البكاء على البشر … ودموع على الدموع
دلال البزري
مشهدان أمس عن ساحة المعركة الدائرة رحاها في غزة. مشهد من اسرائيل، وآخر من غزة. في الاول، يُنقل التلاميذ الاسرائيليون القاطنون على الحدود مع غزة الى مدارس في العمق الاسرائيلي؛ بعيداً عن صواريخ «حماس». والتعليق المرافق للمشهد ان التلامذة الاسرائيليين لا يستطيعون التركيز على دروسهم وسط القلق من الصواريخ، خصوصاً «انهم على ابواب امتحانات». المشهد الغزاوي المقابل، وعلى نفس الشاشة: عشرات العائلات، جلّهم نساء واطفال، مذعورون، لاهثون، بائسون، يحملون بالكاد الضروريات من أكياس نايلون… يفرون من منازلهم المحاذية لحدود اسرائيل، بعدما اشتدّ القصف المدفعي عليهم. جموع البؤس هذه، بمن تلوذ؟ الى مدارس وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، التي هجرها بالطبع تلامذتها الغزاويون منذ بدء العداون. وخلافا للكاميرا الاسرائيلية التي لا تظهر شيئا من هلع تلامذتها، فان الكاميرا هنا، في غزة، فالتة من عقالها؛ تعرض وتعرض بإلحاح ولذّة…
مقارنة المشهدين المتلازمين تشي بقيمة إنسانهم وقيمة إنساننا. كنا في السابق نقول انهم يبكون على قتيل بقدر ما نبكي على مئة. وهذا يبقى صحيحا، ولو انه، مع عصر «حماس» واخواتها، طرأت زيادة على ارقامنا، فزاد عدد قتلانا، وكبرت الفجوة.
خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لـ«حماس»، يتكلم عن نصر مبين والقتلى يتساقطون كالشتاء الغزير على ارض غزة. معنى النصر عند مشعل ورفاقه لا يقاس بالارواح المحفوظة، بل بالارواح المهدورة. كل هؤلاء لا يحسب لهم حساب، إلا «عند ربهم». اما في هذه الحياة الدنيا الفانية اللعينة، فالارواح جثث مكومة على تلّة مرتفعة طبعا، يقف على قمتها خالد مشعل رافعا اشارة النصر بأصبعيه.
وأصل الضحالة لقادة «حماس» ميثاقهم السياسي القائم على بطون الامهات. انظر الى المادتين 17 و18 منه: حيث تعدّ المرأة لدور «لا يقلّ عن دور الرجال». حيث هي «مصنع الرجال»، انها آلة توليد اداة القتال، اي الانسان: كيف؟ بأن المطلوب منها ان تربّي ابناءها «إستعدادا لدور الجهاد الذي ينتظرهم». هكذا، تكون «أماً واعية لدورها في معركة التحرير».
وبعد، لماذا، إذاً، التباكي على عدد الضحايا والابرياء؟ لِمَ إعتماد سياسة اعلامية محكمة عمادها العرض المكرر للمأساة؟ والتفجع والدموع؟ ولِمَ تنضح من هذه السياسة الاعلامية الناجحة، في نظر نفسها، لهجة زيف وتشفٍّ من الوحشية ذاتها؟ التشفّي من دعاة «التفاوض» و»الاستسلام»، والاستقواء عليهم… ولسان حالهم يقول: هل ثبتَ لكم انه مع هؤلاء لا يستحيل السلام؟ ام انتم على جبْنكم وتخاذلكم باقون؟ إلخ…
ولماذا هذا التلازم غير المنطقي بين فكرة انعدام قيمة الاحياء، وبين البكاء والصراخ على خسارتهم؟ ببساطة، لأن هذه السياسة الاعلامية ترمي الى التعاطف والتأييد وكسب مزيد من الارض الاعلامية. والضحايا ورقة ابتزاز تغذي الغضب، وتؤكد صحة الخط «المقاوم»: من ان اسرائيل «شر مطلق»، وان الحرب معها من الآن وحتى آخر الدهر.
انها مقبرة السلام. والنظرية اياها لحفّاري القبور: نظرية التفوق العسكري للميليشيا «المقاوِمة» على الجيوش النظامية. «ستة ايام يا ناس!» يصرخ احد «المنظرين، الحفّارين».ويتابع: «ستة ايام، كانت الجيوش المصرية على الارض (1967) وها هم المقاومون يقاتلون اسابيع. والعدو ينهزم!». نظرية منتشرة هذه الايام؛ خصوصاً وسط الذارفين للدموع على ضحايا غزة. هؤلاء المتشدقون بتفوق «المقاومة» على الجيوش، والباكون على الضحايا في آن: هل يعلمون شيئا عن الدور المولج بالضحايا الحاليين والمقبلين، الذين ذرفوا وسوف يذرفون عليهم الدموع؟ أية وظيفة مرسومة لهم؟ هل لاحظوا مثلا ان كل الاستعدادات القتالية العسكرية اتخذت من اجل «معركة النصر»، فيما لا شيء أُعدّ لحماية الاهالي وشروط حياتهم؟ انها وظيفة الدروع البشريــة. وفـــي الحالات الافضل، وظيفة الانتحاريين. وفي الحالتين هم الوقود الضروري للمعركة بين آلة عسكرية جبارة وميليشيات مسلحة «مقاومة» لها.
ان هذه الفكرة الضحلة عن الانسان، استبطنها الاسرائيليون تجاه انساننا. ما جعلهم ينظرون الينا بعين خاصة جدا. مفهوم «النصر» لدى «مقاومينا» يناظره مفهوم الخطأ والاخفاق والفشل عندهم. في تموز 2006 اسرائيل ازاحت «حزب الله» عن الجنوب، والزمت بالقرار الدولي 1701 القاضي بنزع سلاحه، وقتلت وشردت ودمرت وحوّلت لبنان الى مستجْدٍ للإغاثة والمساعدات. وكل هذا وتعتبر اسرائيل من علياء كبريائها، انها فشلت؛ فتعطي الدفعة القوية لـ»حزب الله» ليبني «إنتصاره الاستراتيجي». و»حماس» الآن تسلك السبيل نفسه. غداً وقف اطلاق نار ودمار ومأساة واتفاقيات مزعجة… ستكون «نصرا» استراتيجيا جديداً ضد اسرائيل.
شيء آخر: طالما ان حياة الانسان لا قيمة لها عندنا، فمن اين للعدو حافز ليعطيها قيمة؟ الانسان المهدورة حياته في داره، الانسانة مصنع القتلى والاستشهاديين… هو انسان مهدورة حياته مرتين في ديار غيره… فما بالك بديار اعدائه. وعندما يرفع خالد مشعل إشارة النصر فوق كارثة غزة الانسانية، سوف يريح الضمائر الاسرائيلية التي قد تتعرض لذنب القتل. ويوسع ذمتها في القتل، من دون انسانية ولا رحمة.
هذا التوسع في القتل الاسرائيلي للفلسطينيين لا يناقضه، وبصورة صارخة، الا حرص العقيدة العسكرية الاسرائيلية على مواردها البشرية، على انسانها. مدنيا كان ام عسكريا. وهذا، تصوَّر، نقطة الضعف الاسرائيلية الاساسية ضد ميليشيات «المقاومة». فيما اصل الاعتزاز «الحمساوي» مفاده ان اصل القوة والمناعة هو الارواح المقدمة على مذبح العقيدة «العسكرية» لـ»حماس». فبالقدر الذي تستثمر فيه اسرائيل في انسانها، تهدده «حماس» الآن بسماحها لأبواب جهنم ان تفتح فوق رؤوس الانسان الذي صوّت لها في الانتخابات.
الدموع على ضحايا غزة، بعضها دموع تماسيح اعلامية. وبعضها الآخر دموع اللحظة الاخيرة من الوعي. دموع الفجيعة التي تفتعل المفاجأة. دموع لذيذة مضلّلة… دموع تستاهل البكاء عليها. دموع على الدموع.
الحياة