الموت الذي لا يجمع أطفالنا وأطفالهم!
محمد علي الأتاسي
خلال الزيارة التي قام بها باراك أوباما لإسرائيل في شهر تموز من العام المنصرم إبان حملته الانتخابية، اصطحبته النخبة العسكرية- السياسية الإسرائيلية مجتمعة، بمن فيها وزير الدفاع الإسرائيلي ايهود باراك ووزير الأمن الداخلي أفي ديختر ووزيرة الخارجية تسيبي ليفني، إلى بلدة سديروت في جنوب إسرائيل وأطلعته على الأضرار التي لحقت بالمدنيين الإسرائيليين جراء قصف “حماس” للبلدة بصواريخ القسام. بعدما التقى أوباما أحد الصبية الإسرائيليين الذي بترت إحدى قدميه بصاروخ، عقد مؤتمراً صحافياً في مكان اختير بعناية بحيث بدت في خلفية المنصة التي تكلم من عليها، مئات من صواريخ القسام التي تم تجميع هياكلها على شكل نصب عالٍ يفترض فيه أن يذكّر الزائر بما تتعرض له المدينة وجوارها من قصف بالصواريخ. طبعا لم يكن من أوباما، وهو الذي سبق له أن أعلن مرارا وتكرارا، كما غيره من مرشحي الرئاسة الأميركية، تأييده لإسرائيل وتعاطفه معها، إلا أن صرح بالآتي: “لو أن أحدا يطلق الصواريخ على بيتي حيث تنام ابنتاي الاثنتان في الليل، فإنني سأعمل كل ما في وسعي لوقف ذلك، وأنا أتوقع من الإسرائيليين أن يفعلوا الشيء نفسه”.
أوباما الذي لم تطأ قدماه قطاع غزة في تلك الرحلة ليرى ما ارتكبه الإسرائيليون من جرائم في حق السكان، قام مع ذلك بزيارة خاطفة لمقر الرئاسة الفلسطينية في مدينة رام الله، حيث التقى “أبو مازن” في مقر “المقاطعة” الذي تم ترميمه بما يمحو آثار العدوان الإسرائيلي والحصار على الرئيس الراحل ياسر عرفات. شرب أوباما القهوة العربية وسمع من الرئيس الفلسطيني الكلام المعهود عن جدية الفلسطينيين ورغبتهم بالسلام، وعن تمنّع المفاوض الإسرائيلي ومماطلته وعدم جديته، ولم يفت محمود عباس كما جرت العادة أن يذكّر ضيفه باستمرار سياسة الاستيطان وقضم الأراضي من الجانب الإسرائيلي، في لازمة باتت معهودة من “أبو مازن” في كل مرة يعلن فيها رفضه للعنف وتمسكه بالمفاوضات كطريق شرعي ووحيد لاسترجاع الحقوق الفلسطينية. طبعا لم يخطر في بال “أبو مازن” ومستشاريه، أن يدعوا أوباما الى لقاء واحد من أفراد عائلات الضحايا والمصابين الفلسطينيين جراء الجرائم الإسرائيلية في حق المدنيين العزل، ولا هم سعوا الى أن يلتقي أوباما بأيّ مواطن فلسطيني عادي قادر أن يشرح للمرشح الأميركي، بشكل أصدق وأفضل من مستشاري الرئيس عباس العتيدين، معاناة الفلسطينيين بسبب الاحتلال والاستيطان والطرق الالتفافية والحواجز العسكرية والاهانات اليومية على أيدي الجنود الإسرائيليين. أما الأعداد والأسماء والأعمار والحكايات لما يزيد على خمسة آلاف من الضحايا الفلسطينيين من المدنيين الذين قتلوا على أيدي الإسرائيليين منذ اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000 إلى يومنا هذا، فغالب الظن أن لا أحد من مسؤولي “المقاطعة” كلف نفسه عناء تقديمها إلى أوباما، وإظهارها ونشرها في أرجاء العالم، هذا إذا امتلكوها أصلا، في حين أن السلطات الإسرائيلية المتعاقبة لم تنفك عن صم آذان العالم، بما فيها أذنا أوباما نفسه، بترداد أسماء القتلى الإسرائيليين الـ 23 الذين سقطوا منذ بداية إطلاق صواريخ القسام على إسرائيل عام 2001.
غالب الظن أن أوباما ما كان ليغيّر من مواقفه المؤيدة لإسرائيل، لو أن القادة الفلسطينيين تصرفوا بشكل أكثر تحسساً لمعاناة شعبهم وأكثر حنكة في الوصول إلى الرأي العام العالمي والتأثير عليه، لكنهم كانوا بالتأكيد سيجعلون من إمكان أن يطلق أوباما مثل هذه التصريحات المتماهية مع الإسرائيليين عملية أشد صعوبة وأكثر تكلفة على الصعيد الأخلاقي
إن ما جرى خلال زيارة أوباما لإسرائيل قبل شهور، يشير إلى واحدة من أكبر المآسي التي يعاني منها واقعنا العربي، والتي نعيش اليوم مع القصف الإسرائيلي الوحشي لقطاع غزة واحداً من فصولها المتجددة. فالمعادلة البشعة المفروضة علينا شديدة الوضوح والصفاقة: الدم الفلسطيني لا يساوي الدم الإسرائيلي، وحياة الطفل الفلسطيني لا تساوي حياة الطفل الإسرائيلي في أعين ما يسمّى العالم المتحضر الذي يتباكى على مقتل 5 إسرائيليين بصواريخ القسام ويعتبر سقوط 700 قتيل فلسطيني بمثابة أضرار جانبية وقعت بغير عمد. هذا العالم الذي يقلقه مصير الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليت المعتقل لدى “حماس”، ويتجاهل معاناة أكثر من 10 آلاف معتقل فلسطيني في سجون الاحتلال.
هذه المأساة عبّر عنها ببلاغة جارحة المواطن الفلسطيني أنور بعلوشة الذي قُتلت بناته الخمس، جواهر ودينا وسمر وإكرام وتحرير، اللواتي تراوح أعمارهن بين الرابعة والسابعة عشرة وهن في فراشهن، في الغارة التي استهدفت مسجد “عماد عقل” الملاصق لمنزلهن المتواضع في مخيم جباليا. فهذا الأب الفلسطيني العاطل عن العمل والمفجوع ببناته الخمس، والذي امتلأ جسده بالشظايا، تحامل على جروحه وقال لوكالة “فرانس برس” الآتي: “أطالب بمحاكمة قادة العدو، لو أن طفلا إسرائيليا قُتل لقامت الدنيا ولم تقعد، ولانعقد مجلس الأمن. أطفالهم دماؤهم غالية أما أطفالنا فدمهم رخيص عندهم. نحن نطالب دول العالم الحر ومؤسسات حقوق الإنسان بتوفير الحماية لأطفالنا. كفى قتل. كفى تدمير”. وأضاف مذكّرا بأن بناته أيضا كباقي أطفال العالم يدرسن للامتحانات ويخلدن للنوم، لكنهن على خلاف باقي أطفال العالم لا يستيقظن من فراشهن بل يُقتلن بصواريخ الطائرات الحربية الإسرائيلية، وقال في هذا السياق: “ما يحدث من دمار واستهداف المدنيين الأمنيين جريمة حرب. كانت بناتي يدرسن استعدادا لامتحانات نهاية الفصل الدراسي الأول قبل القصف، وبسبب انقطاع الكهرباء ذهبن للنوم. استشهدت خمس منهن”. وطالب بلعوشة “العالم بالتحرك لوقف هذا العدوان ومحاكمة قادة جيش الاحتلال وحكومته أمام هذه الجرائم البشعة ضد الأطفال العزّل. الأرض أرضنا وهم المعتدون يقتلوننا ويحاصروننا، يقتلون الأطفال الآمنين، ويدمّرون بيوتنا، هذه جريمة حرب”. يحيل كلام أنور بلعوشة الجارح على سلسلة لا منتهية من الأسئلة التي يتكشف عنها واقعنا العربي المزري. يكفي هنا أن نسأل ماذا يكون عليه رد فعل العالم المسمّى متحضرا لو أن أطفال عائلة إسرائيلية واحدة قُتلوا كما قُتلت بنات أنور بلعوشة؟ ماذا يكون رد فعل هذا العالم لو أن شعب إسرائيل تمت محاصرته مدى سنوات بمثل ما حوصر الشعب الفلسطيني اللاجئ في قطاع غزة؟ وهل يقاطع العالم الحكومة الإسرائيلية المنتخبة ديموقراطيا ويرفض الاعتراف بها إذا ضمت في صفوفها من يطالب برمي الفلسطينيين في البحر؟ وهل يا ترى يفرض عليها عقوبات سياسية واقتصادية؟ وكيف يتصرف العالم لو أن رئيس الكنيست وبعض أعضائها اليهود إختطفوا على يد مقاتلي حماس؟ وماذا يكون رد فعل هذا العالم لو أن المدارس والجامعة ودور العبادة
اليهودية والوزارات وحفلات تخرج أفراد الشرطة الإسرائيلية قُصفت كما تقصف اليوم مثيلاتها في غزة؟
قد يقول البعض إن هذا الإجحاف اللاحق بنا، بما ينطوي عليه من سياسات الكيل بمكيالين وازدواجية المعايير والإذلال المستمر، ما هو إلا نتيجة الاختلال المريع في موازين القوى السياسية والعسكرية، وتعبير بليغ عن الواقع العربي المزري بما فيه من تفكك وتخلف وعجز. لكن مع ذلك، لا شيء يبرر التقاعس الحاصل لجهة فضح الانتهاكات الإسرائيلية ومخاطبة الرأي العام العالمي بلغة يكون قادراً على فهمها، بعيدا من لغة بن لادن وأيمن الظواهري.
أوباما في زيارته لسيدروت كان قادراً على وضع نفسه مكان عائلة إسرائيلية من البلدة وقال إنه لن يسمح لأحد بأن يقصف بيته بالصواريخ حيث تنام ابنتاه. ترى، ألا يسأل قادة ما يسمّى العالم المتحضر أنفسهم ماذا كانوا ليفعلوا لو أن صاروخا إسرائيليا قتل أطفالهم في غرفة نومهم، كما قتل عائلة أنور بلعوشة، أم أن أنور بلعوشة وعائلته ليسوا من بني البشر ولا يجوز التماهي معهم؟!
بالتأكيد سيسألون أنفسهم هذا السؤال، عندما نكون نحن قادرين على فرضه عليهم بما نملكه من إمكانات وعوامل قوة. عدا أن عوامل القوة هنا لا تعني فقط الإمكانات العسكرية والمادية، لكنها تعني كذلك الوعي السياسي والحجة القوية والبعد الأخلاقي والتكتيك الصحيح وحسن التنظيم والتدبير والتصرف. في هذه الحال فقط يمكن ضعفنا أن يتحول قوة، ويمكن دماءنا أن تدين وأن تسأل.
أنور بلعوشة كان أبلغ من الكثير من الناطقين الرسميين باسم “حماس” الذين ملأوا الشاشات تهديداً ووعيداً، وقد نجح هذا الأب المفجوع في إيصال صوته الرصين حتى أميركا، وما فاته أن يقوله لوكالة الأنباء الفرنسية، قاله للصحافي إسلام عبد الكريم الذي نشره في تقريره لصحيفة “واشنطن بوست” الأميركية: “ليس لديَّ أيّ علاقة بأيّ تنظيم فلسطيني. ليس لديَّ أيّ علاقة بـ”حماس”، أنا مجرد إنسان عادي”. ومن ثم سأل أنور بلعوشة بحرقة”: “لماذا أنا؟ لماذا عائلتي؟ فقدت وإكرام وسمر ودينا وجواهر، فقدت بناتي الخمس، لقد أحببتهن كلهن. أنا مستعد أن أموت مئة مرة لأرجع بناتي” .
لكن حتى من له علاقة بحركة “حماس” أو من هو في قيادتها، ترى هل هناك من شرعة إنسانية أو من قانون دولي يجيزان أن يتم استهدافهم واغتيالهم بالشكل الذي دأبت إسرائيل على فعله منذ سنوات؟ ثم، ماذا عن عائلاتهم وأطفالهم الذين غالبا ما يقضون معهم في المقتلة نفسها؟
عقب اغتيال القيادي في “حماس” الشيخ نزار الريان و13 فردا من أسرته بمن فيهم زوجاته الأربع وتسعة من أولاده هم غسان وعبد القادر وأسامة وأسعد وآية ومريم وزينب وعائشة وريم، حاولت بعض وسائل الإعلام الغربية تبرير هذا العدوان بالتخابث من طريق الغمز من قناة الشيخ لكونه مؤيداً للعمليات الانتحارية ومتأهلاً من أربع نساء! لكن ما فات هذا الإعلام المتحضر جدا أن يسأل نفسه من هو الأكثر حضارة الشيخ النائم بين أفراد أسرته، أم الجنرال الإسرائيلي الذي اتخذ القرار عن سبق إصرار وترصد بقصف منزل عائلة الريان بصاروخ زنته طنان وهو يعلم مسبقا أن هذا المنزل يؤوي أسرة الريان بكاملها؟ ترى، هل كان غسان كنفاني وكمال ناصر وأبو جهاد وأبو علي مصطفى بذقون إسلامية عندما اغتالتهم إسرائيل تباعا ووقف العالم يتفرج؟!
عند كتابة هذه السطور كان الهجوم البري الإسرائيلي على قطاع غزة لا يزال في بداياته الأولى التي تنبئ بالمزيد من القتل والتدمير والمجازر التي ترتكبها آلة الحرب الإسرائيلية في حق الشعب الفلسطيني المحاصر في غيتو غزة. وها هي صفحة أخرى من العنف تكتبها الدولة العبرية من جديد في تاريخ منطقتنا المعاصر الذي لم تمر عليه حقبة من الزمن منذ تأسيس هذه الدولة، من دون أن يشهد حربا طاحنة تكون إسرائيل الطرف المعتدي فيها.
إن نظرية العنصري المتطرف جابوتنسكي عن الحائط الحديدي وعن العرب الذين لا يفهمون إلا لغة القوة، تطورت على مدى هذا التاريخ الأسود على أيدي جنرالات إسرائيل لتصبح: “إذا لم يفهموا بالقوة فسيفهمون ويخضعون بالمزيد من القوة”. المخيف في الأمر بعد كل هذه الحروب الدموية ليس أن العرب والفلسطينيين تحديدا لم يفهموا بعد، ولم يرتضوا التخلي عن حقوقهم المشروعة، بل المفجع في الأمر أن النخبة الصهيونية الحاكمة في إسرائيل، لم تدرك بعد أنه من المستحيل عليها أن تفرض على الشعب الفلسطيني القبول والتسليم بمشروعها الاستعماري الاستيطاني الذي يستهدفه ليس فقط في هويته الوطنية وفي كرامته الإنسانية ولكن في صميم وجوده كشعب حي يعيش على أرضه.
من هنا، وفي مواجهة هذا المشروع الاستعماري الاستيطاني (وعذرا من بعض “المعتدلين العرب” إذا خدشت هذه الكلمات الخشنة رقة مسامعهم)، لا يمكن أن تكون المقاومة إلا حقا مشروعا وضروريا للدفاع عن الوجود. لكن أي مشروع مقاومة سيكون مصيره حتما الفشل إذا لم يترافق مع مشروع سياسي واضح المعالم، تكون المقاومة قادرة من خلاله على جني المكاسب السياسية ومخاطبة العالم أجمع، بمن فيهم الأعداء قبل الأصدقاء. ولنا في تجربة “المؤتمر الوطني الإفريقي” وزعيمه نلسون مانديلا خير مثال على كيفية إدارة العمل السياسي والتمسك بحق المقاومة وكسب الرأي العام العالمي حتى الوصول إلى الأهداف الوطنية المرجوة.
مأساة “حماس” أنها في طبيعة تركيبتها لا تستطيع أن تمتلك مثل هذا المشروع السياسي، في حين تكمن فضيحة السلطة الوطنية الفلسطينية في أنها تخلت عن المقاومة مقابل وعود واهية بالتفاوض ثم التفاوض ثم التفاوض إلى ما لا نهاية. وإذا كان السبب الرئيسي الذي يقبع من أجله اليوم مروان البرغوثي في سجون الاحتلال هو دفاعه عن التلازم بين المشروع السياسي والعمل المقاوم، فإن خطيئته الكبرى كانت في قبوله التخلي عن الترشح إلى انتخابات الرئاسة في مواجهة محمود عباس، وإن من خلف القضبان.
لست من المتحمسين لـ”حماس” ولا من المؤمنين بتزمتها العقائدي ولا بمشروعها السياسي. غالب الظن أن الناس الذين أعطوا “حماس” أصواتهم في انتخابات المجلس التشريعي الماضية، إنما فعلوا ذلك احتجاجا على فساد السلطة وعلى استمرار الاحتلال وعلى تدهور الوضع المعيشي وعلى فشل مشروع التسوية، أكثر منه تأييدا لـ”حماس” وتوجهها السياسي ومنهجها العقائدي. مع ذلك فأنا لا أزال أؤمن أن الباب الوحيد لخروج “حماس” من السلطة هو الباب الذي دخلت منه، وسيكون من سوء الأمانة الأخلاقية إدانة التمرد العسكري الذي نفذته “حماس” في غزة من دون إدانة الانقلاب العسكري الأساسي الذي مارسته سلطات الاحتلال على نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية من خلال سجنها نواب “حماس” المنتخبين ديموقراطيا وفرضها العقوبات الاقتصادية على ناخبيهم من أبناء الشعب الفلسطيني، في ظل تواطؤ عربي
عيب. وها نحن اليوم نعيش الفصل الأخير من هذا الانقلاب العسكري الإسرائيلي على نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية. وبذلك تلتقي إسرائيل مع نادي الحكّام العرب على أن شعوبهم غير مؤهلة للممارسة الديموقراطية. من قال إن معركة التحرير لا علاقة لها بمعركة الحرية!
* كاتب سوري