قضية فلسطين

«المكبّ البشري» يعني موت الإنسانية

حسن شامي
تمنى إسحق رابين ذات يوم أن تنشقّ الأرض وتبتلع غزة. لقد جرت هذه الأمنية على لسان رئيس الحكومة الإسرائيلية التي وقّعت اتفاقيات أوسلو قبل اغتيال الرجل على يد مجموعة يهودية متطرفة لم تتردد زوجة رابين في الربط بين صنيعها وبين حملة التخوين وتجييش العواطف التي أطلقها ليكود بزعامة بنيامين نتانياهو. ومع أن الأمنية هذه تمتّ بصلات قوية الى مشروع الحركة الصهيونية الذي جرى تنفيذه منهجياً منذ الثلاثينات والأربعينات والهادف الى شق أرض فلسطين التاريخية كي تبتلع الكثير من البلدات والقرى (حوالى الأربعمئة بلدة وقرية بحسب المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي)، فإنها، آنذاك، أي في تسعينات القرن الفائت، كانت تعبيراً عن معضلة لا حلّ لها اسمها غزة. ويفترض هذا الاعتراف بحيرةٍ ما حيال غزة إذ لهذه البقعة من العالم خصوصية استثنائية تجعلها عبئاً ثقيلاً تنوء به الدولة العبرية وتعجز عن حمله. ولا تعود هذه الخصوصية فحسب الى تكدّس مئات الآلاف المتحدر معظمهم من لاجئي حرب 1948، بل كذلك من صعوبة التوسع الاستيطاني فيها بحيث ظهر لاحقاً أن كلفة حماية المستوطنات القليلة المنشأة على تخوم غزة تفوق بكثير مردودها وقدرتها على طمر هذه الرقعة البشرية الأكثر كثافة سكانية في العالم. وكان قادة الدولة العبرية قد وضعوا خططاً، في أعقاب حرب 1967 واحتلال سيناء لنقل آلاف العائلات من غزة الى الضفة الغربية المحتلة بدورها، على ما يروي المؤرخ الإسرائيلي «الجديد» توم سيغيف في مقالة نشرها قبل أيام في صحيفة إسرائيلية مشككاً في جدوى الحرب الإسرائيلية على غزة.
يرجح في الظن أن عدم تنفيذ خطط الترحيل هذه أو تأجيلها، يعود الى الخشية من تحول الضفة الغربية نفسها الى غزة ثانية مما قد يعقّد عمليات التوسع الاستيطاني في الضفة التي سيطلق عليها اسم «يهودا والسامرة» ذو الرطانة التوراتية، بعد أن سمع قادة إسرائيل نداء باطنياً قادماً من أقاصي الزمن ومن الأعلى يقضي بتهويد الضفة بعد تحريرها من الاحتلال العربي. وهذا النداء الآتي بسرعة الضوء مما وراء التاريخ ومما يتعداه يحتمل الترجمة، على ما يبدو، في لغة توسع عقاري تجعل من رب السموات والأرض مضارباً عقارياً كبيراً، على ما قال رابين نفسه لوفد من المستوطنين جاء يحتج على حجم المساحة السكنية التي منحتها حكومة حزب العمل لهم، وذلك في أعقاب توقيع اتفاقيات أوسلو والشروع في توسيع المستوطنات للحيلولة دون تشكّل إقليم فلسطيني متصل وقابل للعيش في ظل دولة مستقلة.
لا يهدف التذكير بهذه الوقائع الى التحريض النضالي، على شرعيته، ضد التوسعية الإسرائيلية، بقدر ما يهدف الى إلقاء الضوء على بعض دلالات الحرب على غزة والرهانات والمعقودة عليها ووضعها على محك الاختبار القاسي للعالم بأسره جملة وتفصيلاً. فالحروب، على فظاعتها وأهوالها، تمتلك مزية الكشف عن مستورات والتباسات تتفاوت وطأتهما بحسب مواقع اللاعبين فيها. فالانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب من غزة كان يهدف، ولا يزال، الى تحويلها الى «مكبّ» بشري، يشبه في الكثير من وجوهه المعتقلات التي زجّ فيها الهنود الحمر في الولايات المتحدة بحيث تتكفل شروط العيش الخانق بقتل أي احتمال لإعادة بناء اجتماعي، ناهيك عن احتمالات البناء الوطني. وقد جاءت تقارير الموفدين الدوليين من الأمم المتحدة لتؤكد كلها على أن غزة سجن مفتوح على السماء. ويندرج هذا في وجهة إسرائيلية ثابتة تسعى الى الإبادة المجتمعية للفلسطينيين، أي تحطيم كل ما من شأنه أن يسمح بإعادة تشكل المجتمع الفلسطيني ونصابه الوطني لأنه سيحاول بالضرورة أن يترجم نفسه ويفصح عن وجوده، بلغة الحق والصفة السياسية مهما تفاوتت درجة تحقق هذه الصفة. لقد انتهز الإسرائيليون الفترة الانتقالية الميتة بين إدارة بوش المنقضية ولايته وبين إدارة باراك أوباما التي ستتسلم الملفات بعد عشرة أيام.
الاعتبارات الانتخابية ليست غائبة عن توافق كاديما وحزب العمل على شن حرب لا يمكنها أن تكون إلا ضد المدنيين، لفرض أمر واقع على الإدارة الأميركية المقبلة. ويمكن تلمس بعض أهداف الحرب من الأكثر هذياناً بخلفياتها، من جون بولتون (ما غيره) السفير الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة، مثلاً. فقد رأى هذا الملهم أن محاولة إقامة سلطة فلسطينية انطلاقاً من منظمة التحرير الفلسطينية القديمة فشلت، وأن أي حل قائم على دولتين على أساس السلطة ولد ميتاً. وهو يقترح التفكير في مقاربة لتسوية النزاع على أساس «ثلاث دول» توضع بموجبها غزة مجددا تحت سيطرة مصر فيما تعود الضفة الغربية وفق صيغة معينة تحت السيادة الأردنية. وقد يكون تحذير الملك الأردني عبد الله الثاني من مؤامرة تحاك ضد الشعب الفلسطيني غمزاً من قناة تصورات هاذية، مثل تصور بولتون المذكور، يرشحها منطق القوة المتخففة من الضوابط الدولية الى التحول الى استراتيجيات سياسية، بدعوى أنها صادرة عن ديموقراطيات ناجزة تحسب أن الديموقراطية تعصم عن الجريمة والخطأ.
المطروح إذاً إبقاء غزة مكباً بشرياً يمكن التناوب على إدارته وتسيير الحد الأدنى من شؤونه في انتظار أن يتآكل ويتلاشى في سديم عربي لا أفق له ولا مستقبل. وفي هذا المعنى، فإن القبول بهذه الوجهة يعني موت الإنسانية في غزة، وليس مقتل عشرات المدنيين في مدرسة تابعة لوكالة غوث اللاجئين (الأنروا) سوى إشهار عن موت معلن. ما ينبغي قوله هو أن إسرائيل هي التي انتهكت التهدئة، وليست حركة «حماس» كما يزعم بعض النظام العربي وبعض النخب الإعلامية في الغرب والشرق. فتمديد التهدئة وفق الشروط الإسرائيلية بعد اغتيال أربعة كوادر من «حماس» قبل شهرين وغداة انتخاب أوباما وإحكام الحصار على غزة مع حلول الشتاء، يعني تحويل حركة إسلامية – وطنية منتخبة ديموقراطياً الى حفنة من الزبائن والموظفين لدى من يطلب منهم خنق شعبهم. القوى الدولية التي قطعت المساعدات عن الفلسطينيين بسبب انتخابهم «حماس» تتحمل مسؤولية انتهاك فاضح للحق الديموقراطي والوطني للفلسطينيين. أما النظام العربي ومعه بعض النخب، فهو أمام اختبار أشد قسوة: ماذا يمثل ومَن؟
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى