبسط القوانين والأعراف الدولية. ليس من دون معنى أن معظم تلك المذابح الجماعية كان ضحاياها عائلات بأكملها.. عائلات سقط منها العشرة أشخاص أو الخمسة عشر شخصا معا ، وندر أن أفلت واحد كان بالمصادفة البحتة خارج المكان.
في كل المواجهات مع وسائل الإعلام العربية والعالمية كان الناطقون بلسان الجيش الإسرائيلي يصرّون على تفسير واحد لا يتغير: لقد ضربنا تلك الأماكن لأن المقاتلين تعمّدوا إطلاق صواريخهم وقذائفهم من بين المدنيين!.
مع ذلك يقول موظفو وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” أن ذلك ليس صحيحا على الإطلاق، وهم يزيدون على تأكيدهم بأنهم أبلغوا السلطات الإسرائيلية مسبقا بأماكن مدارس ومقرّات عمل المنظمة الدولية، ناهيك عن أن السلطات الإسرائيلية تعرف مسبقا تلك الأماكن والتي ترفع فوق ذلك أعلام الأمم المتحدة المعروفة للجميع.
من نجوا من تلك المذابح الجماعية يدحضون بدورهم إدعاءات الناطقين بلسان الجيش الإسرائيلي . هم يتساءلون بمرارة: كيف يمكن للمواطنين العاديين أن يظلّوا في مكان يستخدمه مقاتلون لإطلاق القذائف؟
من الواضح في سياق كهذا أن المسألة برمتها تقع في إستراتيجية جديدة بدأها الجيش الإسرائيلي صيف العام 2..6 في الأراضي اللبنانية. ففي مقابل معاركه التقليدية مع الجيوش النظامية، والتي يضمن خلالها النصر بسرعة وبتكلفة قليلة، يرى خبراء السياسة والجيش أن مواجهاتهم مع المقاتلين الشعبيين أشد صعوبة، وأكثر كلفة وأقل في نتائجها لذلك هم يلجأون إلى الضغط على التنظيمات الفلسطينية من خلال الضغط على خاصرتها الأضعف وهي هنا المواطنين العزل، والذين يمكن لسلسلة من المذابح الجماعية بحقهم أن تؤدي إلى إضعاف هيبة الفصائل المسلّحة وإجبارها على تقديم التنازلات.
هذا القتل بالجملة ترافقه خطوات أخرى بالغة الخطورة لعلّ أهمّها تقطيع أوصال القطاع الصغير وتقسيمه إلى ثلاث مناطق معزولة عن بعضها بعضاً: ذلك يعني عملياً استحالة وصول إمدادات الإغاثة والإمدادات الطبية. ومن يعرف قطاع غزة يعرف أن الحديث عن مستشفيات هناك هو حديث مجازي، فكل المستشفيات العاملة في القطاع محدودة القدرة على الاستيعاب مثلما هي محدودة الإمكانيات. نستثني من ذلك بالتأكيد “مستشفى دار الشفاء” الكبير والمجهّز بالمعدّات الطبية الحديثة، ولكنه استثناء لا يلغي أن هذا المستشفى أيضا يعاني اليوم من نقص فادح في كل احتياجاته بما في ذلك الدم والأدوية اللازمة للعدد الهائل وغير المسبوق من الجرحى الذي يفوق الطاقة الفعلية له في الأيام العادية، وحتى في حالات الطوارئ.
منذ اليومين الأول والثاني للمذبحة الجديدة أطلق الدكتور معاوية حسنين المسؤول عن الإسعاف في وزارة الصحة الفلسطينية تصريحات متكرّرة عن الحالة البائسة التي تعيشها مستشفيات القطاع، وناشد المنظمات الدولية ذات العلاقة سرعة التحرّك للضغط على الحكومة الإسرائيلية من أجل وقف المذابح فورا والتوقف عن قصف القطاع المنكوب، دون أن تلاقي نداءاته صدى يذكر في المحافل التي تهيمن عليها سياسة الإنحياز المسبق لإسرائيل.
والمسالة بعد ذلك كله تدخل في تعقيدات مضاعفة حين نعرف أن قوات الجيش الإسرائيلي وطائراته خصوصا الطائرات المروحية تتعمّد قصف سيارات الإسعاف وإطلاق رصاصها وقذائفها على المسعفين وتمنعهم من تقديم الإسعاف للجرحى كي يظلوا في أماكن إصابتهم ينزفون حتى الموت، وهي وقائع تكرّرت عشرات المرّات وكان من نتائجها المباشرة سقوط عدد من الأطباء والممرّضين والمسعفين شهداء وجرحى خلال تأديتهم لواجبهم الطبي الإسعافي في غير موقع من قطاع غزة.
[
في كل مرافعاتهم السياسية عن تاريخهم الدموي في فلسطين يذهب الإسرائيليون إلى “المحرقة” النازية ضد اليهود في سنوات الحرب العالمية الثانية باعتبارها تبريرا “أخلاقيا” من وجهة نظرهم يمنحهم الحق في إقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين. مع ذلك يلاحظ كل ذي عين كيف تعيد المحرقة القديمة ذاتها ووقائعها على أيدي اليهود أنفسهم، ولكن بسادية أعلى وأشد غطرسة تجعلنا نقرأ ملامح عصاب لافت يمارسه حتى القادة والسياسيون الكبار، وبالذات في تلك الوقائع الدموية التي تفتقد في أغلب الأحيان إلى مجرد سبب مقنع يمكن أن يبرر القتل، أو حتى يفسّره للعالم الخارجي، في حين تأخذ المؤسسة العسكرية على عاتقها موضوع الجبهة الداخلية فتمارس أوسع عملية تضليل إزاء الخسائر في صفوف جيشها من جهة، وإزاء نوعية الأهداف التي تقصفها الطائرات من جهة أخرى كي يتواصل هناك الحديث المكرور والممل عن الجيش النظيف ذي الأيدي النظيفة.
حدث ذلك في قانا لمرتين، مثلما حدث في “بحر البقر” و”أبو زعبل” وغيرها وغيرها من المواقع التي اعتاد الناطقون بلسان الجيش الإسرائيلي أن يخرجوا منها أبرياء أنقياء الأيدي لأن الحق كان دائما على أولئك الضحايا.
ومن هذه اللحظة وحتى تهدأ المعارك ويمكن للفلسطينيين أن يتوجهوا للمحاكم الدولية ومحافل حقوق الإنسان ستواصل الآلة السياسية والإعلامية في إسرائيل النفخ في أسطورة الصواريخ الفلسطينية كي تظل الذريعة والمنقذ الذي يمكنه تفسير كل ما وقع على أساس الدفاع عن النفس، وهي ذريعة يراد لها مواصلة الحديث عن “توازن” ما بين الطرفين المتقاتلين على أرض المعركة، الفلسطيني والإسرائيلي رغم الفارق الخرافي في الوسائل والإمكانات التي يمتلكها كل طرف، والتي تجعل المسألة برمتها حربا من طرف واحد مدجج بالأسلحة الحديثة.
هي إذن محرقة القرن الحادي والعشرين وإن اختلفت الأدوار.
[ 3
بين كل تفاصيل المذبحة وفصولها ليس أكثر مدعاة للقلق من تلك الدعوات المحمومة التي لا يكل البعض عن توجيهها للفلسطينيين كي يواصلوا القتال وكي يرفضوا أي توقف لإطلاق النار حتى تحقيق النصر!!
أولئك الدعاة يجلسون بالتأكيد في بيوتهم البعيدة عن موقع المحرقة، ويمنحون أنفسهم حق توجيه المعارك وفق رغباتهم وأيديولوجياتهم. لن أنسى ما حييت وجه وكلمات ذلك المتحمّس الذي أطل من شاشة إحدى الفضائيات صارخا مطالبا الفلسطينيين بالتضحية حتى لو سقط مائة الف شهيد لأن النصر بحسب رؤيته “صبر ساعة”.
يبدو أن البعض (ونحن نتحدث هنا عن أصحاب النوايا الطيبة وحسب) يعتقدون أن المسألة برمتها ذات علاقة فقط ب”ثقافة المقاومة” وإرادة المقاومة، ولم يعرفوا مطلقا شروط المقاومة ولا توقيتها المناسب وموازين القوى العسكرية والسياسية والجغرافية التي تتحكم فيها سلبا أو إيجابا.
هؤلاء يشكلون اليوم نسبة وافرة من المواطنين العرب الذين لا يمتلكون وعيا حقيقيا ودراية كافية فيندفعون وراء دعواتهم للفلسطينيين برفض أية فكرة لوقف المذبحة.
طوبى للذين فاضت أرواحهم في بيوتهم التي أثقلها العوز والجوع.
طوبى للذين حملوا أسلحتهم الخفيفة وواجهوا آلة الموت والقتل الإسرائيلية الحديثة.