«الزنّانة» الإسرائيلية و«الزنّانون» العرب
محمد صلاح
يطلق الفلسطينيون اسم «الزنانة» على الطائرة الإسرائيلية التي تطير من دون طيار من طراز «سيرتشر» والتي انتجتها الصناعات الجوية الإسرائيلية وتعد من أكفأ الطائرات وأكثرها تطوراً. ودائماً ما نسمع «زن» الطائرة على خلفية أصوات مراسلي الفضائيات حين يتحدثون على الهواء مباشرة من مواقعهم في غزة. وهم أيضاً يتحدثون دائماً عنها، وحين يلتقون أهالي غزة ويسألونهم عن الأوضاع هناك فإن الحديث عن «الزنانة» لا بد أن يفرض نفسه لأن صوتها يكون مسموعاً وأفعالها تكون شاهدة على واحدة من المجازر الإسرائيلية.
قامت فكرة الطائرة على معالجة قصور الرادارات في اكتشاف الأهداف التي تحلق على ارتفاع منخفض، إذ حملت «الزنانة» رادارات على سطحها لاكتشاف الأهداف المنخفضة ونقل المعلومات إلى مركز للتحكم حيث يتم تجميعها واتخاذ القرارات في ضوئها، والجالسون في المركز نفسه لديهم القدرة على توجيه الطائرة وتصويب الصواريخ التي تحملها من خلال إرسال ذبذبات كهرومغناطيسية إلى الأهداف الثابتة أو المتحركة لتقوم الحواسيب الالكترونية بتحليل المعلومات والصور المنقولة عبر كاميرات المراقبة الموجودة على سطح الطائرة. وحين ترصد «الزنانة» ناشطاً فلسطينياً وترسل معلومات عن مكانه إلى مركز المراقبة والتحكم الذي يرد عليها ويعطيها الأمر بقصفه وقتله، يكون العرب في الوقت نفسه «يزنون» أيضاً ولكن على طريقتهم الخاصة. يكون «زنهم» عادة ملأ الدنيا ولكن الفارق بين زنهم وزن «الزنانة» الإسرائيلية أن زنهم بلا هدف أو فائدة، ما رسخ الانطباعات السيئة عنهم لدى العالم، وفي الوقت نفسه وسع مساحات الشقاق والانشقاق بينهم. أما «الزنانة» فإنها تحقق الهدف الذي «تزن» من أجله، فتزيد من رغبتنا في «الزن» غير المجدي. يستخدم العرب أحدث تكنولوجيا «الزن» من ميكروفونات وكابلات وأجهزة صوتية وبصرية وكاميرات سلكية ولاسلكية وأقمار اصطناعية وأطباق لاقطة مقعرة ومحدبة ومسطحة بكل الاحجام والمقاسات، من دون أن يصيبوا إسرائيلياً أو يعدوا هجوماً عسكرياً أو حتى سياسياً. وحدها المقاومة تفعل ذلك بعيداً عن الضجيج و «الزن» وتكنولوجيا الإعلام وبإمكانات ضعيفة بسيطة محدودة، فتوفر لـ «الزنانين» العرب قدرات إضافية تمكنهم من أن يزيدوا من «زنهم» إلى درجة لا يمكن لأي «زنة» أخرى أن تجاريهم فيها.
تنشط «الزنانة» وتعمل بأقصى كفاءة و «تزن» لأطول فترة إذا رصدت هدفاً أو نوت اغتيال ناشط أو هدم منزل أو نقل معلومات عن هدف إلى مركز المراقبة والتحكم، وهي لا تكل ولا تمل في أداء مهمتها ولا تتعب من أي «زن»، أما نحن فننشط كلما حلت بنا كارثة أو مصيبة ويزداد «زننا» من دون أن ندري أن «الزن» من غير سبب لا يعكس سوى قلة الحيلة وكثرة الشطط حتى أن العالم صم آذانه عنا وعن «زننا»، وكلما أنجزت «الزنانة» مهمة أوكلت لها تبدأ في «الزن» من جديد لأن مهماتها عادة لا تتوقف، أما نحن «فنزن» أيضاً من دون أن نؤدي أي مهمة أو نحقق أي إنجاز وكأن «الزن» في حد ذاته أصبح مهمتنا.
«الزن» العربي لم يبدأ بعد اختراع «الزنانة» الإسرائيلية وإنما قبلها بكثير. وخلال الكارثة الأخيرة ومع زيادة نشاط «الزنانة» الإسرائيلية زاد «زننا» مع كل طلقة دبابة، وصاروخ من طائرة، أو قنبلة موجهة من بارجة، ومع كل طفل يستشهد، وامرأة تخرج احشاؤها، ومسن ينهار منزله فوق رأسه، ومع كل تصريح أو مبادرة ومع كل تظاهرة احتجاجية، أو وقفة تضامنية، كان «الزن» العربي حاضراً وبكثافة.
كان طبيعياً أن تستمر «الزنانة الإسرائيلية» في التحليق و «الزن» والضرب حتى بعد صدور قرار مجلس الأمن الأخير توافقا مع الرؤية الإسرائيلية التي عبرت عنها الوزيرة تسيبب ليفني بأن القرار غير ملزم وبالتالي فإن «الزنانة» لم تلتزم به، ورغم أننا سعينا إلى القرار الدولي وبغض النظر عن مشروع القرار العربي، الذي كان العرب يتمنون أن يكون عربياً حتى لو ادخلت عليه تعديلات غربية وتحول إلى قرار غربي بتعديلات عربية، فإننا لم نتوقف عن «الزن» حول القرار وبنوده وردة الفعل حوله والدول التي تآمرت والدول التي صمدت وبقينا «نزن» حتى أصابنا الصم ولم نعد نسمع «الزنانة الاسرائيلية» وهي تحلق فوق غزة لترصد وتنقل المعلومات ثم تستقبل الأوامر ثم تصوب وتقتل.
الحياة