انقسام العرب رحمة
عبد الباري عطوان
حروب القمم العربية التي اختتمت جولتها الثانية يوم امس بعقد’ قمة غزة الطارئة’ في الدوحة بحضور دول عربية نافذة مثل سورية والجزائر والسودان، واخرى اسلامية ذات ثقل مثل ايران وتركيا واندونيسيا، تعكس ظاهرة صحية في العمل السياسي العربي على عكس ما يتصور الكثيرون.
فالخلاف في وجهات النظر، بل وانقسام المنطقة العربية الى محاور متصارعة، هو حراك مطلوب لتحريك المياه العربية الراكدة المتعفنة، وضخ بعض اوجه الحياة في العروق المتصلبة، بعد سنوات من الجمود والوفاق العربي الكاذب المخادع الذي قاد الى حال الهوان الحالية والتي تنعكس في ابشع صورها في الصمت اكثر من ثلاثة اسابيع على المجازر الاسرائيلية في قطاع غزة.
ما حصل في قمة الدوحة على درجة كبيرة من الاهمية ليس بسبب القرارات المهمة التي صدرت عنها، مثل اقدام كل من موريتانيا وقطر على ‘تجميد’ العلاقات الدبلوماسية مع اسرائيل، وانشاء صندوق لاعادة اعمار القطاع، والمطالبة بلجنة تحقيق دولية في الانتهاكات الاسرائيلية لحقوق الانسان والجرائم ضد الانسانية المرتكبة، وانما ايضا لان هناك فئة من العرب قررت ان تكسر حاجز الصمت، وتخرج عن الطوق الامريكي ـ الاسرائيلي وتنتصر للاطفال الذين تطحن عظامهم الدبابات الاسرائيلية.
جميل ان تحدث حالة الفرز الراهنة في المواقف، وان تتكرس من خلال اتخاذ قرارات تستجيب لمطالب الشارع العربي ولو جزئيا، الامر الذي يؤكد ان المظاهرات الصاخبة التي عمت معظم العواصم العربية بدأت تعطي بعض الثمار، وتدفع بالنظام الرسمي العربي، او قطاع منه للتحرك وعمل شيء ما، بعد ان ظل هذا الحراك الشعبي ‘جعجعة دون طحن’ ولسنوات عديدة.
‘ثقافة السلام’ التي سادت المنطقة طوال السنوات الثلاثين الماضية بدأت بالتآكل، بعد ان ثبت عمليا عدم جدواها، ورفض الطرف الآخر التجاوب عمليا معها رغم كل المغريات الدسمة، من تطبيع سياسي ودبلوماسي، وحوار اديان، وتنازلات ضخمة عن الكثير من الثوابت العربية.
مبادرة السلام العربية التي جاءت العنوان الابرز لتلك الثقافة، فقدت الجزء الاكبر من شرعيتها في قمة الدوحة، عندما جرى سحب التأييد لها من قبل اكثر من نصف الدول العربية، ان لم يكن اكثر، وفصائل المقاومة الفلسطينية الاهم، وخاصة حركتي حماس والجهاد الاسلامي.
الرئيس السوري بشار الاسد اعلن وفاة هذه المبادرة، مثلما اعلن وقف كل المفاوضات غير المباشرة مع الدولة العبرية، بوساطة تركية، واستخدم في خطابه الذي القاه في القمة لهجة غير مسبوقة منذ وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، بل ردد كلماته نفسها، مثل ‘ما أخذ بالقوة لا يستعاد بغيرها’ و’العين بالعين.. والسن بالسن.. والبادي اظلم’.
وربما يجادل البعض بأن هذا ‘مجرد شعارات’ وانفعال عاطفي املته حراجة الظرف الراهن، وربما يكون الحال كذلك، ولكنه يعكس ثقة بالنفس، واستعدادا لمرحلة جديدة من المواجهات الاقليمية والدولية، وادارة الظهر لاسلوب استجدائي مهين، اتبعه النظام العربي لسنوات طويلة، لم يجن من ورائه غير الهوان والمزيد من التهميش، وفوق كل ذلك العدوان الاسرائيلي الوحشي على قطاع غزة.
انها مؤشرات ‘صحوة عربية’، ومقدمات لتغيير انتظرته المنطقة طويلا، يذكرنا بصحوة مماثلة فرضت نفسها بأشكال عديدة اثر هزيمة حزيران عام 1967، مثل حرب الاستنزاف البطولية، وانطلاق حركات المقاومة الفلسطينية بزعامة حركة ‘فتح’، واعادة بناء الجيوش العربية على أسس حديثة اثمرت انتصارا مفاجئا في حرب اكتوبر عام 1973، والاستخدام الفاعل لسلاح النفط.
معركة الكرامة في آذار (مارس) عام 1968 غيرت معادلات سياسية واقليمية راسخة، ابرز معالمها: دعم عربي كبير لحركات المقاومة، وتغيير قيادة منظمة التحرير عنوان مرحلة الهزيمة، وتتويج الرئيس الراحل ياسر عرفات، قائد هذه المقاومة، زعيماً للمنظمة وللشعب الفلسطيني. وربما يؤدي هذا الصمود الكبير في مواجهة آلة القتل الاسرائيلية الوحشية من قبل رجال المقاومة في قطاع غزة الى تغيير جذري مماثل، في القيادات والنهج معاً.
اسرائيل ستخرج ضعيفة وخاسرة سياسياً، مثلما كان حالها بعد كل الحروب العسكرية التي خاضتها في المنطقة على مدى ربع القرن الماضي، ابتداء من حرب العاشر من رمضــان اكتوبر، ومروراً باجتياح لبنان عام 1982، وعام 2006، وانتهاء بحرب الابادة الحالية في قطاع غزة. واول مظاهر هذا الضعف خسارتها معظم اصدقائها العرب والمسلمين، مثل تركيا وقطر وموريتانيا وسلطنة عمان واضعاف ما تبقى منهم (مصر)، وانهيار مبادرة السلام العربية، وما تشكله كأول خطوة جدية نحو التطبيع الكامل معها، وانهيار مكانة السلطة الوطنية الفلسطينية ورئيسها محمود عباس شريكها الاساسي في العملية السلمية.
الرئيس محمود عباس ارتكب خطأ كبيراً عندما رضخ لضغوط مصرية وسعودية وقاطع قمة الدوحة الأخيرة، وترك مقعد فلسطين خالياً فيها للمرة الأولى منذ تبلور هوية التمثيل الفلسطيني في اطار منظمة التحرير الفلسطينية، فقد حسب نفسه على احد المحاور العربية المتنافسة، وهو الذي طالما انتقد رئيسه الراحل ياسر عرفات لأنه ارتكب خطأ كبيراً بانحيازه الى معسكر دول ‘الضد’ في ازمة احتلال الكويت، وكان يردد دائماً في مجالسه الخاصة، واجتماعات القيادة الفلسطينية عن اهمية تحييد القضية الفلسطينية في اي انقسامات عربية.
فالفراغ يجد دائماً من يملأه وبسرعة في حال حدوثه، وهذا ما فعلته ايران بخروج مصر من المعادلة الاقليمية، وانهيار الدور العراقي بفعل الاحتلال الامريكي، وهذا ما تفعله حالياً، او تحاول فعله فصائل المقاومة المعارضة لسلطة رام الله، مثل حركتي ‘حماس’ والجهاد الاسلامي والجبهة الشعبية القيادة العامة.
الرئيس عباس ربما لا يكون المخطئ الوحيد، فالسيد عمرو موسى امين عام الجامعة العربية انهى حياته السياسية بالانحياز الى ‘محور الاعتدال’، عندما قاطع بدوره قمة الدوحة، وادار ظهره لكل المواقف ‘الثورية’ التي جعلت منه اسطورة يتغنى بها البعض، وينال شهرة واسعة بسببها.
ولعل الانجاز الأكبر لحروب القمم العربية، وتبلور المحاور السياسية المتنافسة، هو رمي الكرة في ملعب القمة الثالثة التي ستعقد يوم الاثنين المقبل في الكويت. فالضغوط باتت متعاظمة على رعاتها لاتخاذ خطوات عملية، تجاري قمة الدوحة وقراراتها، مثل سحب المبادرة العربية للسلام وقطع العلاقات الدبلوماسية مع اسرائيل، وانهاء حوار الأديان والآمال المعلقة عليه، واستخدام الاقتصاد كسلاح لفرض الارادة العربية على الغرب الداعم لاسرائيل وعدوانها، وهو السلاح الأمضى في هذا الاطار.
اختلاف اساطين نظام العجز العربي ‘رحمة’، وما كان له ان يتحقق الا بفضل شهداء قطاع غـــزة، والانتفاضات الاحتجاجية والتضامنية العارمة في الشوارع العربية والاسلامية بل والعالمية، فهذه هي المرة الأولى التي يفرض فيها الرأي العام العربي نفسه بقوة على حكامه او بعضهم، ويدفعهم لفعل شيء ما، فشكراً له
القدس العربي