صبحي حديديصفحات العالم

كيسنجر حول غزة: خلائط النظام الدولي الجديد/القديم

null
صبحي حديدي
لا يكاد المصطلح يغيب برهة، شهراً أو بضعة أسابيع، حتى يعود مجدداً فيجري على ألسنة وأقلام ساسة أمريكيين، في سدّة السلطة أو في التقاعد، ويسارع إلى إعادة إنتاجه وتسويقه صحافيون ومعلّقون وخبراء في أحوال الكون الجيو ـ سياسية.
ومنذ أن أطلقه الرئيس الأمريكي الأسبق وودرو ولسون في أعقاب الحرب العالمية الأولى، شهد مصطلح ‘النظام الدولي الجديد’ سلسلة استخدامات دلالية ومفهومية، دون أن يتبدّل محتواه الحاسم: أنه غطاء، نظري ثمّ عملي، للهيمنة الأمريكية على شؤون الكون، وتعزيز لنظام القطب الواحد، سيّما حين تندلع أزمة ما. ولعلّ أشهر تكرار للمصطلح في الذاكرة المعاصرة جرى خلال قمة مالطا سنة 1989 بين الزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف والرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، ثمّ تحويل تحالف ‘حفر الباطن’ وعمليات ‘عاصفة الصحراء’ إلى ما يشبه الترجمة العسكرية للمصطلح.
وبالأمس، في تحليل المشهد الكوني على أعتاب ولاية الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما، نشر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر مقالة بعنوان ‘الفرصة من أجل نظام دولي جديد’، اعتبر فيها أنّ ‘الطبيعة غير المستقرّة للنظام الدولي’ هي ذاتها التي ‘تستولد فرصة فريدة للدبلوماسية الإبداعية’… في لائحة طويلة من الملفات: الإنهيار المالي، الاقتصاد العالمي، ‘الإرهاب الجهادي’، العلاقات الأطلسية، العلاقات الأمريكية ـ الصينية، ونزعة العمل الأحادي. وختم كيسنجر يقول: ‘إنّ تعقيد العالم المنبثق يقتضي من أمريكا مقاربة تاريخية أكبر من مجرّد الإلحاح على أنّ لكلّ مشكلة حلا نهائيا متجسدا في برامج ضمن آجال زمنية محددة، لا تتجه دائماً نحو سيرورتنا السياسية. ولا يمكن لنظام عالمي أن يدوم إلا إذا تشاركت أطرافه ليس في بنائه فحسب، بل في حمايته أيضاً. وبهذه الطريقة تملك أمريكا وشركاؤها فرصة فريدة لتحويل برهة أزمة، إلى رؤية أمل’.
هل ثمة فرصة في أن تكون الحرب الهمجية على غزّة، أو حتى ما يسمّى ‘العملية السلمية’ بين العرب وإسرائيل، على لائحة شيخ الدبلوماسية الأمريكية في رؤياه للنظام الدولي الآتي؟ كلا، البتة، وما عدا تصريح مقتضب للغاية على شاشة CNBC (اجترّ فيه مقولة أنّ إسرائيل انسحبت من غزّة، وهي اليوم لا تقوم بشيء آخر سوى الردّ على صواريخ ‘حماس’، معتبراً أن الموقف ‘معقد’، وحثّ الدول العربية المعتدلة على التدخّل لكي لا تصبح غزّة مركز تهديد لأمن إسرائيل!)، ليس للحرب على غزّة أيّ مفعول أو نصيب في هذا النظام الدولي الجديد الذي يقترحه كيسنجر على أوباما. ولعلّ المرء يقرن أفكار هذه الأيام، العريضة الكونية الجيو ـ سياسية ـ اقتصادية، بأفكار الرجل في الأمس القريب، بصدد ملفّ واحد محدد هو الوجود العسكري الأمريكي في العراق.
ففي مقالة مسهبة بعنوان ‘دروس من أجل استراتيجية مخرج’، تعود إلى صيف 2005، باح كيسنجر بكثير ممّا كان مسكوتاً عنه، وإن ظلّ مفضوحاً عملياً منذ البدء، حول التماثلات المتزايدة بين التورّط العسكري الأمريكي في فييتنام، والإحتلال الأمريكي الراهن للعراق، من جهة أولى؛ ومآلات الهزيمة العسكرية هناك، وعواقب استعصاء المخرج الأمريكي هنا، من جهة ثانية؛ فضلاً، من جهة ثالثة، عن ذلك الدرس العتيق الكلاسيكي الصائب أبد الدهر: أنّ كسب أية حرب لا يعني كسب سلامها، أو إنجاز أيّ سلام ربما! ولقد جاءت في المقال هذه الفقرة، الصاعقة كما يتوجب الإعتراف: ‘من المؤكد أنّ التاريخ لا يكرّر نفسه بدقّة. فييتنام كانت معركة تخصّ الحرب الباردة؛ وأمّا العراق فهو أحدوثة Episode في الصراع ضدّ الإسلام الجذري. لقد فُهم أنّ تحدّي الحرب الباردة هو البقاء السياسي للأمم ـ الدول المستقلة المتحالفة مع الولايات المتحدة والمحيطة بالإتحاد السوفييتي. لكنّ الحرب في العراق لا تدور حول الشأن الجيو ـ سياسي بقدر ما تدور حول صدام الإيديولوجيات والثقافات والعقائد الدينية. ولأنّ التحدّي الإسلامي بعيد النطاق، فإنّ الحصيلة في العراق سيكون لها من المغزى العميق أكثر ممّا كان لفييتنام’.
هل احتلال العراق محض ‘أحدوثة’، ليس أكثر؟ كنّا، وفق التنظير العقائدي الأمريكي المحافظ (قديمه وجديده) قد قرأنا وسمعنا أنها ستكون محطة فاصلة كبرى في تارخ الحملات الصليبية الأمريكية، بل والغربية إجمالاً، من أجل الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وحقّ المجتمع الدولي في تعديل أو حتى إغفال أو إسقاط مبدأ ‘السيادة الوطنية’ من أجل الصالح الإنساني العام، إلخ… إلخ…؟ وهل الخشية، كلّ الخشية، هي احتمال قيام ‘حكومة على شاكلة الطالبان’ أو ‘دولة أصولية راديكالية’ كما يخشى كيسنجر؟ ألم يكن العراق، ساعة احتلاله، دولة ‘علمانية’ بحسب التوصيف الأمريكي ـ الغربي، وذلك رغم نظام صدّام الإستبدادي الشمولي (كما نقول نحن وسوانا، وكما لم تقلْ أمريكا إلا متأخرة جداً)؟ وهل نفهم الآن أنّ احتلال العراق لم يكن لتدمير أسلحة الدمار الشامل، ولا لإنقاذ العراقيين من نير الدكتاتور، ولا لصناعة وإهداء الأمثولة الديمقراطية إلى الجوار والمحيط الشمولي الإستبدادي بأسره، وإنما من أجل… أحدوثة جديدة في الصراع ضدّ الإسلام الراديكالي؟
التاريخ، حسب بروفيسور التاريخ هنري كيسنجر، لا يكرّر نفسه بدقّة. ولكنّ التاريخ قد يكرّر نفسه بدقّة أقلّ ربما، أو على النحو الذي عبّر عنه كارل ماركس ذات يوم في صياغة لامعة خالدة: مرّة في صيغة مأساة، والأخرى في صيغة مهزلة! الأرجح أنها، في ذلك، مهزلة سوداء دامية تمنح الجحافل الهمجية الحديثة ترخيصاً مطلقاً في انتهاك الأعراف والقوانين والحقوق، وحداثياً قي تطبيق أقذر أنواع الأسلحة وأشدّها فتكاً بمدنيين عزّل أبرياء. وليس من فارق كبير في أن يُصنّف تأويل احتلال العراق بالأمس، مثل تغطية البربرية الإسرائيلية في غزّة اليوم، ضمن ركام مواقف كيسنجر المهزلة أو كيسنجر المأساة، خصوصاً إذا مارس المرء تلك الرياضة المستحبة في ربط الحاضر بالماضي، أو في أقلّ تقدير عدم فصل الموقف الحاضر عن المواقف الماضية.
هنا، من جديد، لائحة مختصرة:
ـ موقف نصيحة الدولة العبرية بسحق الإنتفاضة ‘على نحو وحشيّ وشامل وخاطف’، وهذه كلمات كيسنجر الحرفية التي سرّبها عامداً جوليوس بيرمان، الرئيس الأسبق للمنظمات اليهودية الأمريكية؛
ـ الموقف ‘التشريحي’ المأثور من الإحتلال العراقي للكويت، ودعوة بوش الأب لتنفيذ ضربات ‘جراحية’ تصيب العمق الحضاري والإجتماعي والإقتصادي للعراق (البلد والشعب، قبل النظام وآلته العسكرية والسياسية)؛
ـ الدعوة العلنية، المأثورة تماماًُ بدورها، إلى ‘نزع أسنان العراق دون تدمير قدرته على مقاومة أي غزو خارجي من جانب جيرانه المتلهفين على ذلك’، في مقالة مدوّية بعنوان ‘جدول أعمال ما بعد الحرب’، نشرها كيسنجر مطلع 1991؛
ـ توبيخ فريق رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق القتيل إسحق رابين، لأنّ ما تعاقدوا عليه مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في أوسلو ثمّ في البيت الأبيض، ليس سوى ‘أوالية’ Mechanism متحرّكة ستفضي عاجلاً أم آجلاً إلى دولة فلسطينية (هي التي يرفضها كيفما جاءت، وأينما قامت، ويستوي لديه أن تتخلق من محض ‘أوالية’ أو تنقلب الى أقلّ من بلدية)؛
ـ سخريته من بعض الفتية الهواة في البيت الأبيض ممّن يخلطون ‘البزنس’ بالأخلاق، والتجارة بحقوق الإنسان (في مثال الصين)؛ ولا يميّزون في حروب التبادل التجارية بين العصبوية الأورو ـ أمريكية وشرعة التقاسم الكوني لسوق شاسعة بقدر ماهي ضيقة (مواثيق الـ ‘غات’ وأخواتها)…
هذه لائحة ذات نفع كبير في قراءة الخلفية الفكرية والجيو ـ سياسية والأخلاقية لما يقوله كيسنجر اليوم عن غزّة، وبالأمس القريب عن العراق، ومثلها في النفع الأعمّ تلك ‘الوصفة’ الفريدة لعلاج الكون كما فصّلها في كتابه الضخم ‘دبلوماسية’، 1994. هذه، على الأرجح، هي عصارة فكر ‘الحكيم الستراتيجي’ الذي لا يغيب ظلّه عن ردهات البيت الأبيض أو البنتاغون أو تلة الكابيتول الرمادية الكابية: مقيم ما أقامت البراغماتية والتعاقد السرّي (المفضوح للغاية، مع ذلك) بين توازنات القوّة وانعدام الحدّ الأدنى من الأخلاق، بين العنف والرطانة الليبرالية، وبين الدم والبترول. وهي عصارة بقدر ما هي وصفة وبلسم لمداواة عالم خرج من قمقم الحرب الباردة، دون أن يهتدي الى فضاء (فكيف بقمقم!) جديد.
خلاصة الوصفة تقوم على المبادىء التالية:
1 ـ العالم الراهن يقتضي، أكثر من أي وقت مضى، امتلاك المعنى الأشدّ وضوحاً وبروداً ونفياً للعواطف، بصدد مضمون وجدوى مفهوم المصلحة الوطنية (والكونية، لأنّ المصلحة الوطنية الأمريكية هي مصلحة البشرية، شاءت البشرية أم أبت).
2 ـ ينبغي وضع أكبر قدر ممكن من علامات الإستفهام والريبة، أبد الدهر ودونما تردّد أو تلكؤ، على أي ترتيبات متصلة بالأمن الجماعي، سيما تلك التي ترتكز جوهرياً على ذلك ‘الإجماع الصوفي الغامض’ حول أخلاقية انتفاء القوّة (وبالتالي أخلاقية اللجوء إليها) في مختلف ميادين العلاقات الدولية.
3 ـ لا مناص من ترجيح (قبل صياغة وتطوير) التحالفات الصريحة القائمة على المصلحة المشتركة، وغضّ النظر عن التحالفات المقابلة التي تحوّل مقولات ‘السلام’ و’الحرّية’ إلى شعارات مطاطة وجوفاء. أعراف ‘القرية الإنسانية الكونية’ ليست قابلة للصرف في سوق مزدحمة شرسة لا ترحم. أعيدوها إلى أفلاطون والأفلاطونيين، يقول كيسنجر، وفي الإعادة إفادة وتجنيب لشرّ القتال!
4 ـ ‘لا يوجد أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون، بل توجد مصالح دائمة فقط’. كان اللورد بالمرستون (وزير خارجية بريطانيا في ثلاثينيات القرن الماضي)، على حقّ حين اجترح هذه العبارة الذهبية. إنه على حقّ اليوم أيضاً، أكثر من أي وقت مضى.
وذات يوم أبعد، حين أطلق ‘دبلوماسية الخطوة خطوة’ ولعب دور المكوك بين مصر وسورية وإسرائيل، كان كيسنجر يعتبر النزاع العربي ـ الإسرائيلي مجرّد مشكلة علاقات أمريكية ـ سوفييتية، الأمر الذي جعله ـ بعد اندثار الإتحاد السوفييتي نهائياً ـ يقلب النزاع كما يلي: يجب أن ينتقل الاهتمام من مبدأ الأرض مقابل السلام، إلى مبدأ الأرض مقابل الزمن وأنساق التعايش بين الشعوب العربية وإسرائيل. كما شدّد على أنّ انهيار الإتحاد السوفييتي وهزيمة العراق (سنة 1991، وليس وقوعه اليوم تحت نير الإحتلال الأمريكي) اختزلا، إذا لم نقلْ: أنهيا، خيار المواجهة العسكرية العربية ـ الإسرائيلية؛ وأمّا موقف الفلسطينيين (الشعبي، وليس الرسمي وحده) من احتلال الكويت، فقد حرّر الدول العربية الخليجية من حرج التأييد الإجباري للقضية الفلسطينية.
وبالطبع، في سنوات الإنتفاضة الأولى قدّم إلى الإسرائيليين نصائح ثمينة عديدة، إلى جانب سحق الفلسطينيين ‘على نحو وحشيّ وشامل وخاطف’، بينها ضرورة إبعاد الصحافة الغربية والمراسلين الأجانب عن مناطق المواجهة ‘مهما بلغت محاذير ذلك الإجراء’. وإذا كان رابين، جزّار الإنتفاضة الأولى، لم يفلح تماماً في تطبيق تلك النصيحة آنذاك، فإنّ جزّاري غزّة اليوم، الثلاثي إيهود أولمرت ـ إيهود باراك ـ تسيبي ليفني، تعلّموا الدرس جيداً. وليس ثمة مفارقة في أن تكون الهمجية الإسرائيلية في غزّة مدعاة صمت هنري كيسنجر، جامع اللقبين معاً: حامل نوبل، ومجرم الحرب، إذْ أنّ جوهر النظام الدولي الغربي الجديد/القديم ينهض على خلائط من هذا القبيل!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى