البربرية ضد غزة: ليست اسرائيلية فقط… بل أورو ـ امريكية أيضا
صبحي حديدي
على نحو ما، بل على أكثر من نحو في الواقع، الحرب البربرية الوحشية الهمجية (وليعذرنا العقلانيون العرب إذْ نصرّ على استخدام هذه الصفات، مرّة تلو الأخرى)، التي تتعرّض لها غزّة منذ أسبوعين، ليست حرباً إسرائيلية فقط، بل هي حرب إسرائيلية ـ أمريكية مشتركة في المقام الثاني، وهي في المقام الثالث حرب إسرائيلية ـ أوروبية، لكي لا نقول غربية في العموم.
صحيح أنّ البرابرة على الأرض يحملون الجنسية الإسرائيلية، إلا أنّ السلاح أمريكي بنسبة 90’، والتغطية السياسية للعدوان، فضلاً عن مختلف أشكال التعتيم الإعلامي، أمريكية ـ غربية بامتياز، والحديث هنا يخصّ الحكومات والمؤسسات وليس الشعوب ذاتها، التي عبّرت عن مواقف مختلفة هنا وهناك.
وفي وسع المرء أن يبدأ من مواقف وزراء الخارجية الغربيين في اجتماعات مجلس الأمن الدولي، قبل يومين، ثمّ يعود إلى تصريح الحكومة التشيكية (بالنيابة عن رئاسة الإتحاد الأوروبي)، أنّ العمليات العسكرية الإسرائيلية دفاعية وليست هجومية؛ وفلسفة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، في تحميل ‘حماس’ مسؤولية العدوان؛ ومعزوفة الرئيس الأمريكي جورج بوش المكرورة، حول تنزيه إسرائيل من كلّ وأي ذنب. أمّا إذا ذهب المرء إلى أفراد مثل جون بولتون، المندوب الأمريكي السابق في مجلس الأمن الدولي؛ أو فرانسوا ليوتار، وزير الدفاع الفرنسي الأسبق؛ فإنّ الأخير يزمع السفر إلى إسرائيل للتضامن مع المستوطنين الإسرائيليين على الحدود مع غزّة، والأوّل يحثّ البيت الأبيض على انتهاز الفرصة وقصف المواقع النووية الإيرانية كوسيلة مثلى لدعم إسرائيل!
ولكن… هل من جديد في هذا كلّه؟ وهل تصحّ فينا حكمة كعب بن زهير: ما أرانا نقول إلا رجيعاً، ومعاداً من قولنا مكرورا؟ نعم، لأنّ القسط الأعظم من هذه التفاصيل تكرّر ويتكرّر، أو تردّد أو يتردّد رجيعه بقوّة، في وقائع سابقة؛ ولا، في الآن ذاته، لأنّ لكلّ واقعة علاماتها الفارقة في مستوى البربرية، وأبعادها المنفردة في عمق المأساة المرشحة للإستقرار عميقاً في ذاكرة الضحية. وعلى سبيل المثال، في السفسطة الأمريكية ـ الفرنسية حول الفوارق بين وقف إطلاق للنار لا يعيد الأمور إلى ما قبل 20/12/2008، أو هدنة دائمة تُقعد الصواريخ الفلسطينية وتضمن أمن إسرائيل دون أن ترفع الحصار بالضرورة، ألا نتذكّر الجدل البيزنطي الذي شهدته بروكسيل صيف 2006؟ آنذاك غرقت ديمقراطيات الإتحاد الأوروبي في معمعان التفريق اللفظي بين ‘وقف إطلاق النار’ و’وقف الأعمال العدائية’، وأمّا الوحش الإسرائيلي البربري الهمجي فقد كان يواصل الإجهاز على المزيد من المدنيين في لبنان، فيقتل عشوائياً، ولا يُبقي حجراً على حجر، برّاً وجوّاً وبحراً…
وفي الماضي، كانت صيغة الكليشيه المعتادة في اندلاع حروب إقليمية هي أن يسارع المجتمع الدولي إلى مطالبة الأطراف بوقف إطلاق النار فوراً، سواء كان الدافع هو التقليد البروتوكولي الصرف، أم فتح الباب أمام المساومات والصفقات وتحسين شروط التفاوض مع الخصم. الآن لم يعد المجتمع الدولي حريصاً على ورقة التوت إياها، وفي مثال عدوان 2006 رأت الولايات المتحدة أنّ وقف إطلاق النار ‘غير مفيد الآن’، وفي العدوان الراهن على غزّة ترى أنه ‘غير ممكن’ مع استمرار إطلاق الصواريخ الفلسطينية.
كذلك اتضح ـ من جديد… كما في جديد العتيق! ـ أنّ أوروبا العملاقة الموحدة، القارّة العجوز العريقة، وأمّ أنظمة الإستعمار وفلسفات الأنوار والأنظمة الديمقراطية في آن معاً، عاجزة تماماً عن اعتماد سياسة خارجية مستقلة قيد إنملة عن تلك السياسات التي تعتمدها الولايات المتحدة، إزاء سلسلة طويلة من الملفات الدولية الشائكة، وعلى رأسها قضايا الشرق الأوسط بالطبع. وإذا كان ساركوزي قد دخل على الخطّ وكأنه ما يزال يترأس الإتحاد الأوروبي (دون أن يخفي أنّ حرصه الشديد على أمن ‘إسرائيل، الديمقراطية الكبرى’، كان في صلب وساطته)، فإنّ الرئاسة التشيكية للإتحاد الأوروبي أعادت الأمور إلى نصابها القديم، فاقتفت درب واشنطن في الإنحياز الأعمى للدولة العبرية.
المثال الثالث، معاصرنا وحديث العهد دائماً، كان موضوعه التأييد الأوروبي الأعمى للغزو الأمريكي للعراق، حين اختار حفنة من قادة كبريات الديمقراطيات الغربية (سبعة بالتمام والكمال: الإسباني خوزيه ماريا أثنار، البرتغالي خوزيه مانويل باروسو، الإيطالي سيلفيو برلسكوني، البريطاني توني بلير، التشيكي فاكلاف هافل، الهنغاري بيتر ميجيساي، البولوني لاشيك ميللر، والدانمركي آنديرس راسموسن)، صحيفة ‘التايمز’ البريطانية لتوقيع بيان مشترك يدعو إلى الحرب ضدّ العراق. وفي اللغة والروحية، كان النصّ يتجرّد علانية من الضمير، ويمارس قلّة احترام الذات، واحتقار الشعوب، وغضّ البصر عن عذابات البشرية.
الفرسان السبعة لم يترددوا في رفع الفزّاعات ذاتها التي رفعها البيت الأبيض آنذاك، بل أضافوا إليها جرعة من المزاودة في الإعراب عن الإفتتان بالولايات المتحدة (والغمز بالتالي من الدول الأوروبية الأخرى التي لم توقّع هذا النصّ، وفي طليعتها فرنسا وألمانيا)؛ وجرعة ثانية من المزاودة على دور الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي: ‘نحن في أوروبا نرتبط مع الولايات المتحدة بعلاقات صمدت أمام اختبار الزمن. فبفضل شجاعة وسخاء وبُعد نظر أمريكا، بصفة أساسية، نجحنا في التحرّر من شكلين من أشكال الطغيان دمّرا القارّة في القرن العشرين: النازية والشيوعية. وبفضل التعاون المستمرّ بين أوروبا وأمريكا تمكنّا، أيضاً، من ضمان السلام والحرية في القارّة. والعلاقات هذه ينبغي أن لا تكون ضحية محاولات النظام العراقي المستمرة لتهديد الأمن الدولي’.
آنذاك، كان وزير الدفاع الأمريكي دونالد رمسفيلد يرى في الحرب على العراق فرصة ‘لاستئصال ازدواجية الموقف الأمريكي من استخدام القوّة، والتي خلّفتها فييتنام’، فضلاً عن تخليص البنتاغون من عقدة ‘الضربات الصاروخية’ التي طبعت الحقبة الكلينتونية. من جانبه كان ديك شيني، نائب الرئيس الأمريكي، يرى في الحرب على العراق فرصة لتخليص الوجدان الأمريكي من ‘أشباح الستينيات: فقدان السلطة الأخلاقية، والإحساس بأنّ أمريكا تضمحلّ أو تسير في الطريق الخطأ’.
الفرسان السبعة من جانبهم اعتبروا الحرب فرصة لـ ‘ضمان السلم والأمن العالميين’، وفرصة إضافية ــ وكذلك: فرصة ثمينة! ــ لكي يبرهن مجلس الأمن الدولي على ‘مصداقيته عن طريق ضمان الإلتزام التامّ بقراراته’. وكان يسيراً تماماً، وغير مدهش بالتالي، أن يتناسى الفرسان السبعة عشرات القرارات التي اتخذها المجلس ذاته في ملفّ الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وظلّت حبراً على ورق لأنّ الدولة العبرية ترفض تطبيقها، هكذا ببساطة. وكان تحصيل حاصل أن يتناسى زعماء الديمقراطيات الأوروبية أنّ الرئيس الأمريكي لفظ عبارة ‘دولة فلسطينية’ مرّة واحدة في خطاب استغرق ساعة كاملة، وكأنه كان يقول إنّ ما تمارسه سلطات الإحتلال الإسرائيلية في فلسطين المحتلة من مذابح وحشية وممارسات بربرية لا يهدد السلم والأمن العالميين، أو لا علاقة له بهما أبداً!
وفي قلب السجلّ الكوني لعربدة الولايات المتحدة تظلّ العلاقة الأمريكية ـ الإسرائيلية حجر زاوية، حيث يتمّ تبادل المنافع مثل تناقل الاستراتيجيات، ويجري التضامن على مبدأ نصرة الحليف ظالماً أو مظلوماً. وذات يوم بعيد هذه المرّة ــ في سنة 1796! ــ حذّر الرئيس الأمريكي جورج واشنطن الأمّة الأمريكية من الإنخراط في ‘ارتباط عاطفي’ مع أية أمّة أخرى، لأنّ ‘ذلك النوع من الإنخراط سوف يخلق وهماً عامّاً بوجود مصلحة مشتركة، والحال أنه لا توجد مصلحة مشتركة بين الأمم’. بعد أكثر من قرنين ارتأى جورج بول (الدبلوماسي المخضرم، وأحد أبرز مستشاري الرئيس الأمريكي الأسبق جون كنيدي) أن هذا الإرتباط العاطفي بين الولايات المتحدة والدولة العبرية بلغ درجة فاقعة صارخة فاضحة، تستدعي وضع كتاب كامل يرصد محطاتها منذ العام 1947 وحتى اليوم.
وجورج بول نصح الساسة الأمريكيين باعتماد مبدأ المثلّث في تمحيص العلاقة مع الدولة العبرية، بحيث يكون ضلع أوّل هو المصلحة القومية الأمريكية، وضلع ثان هو المصلحة القومية الإسرائيلية، وضلع ثالث هو المصلحة القومية العربية. الأيّام أثبتت، وما تزال، أن أضلاع المثلث الراهنة تسير علي نحو مختلف تماماً: ضلع أوّل هو المصلحة القومية الأمريكية، وضلع ثان هو المصلحة القومية الاسرائيلية، وضلع ثالث هو… المصلحة القومية لليهود الأمريكيين! أمّا المصلحة القومية العربية، فإنّ خير مَن يلقي بها إلى التهلكة، ويحيلها إلى هوامش النبذ والإهمال، هذه الأنظمة المستبدة الفاسدة الوراثية التابعة العاجزة، في طول العالم العربي وعرضه.
وما يجري في غزّة الشهيدة اليوم، على نهج ما جرى في لبنان صيف 2006 والعراق ربيع 2003، يعيد تظليل قسمات هذا النظام الدولي الذي استجدّ بعد سقوط جدار برلين وانهيار أنظمة الإستقطاب القديمة. الآن، بعد توسيع الحلف الأطلسي وغزو أفغانستان والعراق، لم يعد دهاقنة تحليل العلاقات الدولية مضطرين إلى تقليب الرأي في استقطاب أنغلو ـ ساكسوني (أمريكي ـ بريطاني) مقابل استقطاب أوروبي (فرانكو ـ ألماني)، وثالث آسيوي (هندو ـ صيني). صار في الوسع الحديث، اليوم، عن نظام أمريكي إمبراطوري، تشارك فيه أطراف ‘المجتمع الدولي’ على نحو من المحاصصة الوظيفية النسبية والتناسبية: للدولة العبرية أدوار غير تلك التي تتولاها بريطانيا، وعلى أستراليا أداء واجبات غير تلك الملقاة على عاتق اليابان، وفي وسع فرنسا أن تعترض أو تشاغب أو تتوسط، مثل ألمانيا أو إسبانيا، شريطة البقاء ضمن التعاقد الأعرض…
هذه، إذاً، محض مناسبة جديدة لتثبيت المزيد من قواعد تسيير العلاقات الدولية وفق نظام أورو ـ أمريكي، يُختصر بين الفينة والأخرى إلى مسمّى غائم مضلل هو ‘المجتمع الدولي’، اختصر المفكر الأمريكي نوام شومسكي أخلاقياته في العبارة الوجيزة التالية: ‘نحن السادة، وعليكم أن تمسحوا أحذيتنا’! وفي مقال حمل العبارة السالفة في عنوانه، اقتبس شومسكي وعد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين (الذي يتباكى عليه رجل مثل دافيد غروسمان) بأنّ ‘الفلسطينيين سوف ينكسرون’، مستعيداً نبوءة المستعربين الإسرائيليين الأوائل، في سنوات النكبة وتأسيس الكيان: ‘سوف يتحوّل الفلسطينيون إلى غبار بشر، وحثالة مجتمع’. وليس غريباً، في نظر شومسكي، أن تكون نظرات كهذه بمثابة محفّزات كبرة كي تطفح العنصرية الغربية تجاه الآخر العربي عموماً، والفلسطيني بصفة خاصة.
ويوم أمس تساءل الصحافي البريطاني روبرت فيسك، وهو المخضرم في تغطية ما حاق بالشرق الأوسط المعاصر من كوارث وغزوات ومجازر: ‘هل نسينا 17.500 قتيل ـ جميعم مدنيون تقريباً، ومعظمهم من الأطفال والنساء ـ في غزو لبنان سنة 1982؛ و1700 مدني فلسطيني قتيل، في مذبحة صبرا وشاتيلا؛ و106 مدنيين لبنانيين، نصفهم من الأطفال، قُتلوا في مجزرة قانا، سنة 1996، داخل ملجأ تابع للأمم المتحدة؛ ومجزرة لاجئي مروحين اللبنانيين، سنة 2006، الذين أمرهم الإسرائيليون بإخلاء منازلهم ثمّ قُصفوا بالحوّامات؛ و1000 قتيل خلال القصف ذاته، معظمهم من المدنيين’؟
الجواب ببساطة: نعم، لقد نسي السادة القادة في واشنطن وباريس ولندن وبروكسيل، وسواها من عواصم الغرب، ولهذا فإنّ البربرية ضدّ غزّة ليست إسرائيلية فقط، بل أورو ـ أمريكية أيضاً.
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –