المثقف.. والموقف الوطني
حنا عبود
المثقف ليس جهاز معلومات، ليس صندوقاً يجيب عن أسئلتك ساعة تشاء. مثقف من هذا النوع انتهى دوره في هذه الأيام، ففي مقدور أي فرد العثور على المعلومات التي يريد، في زمن أقل بمئات المرات من أيام الفيروزأبادي وابن خلدون. المثقف هو من يستخدم المعلومات للشأن العام، على اعتبار أن هذا الاستخدام يعود عليه بالنفع. إن لم يعمل المثقف بهذه الطريقة، واكتفى بالفائدة الفردية، انقلب إلى «فاوست» مخيف ومريع ومدمر. والثقافة
لا تقف عند حدود المعرفة، بل هي نشاط عملي، يتجلى في توظيف الابستيمولوجيا توظيفاً نظيفاً… في خدمة الشأن العام، الذي يخلق بيئة صحية مناسبة لخلق علاقات سليمة بين الناس.
أنواع كثيرة من المثقفين قدمها لنا الأدب. فهناك «راسكولنيكوف» دستويفسكي، الطيب القلب، الذي أراد أن يحل مشكلة البشرية الأولى، وهي الفقر، بقتل العجوز وأختها. وهناك «سانين» أرتسيباشيف الذي حاز على معلومات هائلة من الآداب والعلوم، ولكنه كان مستخفاً بالبشرية، يضعها خلف ظهره، ولا يأبه إلا بحياته العبثية. وهناك «بازاروف» تورجنيف، الفوضوي الرافض لكل القيم، والرافض في الوقت نفسه للعمل في بلورة قيم جديدة.
أما المثقف الذي دائماً نحنّ إليه ونكبر مواقفه، فهو «دون كيشوت»، له المجد. وقد درس الفيلسوف الأسباني أونامونو هذه الشخصية دراسة مستفيضة في كتابه «حياة دون كيخوتي» ورأى فيه الأنموذج البشري النبيل الذي خرج من ذاته بحثاً عن ذاته، والذي عمل الخير حتى لا يضطر إلى مكافحة الشر، والذي كان فارساً بفكره، وعاجزاً في جسده، ففشل، وكان فشله نصراً لقيمه. صحيح أنه أهمل نفسه أكثر من اللازم، وركبته الحماقة -ومن منا لا تركبه الحماقة- في بعض الأحيان، وساقه الغضب إلى مواقف مغلوطة التقدير… ولكنه في النهاية يعتبر المثقف الحقيقي الذي عمل في «العام» لتوفير بيئة تنشأ فيها العلاقات البشرية نشأة صحية سليمة.
المعارف والمعلومات والخبرة .. كلها لا تساوي شيئاً إلا إذا عرفنا الهدف من استخدامها. هناك معارف مغرضة ومعلومات مأجورة، وخبرة مرتهنة، كما هناك معارف ومعلومات وخبرة نقية من كل شائبة أنانية، أو عمل خاص محدود. فالثقافة هي بداية البناء السليم لأركان المجتمع. فهي منتجة، بل أشرف إنتاجاً من أي شيء آخر، إذا كانت تصب في الصالح العام.
يمكن العثور على عدد من الشخصيات المثقفة من هذا النوع، في العصور القديمة والعصور الحديثة، من أمثال بركليس، أو باستور. ولكن ليس هذا شأننا الآن، وإنما غاية ما نريده أن المثقف طاقة نقدرها بحسب هدفها، وبحسب ما ترفد به المجتمع من جوّ صحي وعلاقات نبيلة. ولو أردنا اختصار الهدف الأساسي للمثقف لقلنا إنه السموّ. ليس المقصود السموّ الفردي وحده، بل السمو الاجتماعي، السموّ بكل الظواهر التي يواجهها المثقف. وكلمة «المثقف» نفسها تعني «القويم» فالثقافة بهذا المعنى هي الاستقامة. وهل السموّ سوى استقامة في العلاقات الخاصة والعامة؟
الخلاصة أن المثقف هو العامل من أجل الحق والخير والجمال. وهو عمل أبدي لا ينتهي، ما دامت الحماقة البشرية مستمرة، ننتجها في حياتنا الفردية، كما ننتجها في مؤسساتنا «العلمية».
إذا حصلنا على مثقف من هذا الطراز، فلا حاجة بنا إلى الحديث عن «الموقف الوطني»، لأنه من باب تحصيل الحاصل. ومع ذلك لا بد من توضيح هذا الموقف من وجهة نظر «الثقافة السليمة» بكلمتين.. الموقف الوطني هو نصرة الحق. ولكن ما هو الحق؟
الحق هو أن تسمح لغيرك من الحرية بمقدار ما تسمح به لنفسك. الحق هو أن تتقبل من غيرك ما تفعله أنت بغيرك. وأي مواربة، أو بهتان عن الحق يؤدي إلى ضرب مفهوم الموقف الوطني. وربما كان مثال ريموند ديان يوضح لنا هذه الناحية.
عرفت هذه الفتاة الفرنسية أن هناك قطاراً يحمل أسلحة للجنود الفرنسيين في الفيتنام، فكمنت في طريقه، فاضطر القطار إلى أن يتوقف، وهجم أصدقاؤها وصديقاتها وأنزلوا الأسلحة، أو ما أمكن إنزاله منها .. وكانت النتيجة أن توقفت رحلة القطار إلى الفيتنام .. وانسحبت فرنسا، لتحل محلها أميركا.
حدث هذا في بداية الخمسينيات، فلما وصلتنا صورة هذه الفتاة على صفحات مجلة «الطريق» اللبنانية، استنسخناها عند المصوّرين، وعلقناها على جدران غرفنا. وظلت مثلاً رائعاً للموقف الوطني، وكنا دائماً نستشهد بكلماتها أمام المحكمة: «لو لم أفعل هذا لخنت وطني، فكما أدافع عن حرية هذا الوطن، فإني آنف أن يستعبد وطني أوطاناً أخرى. إن الحرية بداية السلام، والاستعباد بداية الدم». عادت إلينا ذكريات ريموند ديان، بعد الذي شاهدناه وسمعناه وقرأناه في الفضائيات والإذاعات والمجلات والصحف من مواقف بعض «المثقفين» العرب، الذين يجعلون من العدوان حرباً ذات طرفين: إسرائيل وغزة!!! بل يجعلون المسؤولية تقع على عاتق فئة لا حول لها ولا طول، متجاهلين الترسانة العسكرية التي هجّرت شعباً بكامله، وتريد اليوم أن تسحق إرادته.
والأغرب من ذلك أن يأتي هؤلاء «المثقفون» بـ«حقائق» و«وثائق» تثبت أن خارق التهدئة مسؤول عن الحرب، متناسين كل الاستعدادات التي قام بها جيش جبار طاحن، وكل التصريحات التي سبقت العدوان.
كم يحتاج العرب والإسرائيليون، بل والعالم بأسره لأمثال ريموند ديان حتى يتوقف العدوان، ويصبح الحق قوياً، وتظهر الثقافة السليمة؟
كاتب من سورية