حوار في المبادئ (على هامش الحوار حول الحرب في غزة مع د.كاظم حبيب)
1
سلامة كيلة
رغم أن الحوار مع د.كاظم حبيب بدأ حول الحرب على غزة، إلا أنه طرح في رده عليّ العديد من القضايا التي يعني نقاشها نقاش “عقل” مرحلة من تاريخ الحركة الشيوعية العربية، وليس العراقية فقط. وبالتالي فنحن هنا إزاء موقف شخصي للدكتور حبيب لكنه في أطره العامة موقف حركة على امتداد تاريخ تجاوز النصف قرن. وهذه القضايا التي تتعلق بالرؤية العامة هي الأساس الذي أوصل إلى المواقف الراهنة، والتي كنا بصدد مناقشتها. ولهذا استوجب نقاشها قبل التطرق إلى الحرب على غزة، والموقف من الأصولية الإسلامية، ومن الصراع العربي الصهيوني.
ويمكن تأطير حدود هذا “العقل” في عدد من المسائل هي: رؤية معينة للماركسية، ولضرورة التطور الرأسمالي، ورؤية لمعنى الصراع والسياسة وموازين القوى. وبالتالي الموقف من فلسطين والدولة الصهيونية. وهي قضايا ومواقف ظلت تتكرر منذ أكثر من نصف قرن، رغم أن د. حبيب حاول إقناعي بأن الماركسية ليست نظرية جامدة، وأنها تقوم على التغير. ولهذا كان يجب أن نناقش هذه “المبادئ” قبل الدخول في السياسي المباشر.
حول الماركسية:
ينطلق د.حبيب من أنه لا يجوز لي أو له “احتكار فهم الماركسية”. طبعاً ليس في الماركسية أشخاص يمكن أن يحتكروها، وليست المسألة شخصية على الإطلاق. لكن أيضاً ليس كل من قال أنه ماركسي هو كذلك بالفعل. وهذا ما نبه إليه ماركس منذ زمن بعيد، حيث لا يجب أن نصدق ما يقوله الشخص عن ذاته، بل يجب أن نرى ما هو في الواقع. وهنا تتحدد الماركسية ليس انطلاقاً من الإدعاء الذاتي (لي قبل غيري) بل من مدى وعيها للواقع، ووعيها لآليات تغييره. فهي رؤية من أجل أن يستطيع البشر (وهنا الطبقة العاملة) وعي واقعهم والتحكم في صيرورته انطلاقاً من هذا الوعي. لهذا يكون المقياس مزدوجاً: المنهجية التي طرحتها الماركسية، أي الجدل المادي من جهة، ووعي الواقع من جهة ثانية.
بمعنى أن التحديد هنا ليس ذاتياً ولا شخصياً، بل أن الرؤية الماركسية للواقع هي الأساس. وهنا يكون الاختلاف والخلاف، حيث يمكن أن تكون الرؤية ماركسية أو غير ماركسية. وهذا يمس وعي الماركسية ذاتها، والمقدرة على الانطلاق من منهجيتها في وعي الواقع. وبالتالي فليس نقاشي هنا من أجل أن “أنزع الشرعية الماركسية” عن د.حبيب أو عن غيره، فهذا ليس من حقي، لكن من أجل توضيح الرؤية الأسلم للواقع الراهن في إطار الصراع الفكري من أجل تحديد السياسة المطابقة للواقع التي يجب أن تحكم الحركة الماركسية.
في هذا الوضع يمكن أن أقول بأن هذا الموقف ماركسي أو غير ماركسي، وهذه السياسة ماركسية أو غير ماركسية. لكن عبر التحليل والبحث وليس عبر أي شيء آخر كما يجري لدى البعض الذي لا يستطيع إلا أن يتعامل بالأحكام المطلقة، وبالتالي بالشتائم، وبتحويل السياسة والفكر إلى شتائم، استمراراً لـ “الدوغما” التي كانت تحكمه وهو شيوعي، حيث كان يكيل الشتائم لكل ناقد للاتحاد السوفيتي. وبالتالي استمراراً لـ “العقل” (أو اللاعقل) الذي كان يحكمه.
إذن، ما من شك في أن هناك صراع حول “ماركسية” السياسات والمواقف، بغض النظر عن إدعاء أي منا بالماركسية. وهذا الصراع هو الذي يؤسس التيارات المتناقضة في الماركسية، والذي يجعل حزباً ماركسياً ينهزم وآخر ينتصر. فلا ننسى بأن الرفيق فهد عنون دراسة له بـ “حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية”. وهذه التمييزات ليست من الماضي، ولن تكون كذلك، لأن الماركسية تخضع للتناقضات الطبقية، وبالتالي يميل البعض من الفئات الوسطى إلى تطويعها لمصالح هذه الفئات، أو حتى لمصلحة الرأسمالية. كما يكون عدم التعمق بالماركسية سبباً في أخطاء معرفية، أحياناً قاتلة. وأظن بأن الحركة الشيوعية العربية عانت من كل ذلك نتيجة ليس الاضطلاع المحدود على الماركسية بل في كثير من الأحيان عدم الاضطلاع على الإطلاق، أو الاضطلاع عبر الكراريس السوفيتية التي كانت قد أصبحت تعبّر عن مصالح نخبة حاكمة هناك، وعن سياساتها الدولية.
طبعاً “الماركسية ليست نظرية جامدة وقوالب ثابتة ومفاهيم غير متحركة وقيم غير متطورة، بل منهج علمي مادي ديالكتيكي للتحليل والاستنتاج والعمل من أجل التغيير”. لكن هناك ما هو ثابت فيها وإلا أصبحت فوضى. وهنا يجب أن ننطلق من مسألة النسبي والمطلق كما يطرحه الجدل المادي، حيث ستبدو منهجيتها ثابتة، وكذلك بعض القوانين فيها (رغم الاختلاف حول ماهية هذه القوانين). لهذا تكون المنهجية هي المرجع. والمنهجية هنا هي القوانين العامة للحركة “العقل”، التي تكون مدخلاً لوعي الواقع بما هو صيرورة، وبالتالي متغير.
لهذا حينما نتحدث عن التغير ننطلق من داخل المنظومة الماركسية، وإلا انتقلنا إلى شط آخر. في هذا الوضع يتمظهر فهم الماركسية بطبيعة تحليل الواقع، الذي هو المتغير، ومن ثم في الوصول إلى استنتاجات جديدة. لكن هنا يجب أن ننبه إلى أن في الواقع هناك مشكلات (قضايا) وهذه لا تنتهي إلا بحلها، وهناك أشكال متغيرة، وبالتالي تستلزم تطوير الرؤى. وعادة ما يجري الخلط بين هذه وتلك، لتتغير المشكلات رغم أنها لازالت قائمة، ويبقى التحليل ذاته دون تغيير.
أشير إلى ذلك لأن د.حبيب كرر في رده مواقف ورؤى أقرأ عنها وأتابعها، وأنقدها، منذ زمن بعيد. فهو لازال ينطلق كما كانت الحركة الشيوعية تنطلق منذ نهاية ثلاثينات القرن العشرين، من أن المرحلة تقتضي إقامة “العلاقات الإنتاجية الرأسمالية”. ألم تتطور العلاقات طيلة هذه العقود الستين من العلاقات الإقطاعية أو شبه الإقطاعية إلى الرأسمالية لكي نستمر في طرح الموقف ذاته؟ وهل كان هذا الموقف صحيحاً حتى وقتذاك؟ ثم الموقف من القضية الفلسطينية والاعتراف بالدولة الصهيونية، ألم نتلمس ما هو جديد في ممكنات ما كان يطرح؟ وكذلك النضال السلمي. طيب إذا كانت المدرسة الستالينية واللينينية قد سقطت، وهي التي كانت تحكم “عقل” الحركة الشيوعية، فلماذا لم تسقط السياسات التي إنبنت عليها؟ ألم تنحكم هذه الحركة لـ “الماركسية” التي كان يعممها السوفيت، وتربى الكادر في المدارس الحزبية السوفيتية؟ إذن، ماذا سقط إذا كانت المواقف هي هي؟ إن الوصول إلى نتيجة أن الوعي الذي كان يحكمني هو خاطئ، تكون السياسات التي إنبنت عليه خاطئة كذلك. أليست هذه بديهيات المنطق البسيط؟ لقد سقطت “الماركسية السوفيتية”، هذا مؤكد، لكن لم تسقط السياسات التي إنبنت عليها، لأن “العقل” لم يتغير. أي لأن المنطق الصوري هو الذي ظل يحكم العقل، آنئذ والآن.
بمعنى أنني أرى بأن القول بأن الماركسية ليست نظرية جامدة لا معنى له في التحليل وفهم الوقائع، وبالتالي فإن تكرار تعبير المنهج العلمي الديالكتيكي لا يعني استخدامه. بل أشير هنا إلى أن استخدام هذا التعبير كان المدخل لطيف واسع من الشيوعيين لتجاوز الماركسية كلها. حيث عنى ذلك أن ليس في الماركسية ما هو ثابت، وبالتالي سقط مفهوم الصراع الطبقي، وباتت الاشتراكية في خبر كان، وأصبح التكيف مع الرأسمالية الراهنة (القائمة بالفعل) موضة محببة.
هنا أعود إلى الذي سقط. هل الستالينية واللينينية هما واحد؟ هذا ما كانت “الماركسية السوفيتية” تكرره، وترسخ في الوعي الشيوعي في الوطن العربي. ولأن الاضطلاع على لينين كان مقنناً إن لم يكن معدوماً فقد ظل الربط قائماً بين هذا وذاك، ولدى آخرين ظل الربط قائماً بين هذين وماركس ذاته، لهذا أسقطوا الماركسية كلها. وهذا يشير إلى سوء فهم عميق للصيرورة الماركسية وللماركسية ذاتها. سوء فهم لكتابات ستالين ولينين وماركس كذلك. فماذا تعني الستالينية؟ وماذا تعني اللينينية؟ وما الماركسية بالأساس؟ أسئلة ربما تحتاج إلى وقت آخر، لكن أوضح بأن هذا الربط هو إسقاط للينين بالتحديد لمصلحة الرؤية التي حكمت الأممية الثانية، ومنها المناشفة. حيث أن جوهر الخلاف حول التطور كان بين هؤلاء. أما ستالين “اللينيني” فقد قفز عن لينين إلى بليخانوف والأممية الثانية بعد أن أصبح هو السلطة. وهذا ما سوف أتناوله في الفقرة التي تتعلق بالتطور الرأسمالي كما يطرحها د. حبيب، ليتوضح بأن ما يكرره هو الستالينية مكتملة. دون أن يُفهم هنا أنني أتهم، بل أربط سياقات الأفكار. فالستالينية بالنسبة لي ليست تهمة.
حين ننطلق من الجدل المادي إذن، ونحن نحلل الواقع القائم الآن، سوف نصل إلى استنتاجات أخرى تتجاوز كل هذه المواقف والسياسات. وهذا ما سوف يتوضح في مناقشتي للمسائل المطروحة، والتي قلت أن نقاشها هو نقاش لـ “عقل” الحركة الشيوعية. لأن ما يحكم منطق هذه الحركة، كان ولازال، وحتى لدى المتلبرلين منها، هو المنطق الصوري وليس الجدل المادي. وأيضاً في أسوأ صيغه، حيث “حفظوا” بعض شذرات “الماركسية السوفيتية” عن المراحل الخمس، وتكيفوا مع السياسة السوفيتية بصفتها هي النظرية الماركسية. وسوف ألمس ذلك حينما أشير إلى القضية الفلسطينية وقرار التقسيم، مع الإشارة إلى أن د. حبيب قد شرحه وهو يوضح موقف الرفيق فهد، الذي أُصرّ على أنه رفض القرار وظل مصراً على ذلك كما توضح رسالته من سجنه (يمكن العودة إلى، سالم عبيد النعمان “الحزب الشيوعي العراقي بقيادة فهد” دار المدى 2007، ص 251) ولم يوافق عليه، رغم أنه تفهم موقف الاتحاد السوفيتي.
وبما أنني أشرت إلى “العقل” الذي حكم الحركة الشيوعية ربما كان من الضروري الإجابة على التساؤل الذي طرحه د.حبيب حول “الذي تهشم حقاً في العالم العربي؟”، حيث يؤكد بأن الماركسية كمنهج علمي مادي جدلي لم تتهشم”، وهو محق هنا، لأن أحداً لم يمتلك المقدرة الفكرية على فعل ذلك، لا في الوطن العربي ولا في العالم. لكن تكملة الإجابة التي قدمها تطرح موضوعاً آخر، حيث يشير إلى أن “الذي تهشم هو سياسات القوى القومية اليمينية ونظمها السياسية الاستبدادية القمعية والشوفينية”. طيب وسياسات الحركة الشيوعية؟ ألم تشارك هذه النظم السلطة، وبالتالي تتحمل وزرها؟ ألم يكن صدام حسين هو “كاسترو العرب”، أو “لينين البعث”؟ لست أنا من حاول إقناع الجماهير بذلك بل الحزب الشيوعي العراقي. ألا يتحمل كل ما جرى؟ و كذلك ألا يشير ذلك إلى خطل سياساته؟ ألم يعلن جهاراً نهاراً أنه سيحقق الاشتراكية والبعث معاً؟ ثم ألا يستحق هذا الموقف نظرة متأنية، ليس لتناول التحالف بل بدراسة فهم الحزب الشيوعي للاشتراكية. هل تبني البرجوازية الصغيرة الاشتراكية؟ هل أن “اشتراكيتها” هي اشتراكية بالمعنى العلمي، أو تعبير عن شكل لتطور رأسمالي كما شرح ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي، وكما جرى في الواقع؟
هذه الأسئلة هي مقدمة لطرح طبيعة فهم الحركة الشيوعية لـ طبيعة المرحلة”، هل هي رأسمالية أو اشتراكية؟ حيث أن الإشارة إلى تهشيم القوى القومية (ولقد حدث بالفعل) يخفي مسألة أعوص، تتعلق بسياسة الحركة الشيوعية ذاتها، ولماذا وصلت القوى تلك إلى السلطة، قبل أن نبدأ في “تهشيمها”؟ هل كانت سياسة الحركة الشيوعية صحيحة؟
يشير د. حبيب إلى أن الحركة الشيوعية في الدول العربية، التي تعرضت إلى “هزة شديدة”، “بدأت تعيد النظر في الفكر والسياسة وتراجع تاريخها وتطرح شعارات أكثر عقلانية وواقعية وملموسية”. إذن، لم تكن سياساتها عقلانية وواقعية. لكن لماذا، بالتالي، العودة إلى تكرار سياساتها؟ هذا يقودنا إلى فهمها للواقع ودورها فيه. وهنا أناقش رأي د. حبيب.ا
الجزء الثاني
الاشتراكية أم طريق التطور الرأسمالي؟
هنا مربط الفرس. حيث نعود إلى الذي سقط. فالذي سقط هو “شعارات بناء الاشتراكية في مجتمع لايزال يعيش في مرحلة الإنتاج الأبوي أو العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية”. من دعا إلى بناء الاشتراكية؟ الحركة الشيوعية؟ متى؟ فقط بعد أن سيطرت القوى القومية على السلطة وقررت هي التحالف معها تيمناً بالرفيق كاسترو. هل طرح الحزب الشيوعي العراقي سنة 1958 تحقيق الاشتراكية أم دعا إلى ثورة وطنية؟ لقد طرح الثورة الوطنية بقيادة البرجوازية (وهذا هو خط الحركة الشيوعية كلها)، وحين ارتأى سلام عادل تحويلها إلى ثورة وطنية ديمقراطية عبر استلام السلطة أعطي “درس في الماركسية” لأن المرحلة تقتضي الانتقال إلى الرأسمالية. وأين وصلت الأمور؟ إلى استلام حزب البعث “الاشتراكي” السلطة. ومن ثم التوهم من قبل الشيوعيين (فيما عدا قلة اعتبروا بأن هذا التطور هو تطور رأسمالي) بأن الاشتراكية تتحقق. هذه “الاشتراكية” سقطت لأنها لم تكن اشتراكية، بل صيغة للتطور الرأسمالي في ظل الهيمنة العالمية للنمط الرأسمالي. حيث حمل البعث أفكار الاشتراكية التي تعبّر عن فئات وسطى، تعني المساواة في التملك وليس إلغاء الملكية، كما تعني دور الدولة الاقتصادي، وليس دورها في ظل مجتمع دون ملكية خاصة.
لكن سوء الفهم هذا لمعنى الاشتراكية يقود كما نرى إلى نقد شكلي، حيث لم يجرِ تحقيق الاشتراكية لكي تسقط، بل جرى باسم الاشتراكية تحقيق شكل من أشكال التطور الرأسمالي. وبهذا فالحزب الشيوعي كان يتمسك بطريق التطور الرأسمالي قبل استلام البعث، وظل كذلك بعد مشاركته السلطة رغم الأوهام حول الاشتراكية التي كان يكررها مع البعث. هنا الكلمات اختلفت، التعبيرات تغيرت، لكن ظل التطور الرأسمالي هو المطروح. رغم أنني لست ممن يقول بضرورة الاشتراكية الآن. وهذا ما سوف يتوضح تالياً. أقول ذلك خشية التسرع في إصدار الأحكام وتحميلي ما لن أقوله.
السؤال الذي يطرح هنا هو لماذا كان الحزب الشيوعي يرفض استلام السلطة رغم مقدرته على ذلك، أكثر من البعث مائة مرة؟
لأنه لم يكن يريد القفز على المراحل، كما يكرر د. حبيب هنا، فـ “الاشتراكية، كما في تحليلات ورؤية ماركس، مرحلة لاحقة للمرحلة الرأسمالية، وعلاقات الإنتاج الرأسمالية المتقدمة هي القاعدة المادية التي تزيل علاقات الإنتاج الإقطاعية أو شبه الإقطاعية، وتوفر مستلزمات التحول صوب الاشتراكية”. لهذا يجب “النضال العقلاني لتغير وبناء المجتمعات الوطنية والديمقراطية من جانب القوى اليسارية الماركسية”، في أفق “الديمقراطية والتحرر من الهيمنة الأجنبية الاستعمارية، وإقامة العلاقات الإنتاجية الرأسمالية على أنقاض العلاقات شبه الإقطاعية”.
في النقاش حول هذه المسألة هناك مستويان، الماضي حيث كانت المجتمعات كما يشير د. حبيب، والراهن حيث من المفترض –كونه ينطلق من أن الماركسية تلحظ التغير- أن يكون الوضع قد اختلف، خصوصاً وأن البعث قد حقق الإصلاح الزراعي، والتطور العالمي أنهى “العلاقات الإقطاعية أو شبه الإقطاعية”. حيث أن الواقع الجديد فرض تعميم العلاقات الرأسمالية، ولم يعد هناك ذكر لها، ربما حتى في أقاصي الأرض. وهو الأمر الذي يفرض تجاوز ما كان يتكرر قبل أكثر من نصف قرن، وطرح بديل جديد يفرضه الواقع الراهن. لأن الاستمرار في طرح الطريق الرأسمالي والرأسمالية هي المهيمنة يعني التكيف مع سيطرتها، والتحول إلى جناح “ربما يساري” لها. وبالتالي إبداء الملاحظات ولعب دور استشاري لا غير. وهذا ما كانت تلعبه الحركة الشيوعية مع “البرجوازية الوطنية” لكي تصل هي إلى السلطة بدعم من الأحزاب الشيوعية، ثم مع نظام البعث. والآن مع أسوأ النظم المافياوية والكومبرادورية.
هذا هو الأساس الذي كيّف قطاع كبير مع الشيوعيين مع الخطاب الليبرالي، وحتى الإمبريالي. وسوف يتوضح ما أقصد في التالي. لكن المشكلة كانت في الأساس، حيث جرى تبني هذه الصيغة التي يوردها د. حبيب كمسلمة، أي الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية قبل التفكير في الاشتراكية. لكن من ألزم التاريخ لأن يسير وفق هذه المسلمة؟ هل هي “رؤيا” ماركسية مقدسة؟ وهل هي رؤية ماركسية أصلاً؟
إذا كنا ننطلق من التحليل الملموس للواقع الملموس، أي من الجدل المادي، سوف تلقى هذه الفكرة في سلة المهملات، لأن لا خطية في التاريخ، ولا جبرية، وإلا أعدنا الماركسية إلى ما قبلها، حيث الفكرة هي التي تسيّر الواقع. إن هذا الإلزام يلغي، بالتالي، النظر إلى الواقع الملموس ذاته، ويجعلنا نسيّر التاريخ كما نشاء. هذه هي النظرة المثالية للتاريخ. وسنلمس أنه حتى ماركس كان يطرح ما يتجاوزها حينما لمس بأن البرجوازية الألمانية عاجزة ومترددة ومتداخلة مع الإقطاع، فنادى بـ “الجمهورية الحمراء” ضد الإقطاع وليس بعد انتصار العلاقات الرأسمالية. ثم تطورت الرأسمالية الألمانية بعد إذ. بمعنى أن المسألة تتقوم في هل من برجوازية معنية بتحقيق التطور أو لا؟ هنا يأتي التحليل الملموس للواقع الملموس.
إذن، من حيث المنهجية الماركسية هذه نظرة مثالية، جبرية. حيث يجب أن نحقق التطور الرأسمالي. لكن إذا لم تنوجد برجوازية تفعل ذلك ماذا نفعل نحن؟ ثم أن كل القرن العشرين أثبت أن برجوازيات الأمم التي لم تترسمل لم تعتقد بأن من مهمتها تحقيق ذلك، سوى في إطار علاقة تبعية مع المراكز الرأسمالية. أي أنها عممت العلاقات دون قوى الإنتاج التي هي الصناعة. فحين الحديث عن الرأسمالية يجب لحظ أن المسألة تتعلق ببناء الصناعة وتطوير المجتمع على أساسها. على العكس من ذلك فإن كل التطور الصناعي تحقق في ظل “نظم اشتراكية”. هذه هي خلاصة تجربة القرن العشرين. ولو دقق د. حبيب في هذه التجربة لوجد أن كل الأحزاب الشيوعية التي اتبعت السوفيت قد فشلت، وأن التطور (بغض النظر عما إذا كان اشتراكياً أم لا، فهذه مسألة أخرى يمكن نقاشها لاحقاً) تحقق من أحزاب شيوعية قررت أن تحقق هي الثورة الديمقراطية. روسيا باتت دولة صناعية حديثة، والصين كذلك، وحتى الدول الأصغر. وفي البلدان التي لم يلعب الشيوعيون فيها هذا الدور نشأت “حركات التحرر”، أو “الحركات القومية” التي عملت على تحقيق تقدم ما، لكن طبيعتها الطبقية جعلت فئات منها تغلّب المصلحة الخاصة على عملية التطور ذاتها، ففشلت.
هذه المسألة تطرح السؤال حول الأسباب التي جعلت التطور الرأسمالي غير ممكن، وفرضت أشكال أخرى للتطور. هنا يكون مطلوباً فهم الواقع الموضوعي المتحرك المتغير، وليس التمسك بفكرة قيلت نهاية القرن التاسع عشر. والفارق بين نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين كبير، حيث في هذا المفصل اكتمل تشكل النمط الرأسمالي، واتخذ طابعه العالمي، وبالتالي فرض آلياته على كل العالم. لهذا بعد اليابان لم تنتقل أية دولة إلى الرأسمالية (سوى النمور، وبدعم رأسمالي وليس في تناقض مع ذلك، ولهذا أسباب جيوسياسية أخرى غير القوانين الموضوعية للرأسمالية). فالصين، ذاك السوق الكبير، لم تتطور رأسمالياً رغم سيطرة “البرجوازية” على الحكم. ولو قامت هذه البرجوازية بتحقيق الإصلاح الزراعي لفشل ماو تسي تونغ حتماً. والبرازيل دولة “رأسمالية” عاجزة.
بمعنى أن وضع العالم زمن ماركس وما بعده بقليل هو غير الزمن منذ بداية القرن العشرين, وهنا كانت أهمية لينين الذي ارتأى بأن مهمة الماركسيين، والطبقة العاملة، باتت هي تحقيق المهمات الديمقراطية (وليس الاشتراكية). أي أن يصبحوا هم السلطة من أجل أن تتحقق هذه المهمات، لأم البرجوازية عاجزة ومترددة وجبانة. وبالتالي بات حقل الفكرة الأولى حول التطور الرأسمالي هو ذاك المتصل بالماضي. باتت فكرة من التراث وليست رؤية لواقع. فقد تجاوزها التحليل الماركسي لأن الواقع قد تجاوزها.
ما جعلها تتكرر عندنا هو أن ستالين أعادها من الموت، لأنه كان يربط التطور في العالم بدور الاتحاد السوفيتي وليس بالقوى الذاتية للشعوب (وهذا ما جعله يختلف مع ماو تسي تونغ). وبالتالي كانت المدخل لإخضاع سياسات الأحزاب الشيوعية لتكتيك الاتحاد السوفيتي. لقد تخلى عن لينين لمصلحة بليخانوف، ورسم سياسة منشفية تحت اسم البلشفة. وهنا يجب التركيز على إسقاط منطق ستالين ورؤيته، وليس التمسك به وطرد لينين. يجب إسقاط الفكرة الميتة التي كررها ستالين كمسخرة وليس شطب الفكرة اللينينية التي جاءت كتعبير عن وعي طبيعة العالم بداية القرن العشرين وتشكل الإمبريالية.
لماذا بات التطور الرأسمالي مستحيلاً؟ كنت أنتظر من د. حبيب أن يجيب، فهو مفكر في الاقتصاد، والمسألة تتعلق بالتكوين الاقتصادي للعالم. حيث أن فيض الإنتاج، الذي هو سمة جوهرية في الرأسمالية، كان يفرض الحاجة إلى الأسواق والمواد الأولية، لهذا كانت الرأسمالية، المتنافسة فيما بينها، وحيث كان هذا التنافس يفضي إلى الاحتكار، كانت تفرض عبر أسبقيتها وبالتالي تفوقها –العسكري والتقني، ثم المالي والاقتصادي- وقف انتشار التصنيع، وتحارب كل ميل لذلك. وتشكل الفئات التي تمتلك تراكماً مالياً في الأطراف في أطر مكملة: أي في التجارة والخدمات والمال فقط. وهذه لا تحقق تطوراً رأسمالياً. من هنا أجهضت إمكانية التطور الرأسمالي، لأنه لم يجد من يحمله.
وبالتالي رسمت إستراتيجية الحركة الشيوعية في الوطن العربي –وفي عديد من بلدان العالم- على أساس موهوم. هو التعلق بتطور رأسمالي بات مستحيلاً. وهو الأمر الذي كان يدفعها إلى التعلق بأي رأسمالي تجد أن لديه ميول وطنية، وعملت على تضخيم مفهوم “البرجوازية الوطنية”. وبنت تكتيكها على هذا الأساس، حيث أسست لـ “نضال مطلبي” في حدود ما هو قائم، من جهة، ولـ “نضال ديمقراطي” من أجل تأسيس جمهورية ديمقراطية برجوازية من جهة أخرى. وهي في كل ذلك أقامت كل رؤيتها على أن زمنها لم يحن بعد، فهذا هو زمن البرجوازية، كما يكرر د. حبيب اليوم. لهذا، ورغم أنها خاضت الصراع الطبقي، وأصبحت قوة عمالية وشعبية، لم تطرح على ذاتها بأن هذا الصراع الطبقي يجب أن يحسم لمصلحة هؤلاء، وإلا انفضوا، أو تحقق الحسم من طرف آخر. لم يكن دخول الجيش إلى السياسة صدفة إذن، بل جاء نتيجة أزمة مجتمعية لم يكن هناك من يفكر في حلها من القوى التي يجب أن تحلها: البرجوازية والعمال. ليفسح المجال للفئات الوسطى كي تؤسس سلطتها التي عشناها.
إذن، إن فكرة التطور الرأسمالي هي التي يجب أن تلفظ لأنها من الماضي السحيق. لقد طرحت في الماركسية قبل أن يكتمل بلور النمط الرأسمالي لكنها باتت خاطئة بعد ذلك. لكن أوضح هنا بأن برفض القفز على المراحل صحيح فقط فيما يتعلق بالمهمات الواقعية، أي في تحقيق المهمات التي تسمى “المهمات الديمقراطية”، التي هي مجمل المهمات التي تحققت مع الرأسمالية في أوروبا وأميركا واليابان. إنهاء الإقطاع وبناء الصناعة والوحدة القومية والحداثة والدمقرطة. والخاطئ هو التمسك بفكرة القفز فيما يتعلق بدور الطبقات، حيث باتت البرجوازيات المحلية متكيفة مع النمط الرأسمالي وتنشط ككومبرادور في إطاره، وبالتالي تتمسك بـ “أيديولوجيته” وسياساته، بما فيها الحفاظ على البنى المخلّفة والأيديولوجية التقليدية والاستبداد، والتفكك والطائفية.
هنا المهمات ظلت ثابتة، حيث أنها لا تزول إلا بتحققها، لكن آليات تحقيقها تغيرت مع تغير الواقع. وما من شك في أن التمسك بصيغة قديمة سوف يكرر فشل الحركة الشيوعية، ويبقى الوطن العربي عرضة لأزمات متتالية.
لهذا ليست الرأسمالية هي الطريق، وليس من الممكن أن نحقق الاشتراكية الآن، لكن يجب أن تحقق الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء كل المهمات الديمقراطية، وبناء “القاعدة المادية التي تزيل علاقات الإنتاج” القائمة “وتوفر مستلزمات التحول صوب الاشتراكية”. يجب ألا ننتظر “غودو”، لقد انتظرنا طويلاً، وانتظارنا هو الذي سمح بتبوء كل القوى التي يصب د. حبيب جام غضبه عليها. إن من يهدف إلى تحقيق التطور والديمقراطية والتحرر يجب أن يتقدم لتحقيقها لا أن ينتظر طبقة أخرى.
إن الانطلاق من أن “المرحلة هي ليست مرحلتنا” فرضت سياسة معينة، غير صراعية، أو صراعية في حدود لا تتجاوز الحسم. أي لا تقوم على الوصول إلى السلطة لتحقيق مصالح العمال والفلاحين. حيث جرى إتباع مساقين، نضال مطلبي لا يتجاوز هذه الحدود، ونضال ديمقراطي يسعى لفرض سيادة برجوازية ديمقراطية. دون الوصول في الصراع إلى مرحلة الحسم رغم توفر القوى في العديد من الحالات. من هنا يمكن أن نفهم الميل الدائم لنضال سلمي، ولقبول “الحقائق” التي تقررها القوى المهيمنة. هذا كان يجعل كل التطور في مأزق، لأن ليس من حل سوى ببديل تحققه هذه الطبقات.
3
السياسة وموازين القوى وأشكال الصراع:
إذا كنت في الصفحات السابقة أتناول الرؤية انطلاقاً من فهم معين للماركسية، انتقل هنا إلى مستوى آخر يتعلق بالسياسة التي تعني: الدور العملي من أجل تحقيق الرؤية. ولقد أشرت إلى أن تلك الرؤية كانت تقوم على الضغط من أجل تحقيق مطالب وليس من أجل التغيير، رغم أنها كانت قد أصبحت قوة في الواقع، وأصبح بإمكانها التعامل مع السياسة كـ “فن الممكن”، الذي هو مصالح الطبقات الشعبية. ومن يدرس تاريخ الحركة الشيوعية في سورية والعراق يلمس كم كان تحقيق مصالح العمال والفلاحين ممكناً، لكن كان ينقص “الفن”، أي الحلم، والعلم الذي كان يشير إلى أنه لا بد من تطوير الصراع الوطني ضد الاستعمار، والطبقي ضد الإقطاع والبرجوازية التوأم، من أجل ذلك.
يشير د. حبيب إلى أن “السياسة هي فن الممكن، وليس فن الرغبات”. هذه فكرة برجوازية، لكنها ليست خاطئة بالمطلق حينما ينظر إليها ليس من منظور المنطق الصوري بل من منظور الجدل المادي. هذا المنظور الأخير يفرض علينا أن ندقق في معنى كلمة الممكن. في المنطق الصوري يؤسس الممكن على ميزان القوى والتبلورات السياسية القائمة. وبالتالي يكون السؤال هو: ماذا أستطيع أن أحصل الآن؟ أي وفق ميزان القوى الراهن/ القائم. وبالتالي فإن اللحظة الراهنة هي التي تحكم النظر دون التفات إلى الممكنات المستقبلية. وعادة تجري هذه المسألة في المساومات الحزبية، وفي الحصول على مكاسب. ولهذا تنحكم إلى براغماتية لا تلتفت إلى الرغبات. بل تقوم على المصالح بمعناها الضيق.
لكن حين النظر من منظور الجدل المادي يجب أن نطرح السؤال الأول الذي هو: ما هي الأسس التي تجعلنا نحدد الممكن من غير الممكن؟ والماركسية تفرض أن ننطلق من الصراع الطبقي، من وضع الطبقات، وليس من حجم الأحزاب ودورها فقط. بمعنى أنه يجب أن ننظر من كلية البنية الطبقية السياسية. من وضع العمال والفلاحين الفقراء، من ظروفهم وممكنات واقعهم، قبل النظر إلى الأحزاب وأحجامها. هذه النظرة الواسعة والعميقة هي التي تجيب على الممكن من غير الممكن.
لنطرح السؤال الآخر: هل نؤسس على ما هو –أو ما يُعتقد أنه- ممكن الآن، أو نبحث في هذا الواقع الاجتماعي الطبقي لكي نحدد الممكنات؟ بمعنى هل نبحث في “القوى الكامنة” من أجل تفعيلها أو ننطلق من القوى القائمة فقط؟ وهنا البحث في الممكن هو بحث في “القوى الكامنة”، أي في وضع العمال والفلاحين الفقراء، وفي وضع الصراع الطبقي ذاته. انطلاقاً من الظروف المعيشية (والقومية) التي تعيشها هذه الطبقات، وممكنات أن يتفعل دورها من أجل تغيير ميزان القوى القائم.
ومن ثم هل أن الممكن هو الممكن الراهن أو الممكن الذي سيصير عبر فعلنا بعد عام أو عامين أو عشرة أعوام؟ حيث هناك ممكن راهن، وهو القبول بالقوى المسيطرة لأنها الأقوى، ولحظ الحصول على بعض التنازلات منها فقط. وهذا أمر سهل، لكن ليس من الضروري الحصول على بعض التنازلات هذه، سوى بالمعنى النفعي. وهنا يكون الانطلاق من أن البنية الطبقية القائمة يجب أن تبقى قائمة. بمعنى أن هدف الشيوعيين هو ليس الوصول إلى السلطة لتحقيق مصالح العمال والفلاحين الفقراء بل القبول بالسيطرة الرأسمالية. والنفعية هنا سوف تكون حزبية أو شخصية. أو يكون الهدف هو تحقيق بعض المطالب الاقتصادية للطبقة، والديمقراطية العامة. ولم يثبت أن ذلك ممكناً رغم قوة الشيوعيين في عديد من المراحل.
هذه الأسئلة أساسية من منظور الجدل المادي. وهي أسئلة تعيدنا إلى تحديد معنى السياسة ذاتها. حيث بدا أنها تعني النشاط السياسي فقط، وهي هنا تساوي التكتيك. ولم تربط بالرؤية، أي بفهم الواقع ووعي آليات تغييره. وبالتالي الطبقات ووضعها، وممكنات نشاطها وحدوده، ومن ثم ممكنات تحوله إلى انتفاضة أو ثورة، أو ميلها للمقاومة بكل أشكالها بما فيها المقاومة المسلحة. هذه المسائل التي تحتاج إلى وعي من قبل الماركسي من أجل تغيير ميزان القوى في الصراع الطبقي، وكذلك الوطني.
الممكن هنا يتعلق في تغيير ميزان القوى، والقوى الممكنة لتحقيق ذلك، انطلاقاً من مصالحها. أي هل أن الهدف المطروح، أو جملة الأهداف المطروحة، تعبّر عن قوى فعلية، عن طبقات معينة؟ ويمكن أن تتوحد وتتنظم هذه الطبقات من أجل الصراع لتحقيقها؟ هنا تحسب الممكنات على رؤية تتعلق بإمكانية فعل الطبقات، نشاطها، صراعها. وبالتالي يصبح السؤال هو: كيف نطور فاعليتها من أجل تغيير ميزان القوى الطبقي؟ وهنا بقدر ما تلمس مشكلات هذه الطبقات، وبقدر ما يعبّر عنها عبر الفعل العملي، بقدر ما يصبح ممكناً ذاك الاندماج الضروري بين الحزب الماركسي والطبقات.
إذن، السياسة هي “فن وعلم” تغيير ميزان القوى من أجل تحقيق مصالح طبقات محددة، ومصالح الأمم. وهذا هو التكتيك كما يسمى في الماركسية، المبني على إستراتيجية واضحة، هي الأهداف التي يطرحها الواقع، والمعبّرة عن مصالح العمال والفلاحين الفقراء. وبالتالي فالسياسة هنا هي التكتيك الموصل إلى الانتصار، وليس القبول بـ “حقائق” الأمر الواقع المفروضة عبر ميزان القوى المختل. على العكس يكون الهدف هو تطوير القوى الذاتية من أجل تجاوز اختلاله من أجل تحقيق الانتصار. بمعنى أن ممارسة الصراع بكل أشكاله تكون ضرورية من أجل ذلك، حيث لا يمكن أن تتطور القوى الذاتية إلا في خضم الصراع.
المسألة التي أحاول تناولها هنا دقيقة، حيث جرى الميل إلى فهم “فن الممكن” انطلاقاً من الأهداف التي يمكن أن نحققها وفق قوانا الذاتية الراهنة، وليس من ممكنات ما يمكن أن نطوره عبر الصراع. لهذا كانت الأحزاب تتخلى عن “الهدف الأساسي”، وتقلص مطالبها إلى حدود ضيقة، أشرت إلى ما يتعلق منها بالنضال الطبقي، حيث كما أشرت بات الهدف المطروح هو الحصول على بعض المطالب المعيشية والديمقراطية، من خلال الضغط على الطبقة المسيطرة، أو حتى على المستعمر. وهو الأمر الذي جرى في مسائل تمس الوطن، في فلسطين، والآن في العراق. بمعنى أن القوى الذاتية الراهنة هي التي باتت تحدد الهدف وليس الواقع ذاته. وهذا ميل ذاتي يستحكم في الفئات الوسطى. إن تحديد الهدف ينطلق من وعي الواقع بغض النظر عن ميزان القوى. حيث يكون المطلوب تحديد مصالح العمال والفلاحين الفقراء، ومصلحة تطور الوطن/ الأمة، من أجل تطوير القوى بما يجعل تحقيق هذه المصالح ممكناً. هنا ليس حجم الحزب الراهن هو الذي يفرض عليه تحديد أهدافه، بل أنه يجب أن يلتقط أهداف الطبقة التي يعبر عنها لكي تكون هي برنامجه من جهة، ومن ثم أن يطور صراع هذه الطبقة، الذي هو صراع موضوعي نتيجة وضعها، من جهة أخرى. إنه “يعقلن” هذا الصراع، لكن لكي يطوره وليس لكي تخفضه، أو يوقفه. ويجب أن يشارك فيه لكي يستطيع ذلك. وهنا تبقى الأهداف المعبّرة عن المصالح كما هي، لكن تصبح السياسة هي كيفية تطوير النشاط النضالي للطبقات.
هنا يجب أن نقرّ بأنه كان ولازال لدى “النخبة”، التي هي قيادات الأحزاب، “سوء فهم” لوضع الطبقات، أو حتى استهانة بمقدرتها، واستخفاف بإمكاناتها. لهذا لا يحسب حساب “الجماهير” في الغالب، ولا يربط “النضال السياسي” بنشاطها، بل بحركة الأحزاب وقوتها أو ضعفها فقط. رغم أن الصراع الطبقي يعني تناقض طبقات أولاً، قبل أن يتحوّل إلى تناقض سياسي شامل بفعل نشاط الأحزاب عبر الطبقات. حيث أن نشاط الحزب يتحدد في إعطاء نشاط العمال والفلاحين الفقراء رؤية، عبر بلورة أهدافها، وتحديد تكتيكها، وتنظيمها، من أجل أن تتحول هي كطبقة إلى قوة تحسم الصراع الطبقي عبر استلامها السلطة.
لهذا حينما نتحدث عن فلسطين أو العراق يجب أن نحدد أولاً تصورنا للوضع، عبر تحديد موقفنا من السيطرة الإمبريالية، والدور الصهيوني فيها. ومدى تأثير ذلك على وضع الشعب، وعلى وضع العمال والفلاحين الفقراء. وهل نحن في تناقض مع الرأسمال الإمبريالي وكل فروعه: الدولة الصهيونية والكومبرادور العربي، أم أن ضعف قدراتنا تفرض علينا القبول بما حقق، وما يمكن أن يحقق؟
الأساس هنا هل أننا كماركسيين ضد الرأسمالية، وضد سياساتها وحروبها؟ وهل نرى في المشروع الصهيوني كمشروع إمبريالي بالأساس؟ إن تحديد ذلك هو الذي يقرر موقفنا مع المقاومة، ومن الصراع مع الرأسمالية أو لا. وبالتالي أشكال الصراع، وهل نعتمد على تطوير قدرات الطبقات الشعبية على القتال أو نتكيف مع السيطرة الإمبريالية ونتخذ مسار المفاوضات والمطالبة والمناشدة، والضغط، والترجي؟
إن الانطلاق من رفض ضرورة الصراع ضد الرأسمالية، ولا التفكير في تجاوزها، يفرضان المنطق الثاني. وكذلك فإن القبول بالدولة الصهيونية سوف يفرض رفض الصراع معها، والميل إلى التفاوض كأسلوب وحيد لحل “النزاع” القائم. وهذه كلها ليس لها علاقة بـ “فن الممكن”، ولا بالسياسة العقلانية والواقعية التي “تستند إلى حقائق الوضع القائم” كما يشير د. حبيب. هذه رؤى تمس جوهر الواقع، وتمس الحقوق، وتكسر التاريخ، انطلاقاً من الإقرار بـ “حق” تحقق بالقوة الغاشمة. ومن القبول بالرأسمالية لأنها تمتلك كل جبروت القوة. وهذا أمر مناقض للماركسية من حيث الأساس، مع اعتذاري لهذا التحديد الذي يبدو قاسياً، لكنه حقيقي. حيث لا يجب أن نثلم أساس جوهري في الماركسية وهو كونها أتت كنقيض للرأسمالية وليس لتسهيل سيطرتها، أو لحل مشكلاتها، أو تفرش الأرض وروداً لسيطرتها لكي نستطيع بعد ذلك تحقيق الاشتراكية.
هنا التناقض حدي مع الرأسمالية، وبالتالي مع مشروع سيطرتها، ومع القوى المنفذة لهذه السيطرة. الخلاف الذي يمكن أن يبرز بين الماركسيين ليس هنا، بل في تحديد المجتمع البديل: هل أن الاشتراكية مطروحة على جدول الأعمال أم أن المطروح هو تحقيق المهمات الديمقراطية لتهيئة البنية لمستلزمات التحول صوب الاشتراكية؟
هذه الرؤية هي الأساس الذي يفتح الأفق لتحقيق مصالح العمال والفلاحين الفقراء وكل الطبقات الشعبية. وهي الإستراتيجية التي يجب أن تحكم كل حزب ماركسي. بعد ذلك يجب تحديد السياسات الصحيحة من أجل تطوير القوى، وتفعيل نشاط الطبقات. وكذلك تحديد الأشكال النضالية الممكنة الآن، والتي يجب أن تكون ممكنة بعد ذلك، عبر التحضير الآني لها. أما الحيدان عن هذه الرؤية فلا هو من فن الممكن، ولا من السياسة العقلانية أو الواقعية بشيء.
الآن، يمكن البحث في أساليب النضال. حيث أن “الماركسية، التي توصلت إلى اكتشاف قوانين التطور الاجتماعي، والقوانين الاقتصادية الموضوعية، تضع على عاتق القوى السياسية التي تمارس المنهج المادي الديالكتيكي وعي الواقع وتحديد أساليب النضال التي تنسجم مع قراءتها النضالية”. نعم، لكن سياسة “فن الممكن” التي يطرحها د. حبيب توصل إلى رفض المغامرة “خاصة وأن هناك أساليب وأدوات نضالية أخرى بمقدورها تحقيق الأهداف على صعوبة الدرب السلمي”. وهو هنا يضع المسألة في إطار “سياسة عقلانية وواقعية تستند إلى حقائق الوضع القائم” أو سياسة “المغامرات والتضحية بمزيد من الناس”.
إذن، إن فن الممكن يشير على ضوء “حقائق الوضع القائم” إلى “الطريق السلمي” و”حل المشكلات الدولية بالطرق السلمية، وعبر المؤسسات الدولية والإقليمية”.
لم يُطرح السؤال هنا: هل أن وضع الطبقات الشعبية يفرض تفجر الصراع أو يحتمل انتظار حله سلمياً؟ وهل أن “العدو” يقبل بهذه اللعبة؟ لقد قامت الديمقراطية الأوروبية (التي كان لها جذور فكرية سابقة) على “المساومة التاريخية” بين الطبقة العاملة والبرجوازية، ولم تكن ممكنة قبل ذلك. فهل يمكن أن نجزم بأن الدولة الصهيونية سوف تقبل بهذا الشكل من الصراع؟ أو هل تقبل الرأسمالية الزاحفة من أجل الاحتلال بذلك؟ أو- كما يتذاكى البعض – نفرض نحن ذلك (طبعاً بعد الاعتراف المكرر بضعفنا)؟
ينطلق لينين من ضرورة ممارسة كل أشكال النضال، بما فيه النضال المسلح. هل تجاوز العالم هذه المرحلة؟ حاول البعض تعميم فكرة أن الرأسمالية أصبحت أكثر حضارية لهذا باتت تميل إلى نشر الحرية والديمقراطية وحل النزاعات بالطرق السلمية. وهذه موجة شكلت “موضة” منذ بداية التسعينات. وكانت موجهة ضد “النظم الدكتاتورية” المتوحشة. لكن هل شهدنا طيلة العقدين الماضيين سوى وحشية الرأسمالية وحروبها المرعبة؟ وكذلك ألسنا نشهد آلة الحرب الصهيونية؟ هنا أود فقط التركيز على الوحشية، لأن مسألة حماس سوف أتناولها تالياً. حتى في المراكز الإمبريالية نشهد تفاقم الأزمات والبطالة والفقر.
ما أود قوله هنا هو أن الصراع الطبقي هو الصراع الطبقي. أي أنه ليس سلمياً، وإن كان يمكن أن يتخذ هذا الشكل في لحظات وفي بعض الأماكن. والصراع ضد الاحتلال هو صراع مسلح أولاً وأساساً، لأن تحقق الاحتلال يعني ببساطة أن دولة أرسلت جيشها لكي يحتل، أي أنها سيطرت بالقوة. حيث أن النهب والاستغلال يفترضان القوة لمنع التمرد.
وبالتالي فإن هذه “السلمية” هي تمييع للصراع الطبقي أو القومي. وسنلمس بأن “الحس السليم” لدى الطبقة العاملة (وهذا ما كانت تشير الماركسية إليه)، وكل الطبقات الشعبية، كان يهجرها فتتهمش الأحزاب التي تطرحها دون أن تعي السبب، أو دون أن “تغامر” خشية العواقب. وإذا كانت الأهداف التي كانت تطرحها الحركة الشيوعية لم تكن تعبّر عن العمال والفلاحين الفقراء، فإن شكل النضال الذي كانت تتبعه كان يجعل هذه الطبقات تدعم القوى “المغامرة”، لأن الصراع الطبقي هو، عبر حقائقه الواقعية، يتطور إلى طرح ضرورة حسمه. فالصراع الطبقي لا ينتظر “حكمة” و”عقلانية” و”واقعية” الأحزاب، بل يصل إلى لحظة يجب أن يحسم. هذا هو الوضع الذي حكم الوطن العربي بعد الحرب العالمية الثانية، وكان في أساس سيطرة الأحزاب القومية عبر الجيش. حيث كانت البرجوازية غير معنية بالحسم، بل أنها جزء من سلطة الإقطاع، وكان الشيوعيون ينتظرون تقدم البرجوازية تلك لكي يقدموا الولاء لها. وهنا كان مسار الحركة الشيوعية بعيداً عن مسار الصراع الطبقي، رغم وبسبب تمسكها بـ “النضال المطلبي والديمقراطي” فقط، في وضع كان يفترض التغيير الجذري.
القسم الرابع
السياسة وموازين القوى وأشكال الصراع:
إذا كنت في الصفحات السابقة أتناول الرؤية انطلاقاً من فهم معين للماركسية، انتقل هنا إلى مستوى آخر يتعلق بالسياسة التي تعني: الدور العملي من أجل تحقيق الرؤية. ولقد أشرت إلى أن تلك الرؤية كانت تقوم على الضغط من أجل تحقيق مطالب وليس من أجل التغيير، رغم أنها كانت قد أصبحت قوة في الواقع، وأصبح بإمكانها التعامل مع السياسة كـ “فن الممكن”، الذي هو مصالح الطبقات الشعبية. ومن يدرس تاريخ الحركة الشيوعية في سورية والعراق يلمس كم كان تحقيق مصالح العمال والفلاحين ممكناً، لكن كان ينقص “الفن”، أي الحلم، والعلم الذي كان يشير إلى أنه لا بد من تطوير الصراع الوطني ضد الاستعمار، والطبقي ضد الإقطاع والبرجوازية التوأم، من أجل ذلك.
يشير د. حبيب إلى أن “السياسة هي فن الممكن، وليس فن الرغبات”. هذه فكرة برجوازية، لكنها ليست خاطئة بالمطلق حينما ينظر إليها ليس من منظور المنطق الصوري بل من منظور الجدل المادي. هذا المنظور الأخير يفرض علينا أن ندقق في معنى كلمة الممكن. في المنطق الصوري يؤسس الممكن على ميزان القوى والتبلورات السياسية القائمة. وبالتالي يكون السؤال هو: ماذا أستطيع أن أحصل الآن؟ أي وفق ميزان القوى الراهن/ القائم. وبالتالي فإن اللحظة الراهنة هي التي تحكم النظر دون التفات إلى الممكنات المستقبلية. وعادة تجري هذه المسألة في المساومات الحزبية، وفي الحصول على مكاسب. ولهذا تنحكم إلى براغماتية لا تلتفت إلى الرغبات. بل تقوم على المصالح بمعناها الضيق.
لكن حين النظر من منظور الجدل المادي يجب أن نطرح السؤال الأول الذي هو: ما هي الأسس التي تجعلنا نحدد الممكن من غير الممكن؟ والماركسية تفرض أن ننطلق من الصراع الطبقي، من وضع الطبقات، وليس من حجم الأحزاب ودورها فقط. بمعنى أنه يجب أن ننظر من كلية البنية الطبقية السياسية. من وضع العمال والفلاحين الفقراء، من ظروفهم وممكنات واقعهم، قبل النظر إلى الأحزاب وأحجامها. هذه النظرة الواسعة والعميقة هي التي تجيب على الممكن من غير الممكن.
لنطرح السؤال الآخر: هل نؤسس على ما هو –أو ما يُعتقد أنه- ممكن الآن، أو نبحث في هذا الواقع الاجتماعي الطبقي لكي نحدد الممكنات؟ بمعنى هل نبحث في “القوى الكامنة” من أجل تفعيلها أو ننطلق من القوى القائمة فقط؟ وهنا البحث في الممكن هو بحث في “القوى الكامنة”، أي في وضع العمال والفلاحين الفقراء، وفي وضع الصراع الطبقي ذاته. انطلاقاً من الظروف المعيشية (والقومية) التي تعيشها هذه الطبقات، وممكنات أن يتفعل دورها من أجل تغيير ميزان القوى القائم.
ومن ثم هل أن الممكن هو الممكن الراهن أو الممكن الذي سيصير عبر فعلنا بعد عام أو عامين أو عشرة أعوام؟ حيث هناك ممكن راهن، وهو القبول بالقوى المسيطرة لأنها الأقوى، ولحظ الحصول على بعض التنازلات منها فقط. وهذا أمر سهل، لكن ليس من الضروري الحصول على بعض التنازلات هذه، سوى بالمعنى النفعي. وهنا يكون الانطلاق من أن البنية الطبقية القائمة يجب أن تبقى قائمة. بمعنى أن هدف الشيوعيين هو ليس الوصول إلى السلطة لتحقيق مصالح العمال والفلاحين الفقراء بل القبول بالسيطرة الرأسمالية. والنفعية هنا سوف تكون حزبية أو شخصية. أو يكون الهدف هو تحقيق بعض المطالب الاقتصادية للطبقة، والديمقراطية العامة. ولم يثبت أن ذلك ممكناً رغم قوة الشيوعيين في عديد من المراحل.
هذه الأسئلة أساسية من منظور الجدل المادي. وهي أسئلة تعيدنا إلى تحديد معنى السياسة ذاتها. حيث بدا أنها تعني النشاط السياسي فقط، وهي هنا تساوي التكتيك. ولم تربط بالرؤية، أي بفهم الواقع ووعي آليات تغييره. وبالتالي الطبقات ووضعها، وممكنات نشاطها وحدوده، ومن ثم ممكنات تحوله إلى انتفاضة أو ثورة، أو ميلها للمقاومة بكل أشكالها بما فيها المقاومة المسلحة. هذه المسائل التي تحتاج إلى وعي من قبل الماركسي من أجل تغيير ميزان القوى في الصراع الطبقي، وكذلك الوطني.
الممكن هنا يتعلق في تغيير ميزان القوى، والقوى الممكنة لتحقيق ذلك، انطلاقاً من مصالحها. أي هل أن الهدف المطروح، أو جملة الأهداف المطروحة، تعبّر عن قوى فعلية، عن طبقات معينة؟ ويمكن أن تتوحد وتتنظم هذه الطبقات من أجل الصراع لتحقيقها؟ هنا تحسب الممكنات على رؤية تتعلق بإمكانية فعل الطبقات، نشاطها، صراعها. وبالتالي يصبح السؤال هو: كيف نطور فاعليتها من أجل تغيير ميزان القوى الطبقي؟ وهنا بقدر ما تلمس مشكلات هذه الطبقات، وبقدر ما يعبّر عنها عبر الفعل العملي، بقدر ما يصبح ممكناً ذاك الاندماج الضروري بين الحزب الماركسي والطبقات.
إذن، السياسة هي “فن وعلم” تغيير ميزان القوى من أجل تحقيق مصالح طبقات محددة، ومصالح الأمم. وهذا هو التكتيك كما يسمى في الماركسية، المبني على إستراتيجية واضحة، هي الأهداف التي يطرحها الواقع، والمعبّرة عن مصالح العمال والفلاحين الفقراء. وبالتالي فالسياسة هنا هي التكتيك الموصل إلى الانتصار، وليس القبول بـ “حقائق” الأمر الواقع المفروضة عبر ميزان القوى المختل. على العكس يكون الهدف هو تطوير القوى الذاتية من أجل تجاوز اختلاله من أجل تحقيق الانتصار. بمعنى أن ممارسة الصراع بكل أشكاله تكون ضرورية من أجل ذلك، حيث لا يمكن أن تتطور القوى الذاتية إلا في خضم الصراع.
المسألة التي أحاول تناولها هنا دقيقة، حيث جرى الميل إلى فهم “فن الممكن” انطلاقاً من الأهداف التي يمكن أن نحققها وفق قوانا الذاتية الراهنة، وليس من ممكنات ما يمكن أن نطوره عبر الصراع. لهذا كانت الأحزاب تتخلى عن “الهدف الأساسي”، وتقلص مطالبها إلى حدود ضيقة، أشرت إلى ما يتعلق منها بالنضال الطبقي، حيث كما أشرت بات الهدف المطروح هو الحصول على بعض المطالب المعيشية والديمقراطية، من خلال الضغط على الطبقة المسيطرة، أو حتى على المستعمر. وهو الأمر الذي جرى في مسائل تمس الوطن، في فلسطين، والآن في العراق. بمعنى أن القوى الذاتية الراهنة هي التي باتت تحدد الهدف وليس الواقع ذاته. وهذا ميل ذاتي يستحكم في الفئات الوسطى. إن تحديد الهدف ينطلق من وعي الواقع بغض النظر عن ميزان القوى. حيث يكون المطلوب تحديد مصالح العمال والفلاحين الفقراء، ومصلحة تطور الوطن/ الأمة، من أجل تطوير القوى بما يجعل تحقيق هذه المصالح ممكناً. هنا ليس حجم الحزب الراهن هو الذي يفرض عليه تحديد أهدافه، بل أنه يجب أن يلتقط أهداف الطبقة التي يعبر عنها لكي تكون هي برنامجه من جهة، ومن ثم أن يطور صراع هذه الطبقة، الذي هو صراع موضوعي نتيجة وضعها، من جهة أخرى. إنه “يعقلن” هذا الصراع، لكن لكي يطوره وليس لكي تخفضه، أو يوقفه. ويجب أن يشارك فيه لكي يستطيع ذلك. وهنا تبقى الأهداف المعبّرة عن المصالح كما هي، لكن تصبح السياسة هي كيفية تطوير النشاط النضالي للطبقات.
هنا يجب أن نقرّ بأنه كان ولازال لدى “النخبة”، التي هي قيادات الأحزاب، “سوء فهم” لوضع الطبقات، أو حتى استهانة بمقدرتها، واستخفاف بإمكاناتها. لهذا لا يحسب حساب “الجماهير” في الغالب، ولا يربط “النضال السياسي” بنشاطها، بل بحركة الأحزاب وقوتها أو ضعفها فقط. رغم أن الصراع الطبقي يعني تناقض طبقات أولاً، قبل أن يتحوّل إلى تناقض سياسي شامل بفعل نشاط الأحزاب عبر الطبقات. حيث أن نشاط الحزب يتحدد في إعطاء نشاط العمال والفلاحين الفقراء رؤية، عبر بلورة أهدافها، وتحديد تكتيكها، وتنظيمها، من أجل أن تتحول هي كطبقة إلى قوة تحسم الصراع الطبقي عبر استلامها السلطة.
لهذا حينما نتحدث عن فلسطين أو العراق يجب أن نحدد أولاً تصورنا للوضع، عبر تحديد موقفنا من السيطرة الإمبريالية، والدور الصهيوني فيها. ومدى تأثير ذلك على وضع الشعب، وعلى وضع العمال والفلاحين الفقراء. وهل نحن في تناقض مع الرأسمال الإمبريالي وكل فروعه: الدولة الصهيونية والكومبرادور العربي، أم أن ضعف قدراتنا تفرض علينا القبول بما حقق، وما يمكن أن يحقق؟
الأساس هنا هل أننا كماركسيين ضد الرأسمالية، وضد سياساتها وحروبها؟ وهل نرى في المشروع الصهيوني كمشروع إمبريالي بالأساس؟ إن تحديد ذلك هو الذي يقرر موقفنا مع المقاومة، ومن الصراع مع الرأسمالية أو لا. وبالتالي أشكال الصراع، وهل نعتمد على تطوير قدرات الطبقات الشعبية على القتال أو نتكيف مع السيطرة الإمبريالية ونتخذ مسار المفاوضات والمطالبة والمناشدة، والضغط، والترجي؟
إن الانطلاق من رفض ضرورة الصراع ضد الرأسمالية، ولا التفكير في تجاوزها، يفرضان المنطق الثاني. وكذلك فإن القبول بالدولة الصهيونية سوف يفرض رفض الصراع معها، والميل إلى التفاوض كأسلوب وحيد لحل “النزاع” القائم. وهذه كلها ليس لها علاقة بـ “فن الممكن”، ولا بالسياسة العقلانية والواقعية التي “تستند إلى حقائق الوضع القائم” كما يشير د. حبيب. هذه رؤى تمس جوهر الواقع، وتمس الحقوق، وتكسر التاريخ، انطلاقاً من الإقرار بـ “حق” تحقق بالقوة الغاشمة. ومن القبول بالرأسمالية لأنها تمتلك كل جبروت القوة. وهذا أمر مناقض للماركسية من حيث الأساس، مع اعتذاري لهذا التحديد الذي يبدو قاسياً، لكنه حقيقي. حيث لا يجب أن نثلم أساس جوهري في الماركسية وهو كونها أتت كنقيض للرأسمالية وليس لتسهيل سيطرتها، أو لحل مشكلاتها، أو تفرش الأرض وروداً لسيطرتها لكي نستطيع بعد ذلك تحقيق الاشتراكية.
هنا التناقض حدي مع الرأسمالية، وبالتالي مع مشروع سيطرتها، ومع القوى المنفذة لهذه السيطرة. الخلاف الذي يمكن أن يبرز بين الماركسيين ليس هنا، بل في تحديد المجتمع البديل: هل أن الاشتراكية مطروحة على جدول الأعمال أم أن المطروح هو تحقيق المهمات الديمقراطية لتهيئة البنية لمستلزمات التحول صوب الاشتراكية؟
هذه الرؤية هي الأساس الذي يفتح الأفق لتحقيق مصالح العمال والفلاحين الفقراء وكل الطبقات الشعبية. وهي الإستراتيجية التي يجب أن تحكم كل حزب ماركسي. بعد ذلك يجب تحديد السياسات الصحيحة من أجل تطوير القوى، وتفعيل نشاط الطبقات. وكذلك تحديد الأشكال النضالية الممكنة الآن، والتي يجب أن تكون ممكنة بعد ذلك، عبر التحضير الآني لها. أما الحيدان عن هذه الرؤية فلا هو من فن الممكن، ولا من السياسة العقلانية أو الواقعية بشيء.
الآن، يمكن البحث في أساليب النضال. حيث أن “الماركسية، التي توصلت إلى اكتشاف قوانين التطور الاجتماعي، والقوانين الاقتصادية الموضوعية، تضع على عاتق القوى السياسية التي تمارس المنهج المادي الديالكتيكي وعي الواقع وتحديد أساليب النضال التي تنسجم مع قراءتها النضالية”. نعم، لكن سياسة “فن الممكن” التي يطرحها د. حبيب توصل إلى رفض المغامرة “خاصة وأن هناك أساليب وأدوات نضالية أخرى بمقدورها تحقيق الأهداف على صعوبة الدرب السلمي”. وهو هنا يضع المسألة في إطار “سياسة عقلانية وواقعية تستند إلى حقائق الوضع القائم” أو سياسة “المغامرات والتضحية بمزيد من الناس”.
إذن، إن فن الممكن يشير على ضوء “حقائق الوضع القائم” إلى “الطريق السلمي” و”حل المشكلات الدولية بالطرق السلمية، وعبر المؤسسات الدولية والإقليمية”.
لم يُطرح السؤال هنا: هل أن وضع الطبقات الشعبية يفرض تفجر الصراع أو يحتمل انتظار حله سلمياً؟ وهل أن “العدو” يقبل بهذه اللعبة؟ لقد قامت الديمقراطية الأوروبية (التي كان لها جذور فكرية سابقة) على “المساومة التاريخية” بين الطبقة العاملة والبرجوازية، ولم تكن ممكنة قبل ذلك. فهل يمكن أن نجزم بأن الدولة الصهيونية سوف تقبل بهذا الشكل من الصراع؟ أو هل تقبل الرأسمالية الزاحفة من أجل الاحتلال بذلك؟ أو- كما يتذاكى البعض – نفرض نحن ذلك (طبعاً بعد الاعتراف المكرر بضعفنا)؟
ينطلق لينين من ضرورة ممارسة كل أشكال النضال، بما فيه النضال المسلح. هل تجاوز العالم هذه المرحلة؟ حاول البعض تعميم فكرة أن الرأسمالية أصبحت أكثر حضارية لهذا باتت تميل إلى نشر الحرية والديمقراطية وحل النزاعات بالطرق السلمية. وهذه موجة شكلت “موضة” منذ بداية التسعينات. وكانت موجهة ضد “النظم الدكتاتورية” المتوحشة. لكن هل شهدنا طيلة العقدين الماضيين سوى وحشية الرأسمالية وحروبها المرعبة؟ وكذلك ألسنا نشهد آلة الحرب الصهيونية؟ هنا أود فقط التركيز على الوحشية، لأن مسألة حماس سوف أتناولها تالياً. حتى في المراكز الإمبريالية نشهد تفاقم الأزمات والبطالة والفقر.
ما أود قوله هنا هو أن الصراع الطبقي هو الصراع الطبقي. أي أنه ليس سلمياً، وإن كان يمكن أن يتخذ هذا الشكل في لحظات وفي بعض الأماكن. والصراع ضد الاحتلال هو صراع مسلح أولاً وأساساً، لأن تحقق الاحتلال يعني ببساطة أن دولة أرسلت جيشها لكي يحتل، أي أنها سيطرت بالقوة. حيث أن النهب والاستغلال يفترضان القوة لمنع التمرد.
وبالتالي فإن هذه “السلمية” هي تمييع للصراع الطبقي أو القومي. وسنلمس بأن “الحس السليم” لدى الطبقة العاملة (وهذا ما كانت تشير الماركسية إليه)، وكل الطبقات الشعبية، كان يهجرها فتتهمش الأحزاب التي تطرحها دون أن تعي السبب، أو دون أن “تغامر” خشية العواقب. وإذا كانت الأهداف التي كانت تطرحها الحركة الشيوعية لم تكن تعبّر عن العمال والفلاحين الفقراء، فإن شكل النضال الذي كانت تتبعه كان يجعل هذه الطبقات تدعم القوى “المغامرة”، لأن الصراع الطبقي هو، عبر حقائقه الواقعية، يتطور إلى طرح ضرورة حسمه. فالصراع الطبقي لا ينتظر “حكمة” و”عقلانية” و”واقعية” الأحزاب، بل يصل إلى لحظة يجب أن يحسم. هذا هو الوضع الذي حكم الوطن العربي بعد الحرب العالمية الثانية، وكان في أساس سيطرة الأحزاب القومية عبر الجيش. حيث كانت البرجوازية غير معنية بالحسم، بل أنها جزء من سلطة الإقطاع، وكان الشيوعيون ينتظرون تقدم البرجوازية تلك لكي يقدموا الولاء لها. وهنا كان مسار الحركة الشيوعية بعيداً عن مسار الصراع الطبقي، رغم وبسبب تمسكها بـ “النضال المطلبي والديمقراطي” فقط، في وضع كان يفترض التغيير الجذري.