بلى، هناك بديل فلسطيني!
ياسين الحاج صالح
من غير المرجح أن تجد الدعوة إلى تفادي الفلسطينيين للعنف في مواجهة إسرائيل استجابة إن بقيت دعوة سلبية، تسوغ نفسها (على نحو ما كان فعل كاتب هذه السطور غير مرة) بكون إسرائيل تحوز أفضلية كبرى في مجال السيطرة على وسائل العنف. ما تدافع عنه هذه المقالة هو أن الدعوة إلى تجنب العنف في مواجهة إسرائيل يمكن أن تكون أساس مشروع إيجابي يهدف إلى تمكين الشعب الفلسطيني وتحرير قواه وطاقاته الإبداعية في مواجهة المحتلين. التمكين المقصود متعدد المستويات يبدأ من تحسين فرص التعليم والعمل والاستشفاء.. ولا ينتهي عند التنظيم المستقل والحريات العامة وإطلاق المبادرات الذاتية للجمهور الفلسطيني، فضلا عن توحيد المجتمع وتوثيق الروابط بين فئات الشعب الثلاث: فلسطينيي الشتات، فلسطينيي الضفة والقطاع (وهم اليوم فئتان) و»عرب ١٩٤٨«. والرؤية العامة التي توجه هذه الرؤية هي ترقية تمرس الشعب الفلسطيني الموحد بأوضاعه البالغة التعقيد، وتوجيه طاقاته نحو الفوز بالمعركة الأخلاقية والثقافية، وتاليا السياسية. هذا ليس لأن الفوز بالمعركة العسكرية متعذر فقط، وإنما لأنه من الحيوي والملح استعادة الجوهر التحرري لقضية فلسطين، أعني الربط بين تحرير الوطن وتحرر الشعب، اجتماعيا وسياسيا وروحيا. فلا سبيل إلى التحرر من الاحتلال بينما يستخدم المجتمع الفلسطيني أداة في سياسات غير تحررية، تتوسل المواجهة مع العدو تكتيكا لمزيد من تشويش مداركه وإحكام القبضة عليه. إن تمكين الأكثرية الفلسطينية من السيطرة على شروط حياتها هو ما يضع الأكثرية هذه في موقع أفضل في صراعها الشاق والمديد مع الاحتلال، ويسهّل نزع أقنعته الأخلاقية الزائفة.
ومن شأن بلورة استراتيجية تمكين أن تقطع الطريق لا على نكبات متجددة تلحق بالشعب الفلسطيني على نحو ما يجري الآن في غزة، بل أن تجنبه السير في صفقات عقيمة لا أفق لها، تفتت قضيته وتزجها في بازار مساومات إقليمية ودولية تتناقض كليا مع مضمونها التحرري. فالغرض هو انتزاع القضية الفلسطينية من أيدي مجموعات ومحاور ومتاجرين من كل نوع، ووضعها بين أيدي أهلها الأمناء عليها. ليس هذا بديلا سهلا، لكنه يبقى دوما أقل كلفة إنسانية من الانجرار إلى مواجهات مسدودة الأفق، يستفيد منها المحتل (يوحد مجتمعه تحت قيادة القوى الأكثر عدوانية ويمينية) وزعامات فلسطينية معنية بسلطتها ونفوذها أكثر مما بحرية شعبها.
من هذا المنظور ليس الانجرار إلى مواجهة عنيفة مكلفة وغير متكافئة مع إسرائيل خطأ مؤسفا يتعين تفاديه، بل هو سلوك غير مسؤول وسياسة رجعية بكل معنى الكلمة (فئوية، غير أخلاقية، وعقيمة لا يمكن أن تنتصر)، هدفها التلاعب بالشعب الفلسطيني وقضيته لأغراض سلطوية وأنانية، تدفع نحوها عقائد وأيديولوجيات عدمية سياسيا (الإسلامية بشتى تنويعاتها، الجهادية بخاصة)، وتحركها من وراء الستار محاور خارجية. وللمحاور هذه سياسات عدمية في فلسطين، تتوحد في استخدامها أداتيا (كورقة)، ولها مصلحة ثابتة في أن تبقى بؤرة تفجر وعنف ودمار، كي تعزز مواقعها وأدوارها الإقليمية. إن تجنب العنف، تاليا، ليس خيارا »عقلانيا«، بل هو الخيار التقدمي والوطني، وإن شئت الثوري، للشعب الفلسطيني؛ وذلك بقدر ما يكون تجنب الانجرار إلى المواجهات العنيفة إطارا لإعادة بناء المجتمع الفلسطيني كمجتمع مبادر وحي، والهوية الفلسطينية كمشروع تحرري، مفتوح على قيم العدالة والمساواة والحرية.
لا تحول دون التفكير في هذا الاتجاه مصالح نخب فلسطينية في فتح وحماس.. فقط، وإنما أولا ثقافة سياسية فلسطينية وعربية خرقاء وسلطوية، تعلي من شأن »القوة الخشنة« بينما هي المرشح الدائم للخسارة في ميادينها. ومن أساسيات هذه الثقافة السياسية ما ندعوه وثنية المقاومة، أي تقديسها ومنع نقدها، وقصرها فوق ذلك على الفعل العضلي. هذا ذروة الخذلان الذاتي: الضعيف المهزول يقصر مواجهة خصومه الأقوياء على العضلات! وهذه سمة مقاوماتنا اليوم أكثر من أي وقت مضى، رغم أن الجانب العضلي كان متصدرا مقاوماتنا أيضا في الأوقات الماضية (تنفرد مقاومات اليوم الإسلامية بأنها معادية للتحرر الاجتماعي والسياسي والعقلي، رادة التحرر الوطني إلى تجريد أجوف، أو جاعلة منه مشروع سلطة فحسب).
وتقرر الثقافة السياسية تلك أن الكلام على الحرب والمقاومة والعنف وطني وتحرري وتقدمي. ليس كذلك بحال. إنه خدمة مجانية نقدمها المرة تلو المرة للعدو القوي. بالمقابل يواجه كل كلام يدعو إلى استراتيجية بناء مدنية وتمكين الشعب الواقع تحت الاحتلال بالتشكيك، أو حتى بالتخوين الصريح. وهذه كارثة عقلية لا تقل سوءا عن كارثة غزة الجارية أمام أعيننا، والتي لا تعدو كونها حلقة متجددة من استخدام الشعب الفلسطيني درعا لسلطة فئوية ولأولياء أمرها الإقليميين. وما كان لأحد أن يلخص استراتيجية حماس العدمية أحسن مما لخصها السيد اسماعيل هنية بقوله إننا لن نستسلم ولو أبادوا غزة! فكأن غزة ملك شخصي له أو لحركته!
ويظهر تصريح هنية سمة جوهرية للسياسات والثقافة السياسية الفلسطينية والعربية: الهوس بفكرة الاستسلام، والمثابرة على تهنئة النفس بأننا لم نستسلم. لكن حصر الخيارات بين مقاومة عضلية إما يفوز فيها العدو أو يدمر مجتمعنا وحياة وجهود مئات ألوف الناس منا، وبين »عملية سلام« ممزقة للشعب ومفتتة للقضية الوطنية، استسلامية حقا، هو الاستسلام الحقيقي.
آن أن تنتهي هذه السياسة التعيسة التي لطالما كانت مدمرة للشعب الفلسطيني ومشوشة لوعيه الوطني وممزقة لتاريخ حركته الوطنية. آن أن نكف عن استخدام العدو ذريعة للمحافظة على تنظيمات فكرية وسياسية واجتماعية استبدادية وفاسدة، مفتتة لمجتمعاتنا ومخربة لوعيها الوطني والإنساني.
لا تعدو الحصيلة الواقعية لهذه السياسات، في فلسطين وغيرها، أن تكون تواطؤا موضوعيا بين العدو وبين النخب السياسية المحلية على تقييد الشعب والتحكم به والمتاجرة بقضيته، بل بلقمة عيشه، في الساحات الدولية والإقليمية.
ولا يجوز أن يدفعنا إلى السكوت عن ذلك إرهاب التخوين ولا بازار المزايدات ولا نفاق محترفي النفاق، هذا الذي ينافس السلطات الاستبدادية على تعويق التفكير الحر والمتجدد، ومنعه من الوصول إلى الشعب.
غير صحيح أنه ليس ثمة بديل فلسطيني عن حماس وسلطة عباس. بلى، ثمة بديل. المدرسة وفرص العمل والإدارة الكفؤة والمحترمة وقول الحقيقة للشعب والاعتناء بالثقافة الوطنية وبالفضائل المدنية واحترام النساء اللاتي تلوعهن الحرب وتدمر حياتهن أكثر من الرجال… كل ذلك بديل مشرف وعظيم و.. تقدمي.
ولعل أول ما يلزم من أجل ذلك جهد فكري وثقافي، يتوجه إلى شباب فلسطين (وغير فلسطين، فـ»الحال من بعضها«)، بهدف كسب القطاع الأكثر نشاطا وديناميكية لصالح رؤية تحررية جديدة وثقافة سياسية جديدة، لا يتعالى الوطن فيها على المواطنين وطاقاتهم الحرة.
خلال سنوات قليلة من جهود دؤوبة ومنظمة في هذا الاتجاه يمكن أن تظهر بوادر تحرر فكري وروحي من المطلقات والمتاجرات (وكل مطلق هو مشروع تجارة ممكنة، واستبداد محقق) التي تقوض القضية الفلسطينية من الداخل. وخلال جيل واحد ربما تتحقق قفزة اجتماعية وأخلاقية كبرى تؤسس لهزيمة المحتل الأخلاقية، على طريق تحجيم المشروع الإسرائيلي وهزيمته.
([) كاتب سوري
خاص – صفحات سورية –