معضلات “القوة الذكية” في منطقتنا
جهاد الزين
تحظى النخبة من السياسيين والديبلوماسيين المهتمين بالسياسة الخارجية، المحيطة بالرئيس الاميركي المنتخب باراك اوباما، ومنها من اختاره او سيختاره لمواقع قيادية في السياسة المقبلة في الشرق الاوسط… تحظى بترحيب ملفت في وسائل الاعلام الاميركية… اذا لم يكن بنوع من الترويج او على الاقل – للدقة – بنوع من “التسهيل” لمبادرته المقبلة في المنطقة، سواء حيال الصراع العربي – الاسرائيلي او حيال ايران. واذا كان هذا الترحيب، ومنه ما يتعلق بالاشادة ببعض شخصيات فريق السياسة الخارجية، اقل من الترحيب السريع الذي تلقاه فريق اوباما الاقتصادي، فهذا لا يمنع من تشكيل الانطباع بأن الاجواء داخل اميركا مهيأة لدعم مبادرات الرئيس الجديد في مجال السياسة الخارجية، وبصورة خاصة بعد الحرب على غزة، في الشرق الاوسط.
امس اظهرت جلسة الاستماع لهيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية المقبلة، هذه الرغبة بالتغيير “النوعي” في السياسة الخارجية، باعتبارها، بعد الاقتصاد، باتت تتعلق بـ”صورة اميركا في العالم”. وهذا ما تلقفته السيدة كلينتون أمس بشعارها الذي اطلقته عن اتباع ادارة اوباما لـ”استراتيجية قوة ذكية” في الشرق الاوسط. كما ان جلسة الاستماع نفسها عززت ما تنبأت به “الواشنطن بوست” مسبقا عن ولادة “تريو” (ثلاثي) جديد للسياسة الخارجية الاميركية في المرحلة المقبلة يتألف من الرئيس اوباما، والسيدة كلينتون، والسيناتور جون كيري المرشح السابق للرئاسة الذي اصبح رئيسا للجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ.
اجواء الترحيب في الاعلام تشمل لا السياسيين في القمة فقط، بل ايضا مستشارين من وزن برانت سكوكروفت مستشار الامن القومي السابق في عهد الرئيس جورج بوش الاب الذي عارض بشكل منهجي سياسات جورج بوش الابن وهو اليوم احد اقرب مستشاري السياسة الخارجية المسموعين لدى باراك اوباما. فمجلة “التايم” في عددها قبل الاخير خصصت مقالا لاحد معلقيها الاساسيين جو كلاين وصف سكوكروفت فيه بـ”الرجل الحكيم” متوقفا عند موقفه الداعي الى ديبلوماسية ديناميكية لدعم تسوية “الدولتين” في الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي. طبعا من الضروري الاشارة هنا، بل تكرار الاشارة في هذه الزاوية، الى ان سكوكروفت مع “حكيم” اعتق في السياسة الخارجية هو مستشار الامن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر زبيغنيو بريجنسكي كتبا قبل اسابيع مقالا مشتركا دعيا فيه الرئيس الجديد، ليس فقط الى اطلاق مبادرة حيوية لحل الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي بل ايضا، وبشكل غير مألوف من الرؤساء الاميركيين السابقين، الى استهلال اوباما لمبادرته باعلان “عناصر الحل” المطلوب التي هي اربعة في رأيهما: القدس، الحدود، اللاجئون، المستوطنات. فهل نتخيل اي وقع سيكون لمبادرة كهذه اذا تبناها اوباما كما ارادها هذان “الحكيمان” حين يعلن رئيس الولايات المتحدة قبل انطلاق المفاوضات ان احد عناصر الحل هو “القدس عاصمة لدولتين”؟ وهذا ما لم يجرؤ عليه رئيس حتى الآن حيال الاسرائيليين… فهل فعلا نتخيل؟!
على مستويات اخرى، اسماء مثل دينيس روس، ريتشارد هاس، مارتن انديك، نشيطة جداً حالياً في اعلان افكارها التسووية وهي كلها اسماء خبراء مكرسين من عهد الرئيس بيل كلينتون. فقارئ الـ”فورين افيرز” في عددها الاخير سيجد أن هاس وانديك كتبا مقالا مشتركا يكاد يكون برنامجا تفصيليا للسياسة الاميركية في الشرق الاوسط بكل دوائرها المنفصلة والمتداخلة: اسرائيل، ايران، سوريا، “حماس”، “القاعدة”، الخ… وفيه امران غير ملتبسين: وضوح الدعم لاسرائيل، ولكن وضوح حساسية لا نعرف من الآن مدى تطبيقها العملي، هي تأكيد الحاجة الى ديبلوماسية تسوية ديناميكية. لكن في المقال نفسه يشير الكاتبان بشكل عابر – وليس مركزا – الى “حل الدولتين” بتعبير مشروط: “… اذا كان لا يزال قابلا للتطبيق العملي”، فيما يسجلان ملاحظة ملفتة هي ان من ميزات اطلاق سلام سوري – اسرائيلي انه “قابل للتطبيق السريع” خلافا للتسوية الفلسطينية – الاسرائيلية التي يطرحان الاسئلة حول اهلية القوى الفلسطينية الحالية على تنفيذ التزاماتها العملية حيالها.
اذن… الاجواء فعلا مهيأة لتحرك ديبلوماسي سريع ورؤيوي للرئيس اوباما لحظة تسلمه سلطاته في العشرين من الشهر الجاري. والسؤال الآن ليس حول ما اذا كان باراك اوباما موافقا على العملية الاسرائيلية ضد “حماس” في غزة. فالسؤال هكذا يصبح ساذجا لانه لا شك بان عملية كهذه لا يمكن ان تحصل بدون موافقة الرئيس الاميركي المنتخب في سياق العلاقات الاميركية – الاسرائيلية، وانما السؤال الفعلي ما اذا كانت نتائج الحرب التي هي حرب متوحشة على كل غزة، ستساعد على “التسهيل” السياسي لمبادرة اوباما شبه المؤكد المنتظرة كما يفترض في حسابات تحالف القوى التي قامت بها ووافقت عليها وغضت النظر عنها، او انها ستعزز “قوى الممانعة” في المنطقة؟
من الناحية السياسية، اذا نجحت “المبادرة المصرية المعدلة” بالوساطة التركية الفاعلة بين دمشق والقاهرة و”حماس”، في تأمين وقف لاطلاق النار ضمن قواعد مراقبين دوليين على حدود قطاع غزة لكن من داخله لا على الحدود المصرية، مقابل الانسحاب الاسرائيلي. فمعنى الامر ان شكلا ما من اشكال تغيير لـ”قواعد اللعبة” يرتسم حتى ولو لم يكن على قاعدة هزيمة ساحقة لـ”حماس”… وقد يكون ذلك في حسابات الادارة الاميركية هدفا مسبقا للانطلاق في المبادرة الجديدة. لكن هذا النوع من النتائج حتى ضمن ضربة عسكرية توجهها آلة الجيش الاسرائيلي ليس مضمون الترجمة الطويلة الامد سياسيا… كما ظهر في لبنان. فالقرار 1701 غيّر بالتأكيد “قواعد اللعبة” التي كان فيها “حزب الله” مطلق اليد قبل حرب 2006. واوجد قيودا جدية، لكن في الحصيلة تمكن “حزب الله” ومراجعه الاقليمية، كما حلفاؤه المحليون من تحويل الحرب الى انتصار سياسي في المعادلة اللبنانية على حساب اخصامهم المحليين ومراجعهم الاقليمية ايضا. وبالتالي الى انتصار إقليمي.
هذا في المدى المنظور، وإن كان ما حدث في لبنان ليس بالضرورة ان يتكرر “ميكانيكيا” في فلسطين، انما طبيعة الصراع التاريخي وتحولاته في الاطار الفلسطيني قد تؤدي الى معضلات مباشرة وعميقة ثقافية كما سياسية اذا ازداد الضعف البادئ اصلا في الاوصال الاجتماعية السياسية الايديولوجية لاخصام “حماس” الفلسطينيين، وهذا قد يعني – قياسا لتجارب تاريخية – ان انتصارا اسرائيليا حتى… قد يترافق بشكل جدلي مع انتصار “حماس” في الداخل الفلسطيني من حيث قوة الاستقطاب. بهذا فان اول المشاكل البادئة عمليا للقوى الداعمة لمشروع التسوية، اي حل الدولتين، فلسطينيا وعربيا واقليميا ودوليا، هي استمرار وجود قوة قادرة على قيادته فلسطينيا وهو الدور الذي لعبته تاريخيا حركة “فتح” بل اسسته عربيا حركة “فتح”. انما الآن؟
هذا على افتراض ان توفير شروط انخراط “حماس” في مشروع الدولتين اصبح مغلقا… مع ان مراجعة تجربة السنوات الثلاث المنصرمة، وخصوصا منذ فوز “حماس” في الانتخابات، تُظهر أنها فتحت المجال لتطور “سلمي” تدريجي لموقف “حماس”… ودمرته في الواقع – اي هذا التطور – جلافة موقف ادارة بوش في رفض اي حوار مع “حماس”. مع العلم ان المنظمة ارسلت يومها عددا من الاشارات، بما فيها من خلال “حكومة الوحدة الوطنية” لم تتلقفها، بل لم ترد ان تتلقفها اسرائيل ولا واشنطن ولا حتى مع الاسف الاتحاد الاوروبي… اشارات… آخرها كان في اتفاق مكة بين الرئيس محمود عباس وخالد مشعل.
الافق ليس مغلقا… لاسيما اذا بدا المسار السوري – الاسرائيلي مفتوحا على تسوية جادة، هناك اجماع على ان عناصرها الثنائية، اي بين دولتي سوريا واسرائيل جاهزة في النص، وانما غير الجاهز هو ما نسميه – وبات اهم من المعاهدة الثنائية – “التفاهمات” حول متغيرات المحيط الاقليمي وفي مقدمها الوضع في جنوب لبنان.
النهار