ناظم حكمت مواطناً: لم تعش لرؤية ذلك اليوم… وكذلك نحن
حسين جمّو
أثار القرار الأخير للحكومة التركية بإعادة الجنسية والاعتبار لشاعر تركيا الاكبر ناظم حكمت والذي اعلنه نائب رئيس الحكومة جميل جيجك الحديث مجددا حول المدى الذي يمكن ان تذهب إليه الحكومة التركية في التصالح مع ذاتها، وما إذا كان ذلك يشكل بداية الاعلان عن نهاية الصراع الأيديولوجي التي شهدتها تركيا بين معسكري اليمين واليسار والذي تحول في السبعينات والثمانينات إلى مواجهات مسلحة وقتال في الشوارع بين التنظيمات اليسارية التي انخرط فيها العلويون والأكراد بشكل أساسي وبين معسكر اليمين الذي تزعمه حزب الحركة القومية.
الحكومات التركية المتعاقبة رفضت التصالح حتى مع رفات شاعرها الذي توفي في موسكو عام 1963 وما يزال مدفونا هناك، ولم تشفع له حتى وصيته المليئة بالعاطفة والحنين حيث كتب قبيل وفاته في موسكو قصيدة أعاد الكاتب في صحيفة توداي زمان التركية، ياووز بايدر، نشرها بعد الأنباء التي تحدثت عن نية الحكومة إعادة الجنسية له جاء فيها:
رفاقي، إذا لم أعش لرؤية ذلك اليوم
ـ أعني لو مت قبل ان تأتي الحرية ـ
خذوني بعيدا
وادفنوني في مقبرة قرية اناضولية
الصحافي رفيق أردوران الذي ساعد حكمت على الهرب، رحب بالخطوة ووصفها بالايجابية، لكنه تساءل عن سبب التأخر في تصحيح مثل هذه الأخطاء. وأضاف أردوران إذا كانت هذه الخطوة هي للاستثمار السياسي، فانا أدعو كل حزب سياسي لفعل الشيء نفسه.
اما أحمد هاكان، الصحافي العلماني، فرحب بذلك ايضاً معتبرا ان الأمر لا يهم إذا كانت هذه رسالة سياسية ام لا، قلت سابقا أن هذه الحكومة ستجعلني عضوا في حزب العدالة والتنمية.
المحاولة الأولى لاستعادة الجنسية لناظم كانت في حزيران 1988 بطلب قدمته أخته سامية في الذكرى الخامسة والعشرين لوفاته، إلا ان الرد على هذا الطلب لم يأت، وفي عام 1993 رفضت المحكمة الادارية طلبا آخر من سامية، وفي عام 2001 أحبط حزب الحركة القومية ورقة اعدها وزير الثقافة في الحكومة الائتلافية عن حزب اليسار الديمقراطي استميهان تالاي. وفي عام 2006 أعد حقي اولكو، النائب عن حزب الشعب الجمهوري طلباً تم رفضه.
أورال جاليشلار من صحيفة راديكال اليسارية شكك في نظرة بعض المجموعات السياسية التي لا تزال ترى ان حكمت ما هو إلا مجرد خائن، والسبب في ذلك، حسب جاليشلار، انه ما تزال هناك مراكز لانتاج الفكر التخويني، وحكمت كان احد هؤلاء الذي تعرضوا لهجوم هذه المراكز، كما تعرض غيره مثل الكاتب الساخر عزيز نيسين وعابدين دينو وهرانت دينك الذي قتل على يد متطرف تركي في مطلع 2006 والمخرج الكردي يلماظ غوناي الذي انتزعت عنه الجنسية هو الآخر، والمغني اليساري الكردي أحمد كايا والروائي أورهان باموك وغيرهم، وبالتالي ربطها الكاتب بمدى استمرارية هذه الخطوة الذي وصفها بقوله ” إذا كانت خطوة إعادة الاعتبار لناظم حكمت ستستمر فإن تركيا ستنتصر”.
وزير الثقافة إرتوغرول غوناي، حسبما نقلت عنه صحيفة حريتن لم يخف أن الخطوة القادمة بعد ناظم حكمت ستكون إعادة الاعتبار للمخرج يلماز غوناي، وقال “لن ندخر جهدا لتصحيح أي خطوة غير عادلة تمت في الماضي”. غوناي هرب من السجن عام 1981 واستطاع الوصول إلى فرنسا، ثم جردته الحكومة التركية من جنسيته عام 1983، ودفن في فرنسا.
بعد 58 عاماً من تجريده من الجنسية و47 عاماً من وفاته يتم التفكير بإعادة الاعتبار لناظم حكمت. خلال هذه الفترة الزمنية ظهرت قوى سياسية ثم انقرضت، وتغيرت طبيعة الصراع الاجتماعي في البلاد، وانهار الاتحاد السوفياتي وسقط نظام البعث في العراق وهزم جمال عبد الناصر عام 1967. كل هذا على الصعيد الاقليمي والدولي. داخلياً، سقطت حكومة الحزب الديمقراطي بانقلاب عسكري عام 1960 وأعدم رئيس الحكومة التركية عدنان مندريس الذي أصدرت حكومته قرار تجريد ناظم حكمت من جنسيته عام 1951، وحدثت بعدها ثلاثة انقلابات اخرى تغيرت خلالها طبيعة الصراع السياسي وظهرت قوى سياسية جديدة، واستلم حزب الرفاه السلطة منتصف التسعينات وأطاحه العسكر وزعيمه نجم الدين أربكان عام 1997، ومنذ عام 2002 استلم حزب العدالة والتنمية الحكومة ثم استطاع السيطرة على منصب الرئاسة عام 2007 بعد فوزه مرة أخرى في الانتخابات. خلال هذه الفترة أيضاً تمت إبادة اليسار بعد انقلاب 1982 وبدأ حزب العمال الكردستاني كفاحه المسلح منذ منتصف الثمانينات وسقط عشرات الآلاف في المواجهات التي ما تزال مستمرة، ودخلت النائبة الكردية ليلى زانا السجن عام 1994 وبقيت في زنزاتها مع رفاقها عشر سنوات، وخرجت من السجن ومن المحتمل ان تعود إليه مرة أخرى.
هذه عينة صغيرة وسريعة من يوميات سياسية منذ تجريد ناظم حكمت من جنسيته، والآن تعاد إليه الجنسية. الكل يعلم بمن فيهم من اصدر قرار التجريد من الجنسية أن ناظم حكمت اكبر من الجنسية ومن شهادة ميلاد مكتوبة على ورقة ومهمورة بختم مصنوع من الخشب، لكن القرار وقتها صدر. الآن يقول من يريدون إعادة الاعتبار لناظم حكمت ان القرارات غير العادلة يجب تصحيحها. وهذه بادرة إيجابية وتستحق التحية أيضاَ، لكن، إذا كان خطأ تجريد شخص من الجنسية استغرق 58 عاما لمعالجته، فماذا عن حزمة المشاكل التي تعاني منها تركيا وتعيق تقدمها وهي أصبحت مشكلات مزمنة ومتداولة لدرجة ان أي شخص من أي جزء من العالم يتصفح الانترنت ترفيهياً سيعرف ان هناك أكثر من عشرين مليون كردي في تركيا يعيشون ظروفا نفسية وقانونية كتلك التي كان يعيشها ناظم حكمت، وهناك أرواح مليون ونصف مليون أرمني تنتظر كلمة واحدة: الاعتذار. فهل سيشكل إعادة الاعتبار لناظم حكمت بداية كسر الخطوط الحمر في الثقافة السياسية التركية؟ الأمر يتعلق بالوتيرة الزمنية التي ستتم فيها هذه المراجعات التي لا تحتمل التأجيل، وكل ساعة من تجاهلها تخسر تركيا رصيدا ماديا ومعنويا وثقافيا من حيويتها التي تتمتع بها والتي يمكن ان تجعل منها قوة معتبرة على الساحة الدولية.
لكن، إذا كان تجريد ناظم حكمت من جنسيته خطأ، فمن الذي ارتكب هذا الخطأ؟ وطالما كان الحكم ساريا حتى بعد وفاته 47 عاماً فهل سيطالب أنصار الثقافة الديمقراطية بمحاكمة رمزية لمن تسببوا بكل هذا الألم لشاعر بحجم ناظم حكمت؟
صحيفة حريت نشرت قصيدة لناظم حكمت كتبها عام 1962 قبل عام على وفاته، ردّ فيها على من نعتوه بالخائن.
إذا كنت أنت هو الوطني والمدافع عن الوطن
فأنا خائن
إذا كانت الوطنية هي مزارعك
وإذا كانت هي ممتلكاتك وودائعك المصرفية
أو الموت جوعا على جانب الطريق
ومصّ دمائنا في مصانعك
وإذا كان الوطن هو هراوة الشرطي
إذا كانت الوطنية هي القواعد والقنابل والصواريخ الأميركية
إذاً، أنا خائن.
وكتب في خريف عام 1944 في رسالة لكمال طاهر:
“إن الذين يتهموننا بخيانة بلدنا هم بعض المخبرين ونماذج اخرى من هذا النوع، بينما الآخرون، رئيس الجمهورية نفسه يسميهم خونة.لكن من الواضح أن البعض فقط من هؤلاء تم كشفهم فيما الكثيرون ما زالوا يتآمرون ضد الجمهورية والديمقراطية بحجة النضال ضد الشيوعيين. ومع هذا، عاشت الحياة، عاشت تركيا.عاش الشعب التركي العظيم.
هذه الكلمات تدعو كل سياسي لا يمت بأي صلة للظلم الذي تعرض له ناظم حكمت إلى الخجل، لأن كل سياسي يمكن ان يكرر هذه السلوك مع ناظم حكمت آخر في بلده. أما ما يدعو واحداً مثلي ـ تفادياً للتعميم ـ للخجل فهو كل قصيدة لناظم حكمت فيها ذلك الحس الانساني المتطرف ضد الذاتية والأنانية:
إذا لم أحترق أنا
وتحترق انت
ونحترق نحن
فمن ذا الذي
ينير هذه الظلمات؟
ولد ناظم حكمت في مدينة سالونيك (اليونانية حاليا) عام 1902، وشارط في حرب الاستقلال التي خاضها مصطفى كمال أتاتورك. ثفي عام 1921 التحق ببعثة دراسية إلى موسكو وتخرج عام 1924. عاد سرا إلى تركيا بعد التنكيل بالشيوعيين الذي بدأه أتاتورك بقصف السفينة التي كانت تقل زعيم الحزب الشيوعي التركي مصطفى صبحي عام 1921 في البحر الأسود حيث كان عائدا من موسكو بعد أن أسس الحزب. وعمل ناظم في مجلة آيدنليك الشيوعية ونشر مقالاته باسم أورهان سليم، تسلم رئاسة تحريرها بعد الاعتقالات التي طالت كوادر المجلة أسوة بالشيوعيين. حوكم عدة مرات، لكن كان يطلق سراحه بعد فترة حتى عام 1938 عندما حوكم لمدة 28 عاما بتهمة تحريض الجيش على العصيان على خلفية قصيدة استلهم فيها ثورة الشيخ بدر الدين في القرن الخامس عشر ضد العثمانيين.
دخل عام 1948 في إضراب عن الطعام حتى اعتلت صحته لدرجة خطيرة.قضى في السجن في حكمه الأخير 12 سنة وسبعة أشهر، حيث أطلق سراحه بعد تسلم الحزب الديمقراطي الحكم عام 1950 وأفرج عنه بعفو سنة 1951، ورغم ظروفه الصحية السيئة إلا أنه تلقى استدعاء للالتحاق بالجيش، فقرر الهرب من استانبول وخرج في حزيران 1951 إلى رومانيا عبر زورق صغير بمساعدة قريبه أردوران، وسحبت عنه الجنسية في 25 يوليو 1951 بقرار وزاري.
حصل على الجنسية البولندية واختار اسم بورجنسكي ليصبح ناظم بورجنسكي في السجلات الادارية البولندية. وتزوج من فيرا تولياكوفا اواخر 1960. والتقى بعدها بسنة بزوجته السابقة منور وابنه محمد، وحصل على جواز سفر سوفياتي عام 1962، وتوفي في موسكو في 3 حزيران 1963 ودفن هناك.
وصفه سعيد عقل بقوله: ناظم حكمت ثالث اثنين، دانتي وشكسبير”. ولعل أبلغ وصف له جاء من الروائي السوري حنا مينا في كتاب بعنوان “ناظم حكمت….السجن، المرأة، الحياة ” بأنه كان خاليا من الازدواجية المقيتة ما بين الفنان وسلوكه والتي هي في جوهرها عجز عن المواجهة حين يكون على المرء ان يعيش ما قاله. ناظم حكمت باختصار عاش ما قاله.
في قصيدته “منذ دخولي السجن”، كتب ناظم حكمت:
منذ دخلت في غياهب السجن
دارت الأرض حول الشمس عشر دورات
فإذا سألتموها قالت لكم:
هذا الزمن القصير لا يرى بالمجهر
وإذا سألتموني أجبتكم:
إنها سنوات عشر من عمري
في العام الذي دخلت السجن
كان معي قلم رصاص
وظل يكتب حتى فني في أسبوع
فإذا سألتموه قال لكم:
إنها حياة كاملة
وإذا سألتموني أجبتكم:
إنه أسبوع
فيا أيها الانسان، لا تبال.
حسناً، إنها 58 عاما، قلت لنا لا تبالوا، كيف؟، وهل انا مثلك أترجم الكتب في السجن، وأحيك الثياب للأصدقاء، واعيد تركيب نول القطن؟، كنتَ رأسمالياً، ولم تجمع ليرة واحدة في حياتك، رأسمالياً بالأمل الذي كان لديك، ذاك الذي آثرت تأميمه، ووزعته على رفاق الزنزانة، قلتَ لا بصوت عالٍ، ولديّ “نعم” يأكل احترامي، يهينني ويهينك، لأنني أحبك ـ ويا للخجل ـ دون أن أبدو مثلك.