عن »مقاومة تدمر شعبها«
حسام عيتاني
أخذ كثيرون على رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس قوله انه لا يريد »مقاومة تدمر شعبها«. فاقم من المآخذ انها جاءت من القاهرة المتهمة بالتقصير في دعم قطاع غزة في محنته الحالية.
ليست الظروف أو الانفعالات التي أملت على عباس ما قاله، بمهمة. فالرجل سبق أن أبدى تذمره من العديد من الأعمال التي كان اصحابها ينسبونها الى المقاومة. والأرجح انه لم ينس ان السلطة التي يترأس هي حصيلة عقود من المقاومة الفلسطينية وتضحياتها. وأقل أهمية بعد، موجة الصفات والنعوت التي أطلقت على محمود عباس جراء تصريحه المذكور.
بيد ان ذلك لا ينفي ضرورة القيام بإعادة صياغة للعلاقة بين القوى السياسية التي تحمل السلاح في ظل المقاومة وشعارها، وبين المجتمع في الدرجة الاولى والسلطة السياسية التي انتجها المجتمع المذكور. هذه الصياغة تكتسي اهميتها اليوم وبالضبط في وطيس المعركة، حيث يجوز التصور ان الايام التي ستعقب انتهاء القتال ستدفع هذه المسألة جانبا.
لا ينفي بعض أنصار المقاومة انهم يريدون جرّ مواطنيهم الى الجنة بالسلاسل. ويعيدون التأكيد مرة تلو الأخرى ان ما من حركة مقاومة في التاريخ أحيطت بإجماع وطني وأنها كانت على الدوام مرتبطة بانقسام الاجتماع السياسي في البلد المعني حول القضية الوطنية والرؤية إليها وإلى تطورها.
وإذا كان حقا للمقاومين ممارسة نشاطهم من دون الحصول على اذن مسبق من »المستسلمين« للضغوط الخارجية، فإن واجب المقاومين رسم الهدف الذي يمضون اليه. أخطأ من قال ان ليس على حركات المقاومة تقديم كشف حساب بمشاريعها السياسية وأن مهمتها يمكن ان تقتصر على مواجهة ما تتعرض له بلدانها من دون ان تكون معنية بمسائل من نوع حمل مشروع سياسي مستقبلي او الحرص على الوحدة او المصلحة الوطنيتين (بالمناسبة فإن اكثر الامثلة التي تقدم في هذا السياق يغلب عليها النمط الذرائعي والانتزاع من السياقات التاريخية). الخلاصة التي يذهب اليها انصار »المقاومة للمقاومة« تكمن في ان هذه حركة دائمة لا تنتهي بانتهاء الظروف التي أفرزتها. وإذا حصل ان اختفت العوامل المساهمة في إنتاج المقاومة فلا مانع من اختراع عوامل مشابهة بهدف تأبيد الذات ودورها. يعيد هذا الكلام طرح السؤال المستهلك عن ماهية المقاومة: أوسيلة هي ام غاية؟
بالعودة الى موضوع غزة، يبدو جليا ان الاعتراض الذي قدمه عباس له ما يبرره، سيان أكانت نبرة صوت الرجل موفقة او خالفها التوفيق. فوضى العلاقة بين القوة المسلحة الموكلة الى نفسها مهمة الدفاع عن المصالح الوطنية العليا والحقوق السليبة، وبين المجتمع وقيادته السياسية، تتخذ على الساحة الفلسطينية منحى شديد التعقيد. فمن ناحية اولى، حازت »حماس« على اكثرية واضحة في الانتخابات التشريعية التي جرت في العام .٢٠٠٦ بيد ان محمود عباس كان قد انتخب قبل اشهر من ذلك، رئيسا للسلطة الوطنية بأصوات لا تقل عن تلك التي منحت ثقتها للحركة الاسلامية. لقائل ان يقول ان لكل شرعيته. بيد ان الشرعية محدودة بحدود الوكالة التي يمنحها الناخب للمترشح.
ومن دون الخوض في جدل قانوني حول من يمثل الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة، ينبغي القول ان اهمالا فظيعا شاب مهمة تحديد المصلحة الوطنية الفلسطينية. وليس صحيحا الانسياق الى تبرير كل السلوك الذي سلكته هذه الحركة او تلك بذريعة انها تقوم بعمل مقاوم ضد اسرائيل. الانقسام الوطني بين رؤيتين كبيرتين الى المسألة الوطنية جعل لب المسألة الفلسطينية صراعا على السلطة بين حركتين تدعي كل منهما حمل شرعية الدفاع عن القضية الوطنية.
يمكن الاستسلام بسهولة الى خدر الرطانة الداعية الى القتال من دون هوادة وحتى آخر فلسطيني، من عواصم تبعد آلاف الكيلومترات عن ساحات غزة. ويمكن العثور على ما شاء الله من تبريرات لسياسات لا يجمع بينها الا الحرص على المصلحة الذاتية. لكن حاصل جمع كل هذا، لا يشكل مشروعا سياسيا. ولا يمكن بناء تصورات عن مستقبل مختلف قوامه المعاناة الرهيبة التي يعيشها الغزاويون. يعلِّم التاريخ ان تضحيات هائلة يمكن ان تتبخر ان لم يحصنها اصحابها باتفاق على المبادئ والاهداف. المؤسف ان التاريخ العربي يحفل أكثر من غيره بهذا النوع من الدروس التي تظل في انتظار من يستفيد منها.
تجريد صورة الوضع القائم الآن يمكن ان يرسم شكلا تبدو فيه المقاومة بلا مشروع سياسي، يقابلها مشروع بلا مقاومة. وطالما ان الاعوام القليلة الماضية قد اظهرت استحالة تكامل الظاهرتين، فالأقرب الى الصواب هو ان الفلسطينيين مقبلون على تكرار المزيد من التجارب القاسية. وهو ما يحتفل به بعض الأغبياء باعتباره »عودة الى زمان التأسيس« والميزة الابرز فيه هي الارتجال والتخبط وسط أغان تمجد ازيز الرصاص.
السفير