قضية فلسطين

ما تكشفه المواجهة من معطيات

نهلة الشهال
… أولها أن ارتباط عموم الناس في المنطقتين العربية والإسلامية بفلسطين لم يمت، وذلك رغم سنوات الضباب والشك: عملية سلمية متعثرة إلى حد تحولها إلى سيرورة خديعة وإخضاع، صراع الفصائل الفلسطينية البشع على سلطة وهمية، ارتفاع منسوب الفساد لدى بعض مكونات هذه الفصائل والسلطة الفلسطينية فوق الحد القابل للتجاهل… كما أن معنى القضية الفلسطينية في عيون القوى العالمية الحاملة لقيم التحرر والعدالة لم يضطرب، وذلك رغم الظروف المعيقة تلك، ورغم درجة من تعثر الأداء السياسي والإعلامي على صعيد العلاقة بهذه القوى وبالأطر التي تنظمها، تذكر بتلك الجملة الشهيرة عن أعدل قضية محمولة بأسوأ ما يمكن من أصحابها. ولا بد أن يضاف أيضاً على هذه وتلك، حال القوى العالمية هي نفسها، من اضطراب مفاهيمها واستراتيجياتها، ومن انزواء فعاليتها النضالية. الاستنتاج الأول إذاً يسجل المكانة التي ما زالت القضية الفلسطينية تحتفظ بها في الوجدان والإدراك العامين، وخطل تلك الآراء التي خرجت تنعيها وتفك الارتباط بها. ويمكن تأكيد ذلك دون تجاهل النواقص التي تعتري تلك العلاقة وتحبط نمط آخر مأمول من صلة العالم، بعربه وعجمه، بفلسطين.
ثانيها أن درجة الاستعداد الفلسطيني نفسه للقتال عالية جداً. لا بد أن يأتي يوم وتُدرس فيه (بجدية، وليس بالابتذال القائم حول «ثقافة الموت» المزعومة)، تلك الروح التي حملت الناس في لبنان صيف 2006 على الصمود في وجه أطنان القنابل، ثم سجلت مأثرة رد الاجتياح الأرضي. وهي نفسها ما يحرك هؤلاء الشبان في غزة، الذين تظهرهم شاشات التلفزة وهم يلقون أحجارهم بواسطة المقاليع على الطائرات المغيرة والدبابات المتقدمة، وهم يقتحمون المباني المقصوفة، المشتعلة، مسعفين الجرحى، مخلين القتلى، وهم يدفنون أطفالهم منتحبين، صارخين « أينكم يا عرب، أينكم يا عالم» وإنما غير داعين للاستسلام، بل مؤكدين على حقهم في المقاومة. هم يعرفون أكثر من هؤلاء المنظرين الكئيبين الذين يقلبون شفاههم ضيقاً، أن الشروط المتحكمة بهم ليست لصالحهم في أي حساب موضوعي. هم يعيشون ذلك بجلودهم، ويدركون مبلغ اختلال ميزان القوى. فهل هم مجانين كلهم، أو أغبياء متخلفين كما تراهم أصوات منتقديهم المترفعة «المتحضرة»؟ ها هي  تدوم طويلاً تلك «الفوضى» الناجمة عن عدم التطابق بين الحساب الذي يقدمه الخبراء، وبين الاستعداد العام للناس – المتجدد بشكل دائم ومفاجئ – لتحمل كلفة التمرد، في ظل بيارق حمراء تارة، أو صفراء أو خضراء! دامت ما يكفي كي تصبح معطى ثابت، للحفظ ولاستخلاص النتائج.
ثالثها هو إعادة اكتشاف متجددة دوماً هي الأخرى للصعوبات الفائقة والاستثنائية بكل المقاييس، التي تحيط بالمسألة الفلسطينية، لكونها مسألة عالمية تعريفاً وتأسيساً، ترتبط بلا فكاك بالمسألة اليهودية بكل أبعادها وما تجره خلفها من عقد ذنب تاريخية، ومن ابتزاز حول شبح «اللاسامية»، ومن وظيفة مفتكرة أصلاً، ومتجددة، لإسرائيل كموقع استعماري، أمامي وهجومي، في هذه البقعة من العالم. وقد أضيف لكل ذلك المكانة التي تدعيها  إسرائيل في معسكر «الحرب الدائمة والشاملة على الإرهاب»، كما عبرت عن ذلك تسيبي ليفني التي قالت في باريس أنها تقاتل بالنيابة عن العالم الحر!
وهنا، ورابعاً، يكثر المقاتلون!! وتجد السيدة ليفني حلفاء بديهيين لها، كالإدارة الأميركية، وكالاتحاد الأوروبي، وبين بعض السلطات القائمة في العالم العربي، التي تخشى، قدر إسرائيل وحلفائها التاريخيين، خروج غزة الجريحة من المعركة مرفوعة الرأس، غير مستعدة للاستسلام. لقد أوضحت معركة غزة، وبما لم يعد يقبل التمويه، الشرخ القائم فعلاً في العالم. واليوم، وبعد أسبوعين من العدوان البربري الذي لا يقف أمام حدود ولا محرمات،  فإن المطروح من حلول تتبادل البحث في نقاطها تلك الأطراف، لا يتعدى تنظيم وقف لإطلاق النار مقابل مزيد من إحكام حصار غزة. أي أن الثمن الذي تستحقه رؤوس الأطفال المنزوعة عن أجسادها، في قصف المدارس الذي دانته بلا لبس منظمات الأمم المتحدة نفسها، (معلنة أنه ليس نتاج خطأ تقني ولا بسبب اختباء مقاتلين في محيطها)، ليس بأكثر من هدنة متقطعة، تبلغ ذروة السخرية فيها أن القاتل-إسرائيل-هو من ينظمها «لإتاحة المجال لإسعاف الجرحى». بينما الحل السياسي يدور حول التحكم بالمعابر بطريقة تعجب إسرائيل وتتجاهل حماس كطرف سياسي لا يستقيم حل من دونه.
خامساً، هي إذاً مسألة ميزان القوى. فهذا مختل أصلاً على صعيد معين لمصلحة قوى العدوان. ولكن اختلاله يزداد بسبب تجذر الموقف العربي الرسمي، بالمقارنة مع صيف 2006 بخصوص لبنان، تجذره في العجز أو في التواطؤ، بينما ينكشف الغطاء تماما عن أي تبرير ممكن لهكذا موقف: فإن كان صيف 2006 يضع تلك القوى بمواجهة الانقسام القائم في المنطقة على أساس الصراع مع المحور الإيراني والمعطى الشيعي الصاعد، فماذا عن غزة؟ وماذا عن حماس، وهي ليست سوى أحد فروع حركة الإخوان المسلمين؟ المسألة إذاً هي في الخيارات السياسية وليس في أي شيء آخر. وبهذا الصدد، فإن كان أحد أوجه ميزان القوى مختلا لمصلحة قوى العدوان، فإن وجهه الآخر ليس كذلك: كيف ستخرج إسرائيل من غزة، وهذه ورطة باعتراف استراتيجييها أنفسهم، ستؤدي إلى إدامة المواجهة والى اتجاهها نحو آفاق غير محسوبة وغير قابلة للضبط. وماذا عن الانفصال المتعمق حد الطلاق بين عموم الناس في المنطقة العربية والسلطات القائمة فيها، وهو انفصال وإن لم يكن مهدداً مباشرة لوجود تلك السلطات، إلا أنه يزيد من افتقادها للشرعية ومن ضعفها، ومن لجوئها إلى القمع وسيلة وحيدة للتخاطب مع مجتمعاتها…
مما يطرح أخيراً حدود العنف: عنف إسرائيل الأعمى، والذي يأمل بالحصول، درءاً له، على استسلام صريح، وإن كان بوده لو يتمكن من إبادة الفلسطينيين، حيث ينضاف هنا إلى الوحشية، الجنون. وعنف أصحاب نظرية الحرب الشاملة والدائمة والاستباقية على الإرهاب، التي تؤسس لحروب أهلية معممة، حتى في أوروبا نفسها التي تغلي. وعنف السلطات القائمة في المنطقة العربية التي قد تفاجأ بتجاوز الوقائع لها!

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى