قضية فلسطين

البعد الثقافي لمجزرة غزة: غرب مخادع وفعل عربي مقاوم

مسعود ضاهر
نشير، بداية، إلى أن الثقافة هي فعل تغيير دائم. وبالتالي فكل ثقافة لا تحيل إلى فعل تبقى مجرد نظريات، لها منظرون وأتباع. وهي، في حالة العدوان الهمجي على غزة، تحيل إلى عدد من الملاحظات الأساسية التي تظهر المعركة على حقيقتها من خلال التركيز على البعد الثقافي فيها.
فليس العدوان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية، ومنها غزة، جديدا، ولن يكون الأخير. والسبب في ذلك أن إسرائيل تمتلك رؤية معلنة لتغيير خارطة فلسطين منذ تأسيس الحركة الصهيونية ودعوتها لإقامة إسرائيل الكبرى بين الفرات والنيل.
وعملت على تحقيق بعض أهدافها انطلاقا من مقولات تلمودية ذات طابع عنصري واضح، لدرجة أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أصدرت قراراً اعتبرت فيه الصهيونية حركة عنصرية. لكن إسرائيل عادت فالتفّت على القرار وألغته، فيما بقيت الدول العربية تعجز عن حماية القرارات الإيجابية التي أصدرتها الأمم المتحدة لمصلحة القضية الفلسطينية، أو إلزام إسرائيل بقبول مقررات بيروت لعام ٢٠٠٢ من أجل حل نهائي ودائم وعادل للنزاع العربي ـ الصهيوني.
مؤخرا، عززت الحركة الصهيونية علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة من أجل بناء الشرق الأوسط الكبير، بحيث تصبح إسرائيل دولة يهودية تطرد من داخلها عرب فلسطين وسط صمت أميركي وأوروبي، وتخاذل عربي، وموقف شبه محايد لدول كبرى، وتحرك تكتيكي لبعض دول الجوار الإقليمية.
هكذا بدا واضحا أنه في موازاة التدمير الإسرائيلي المبرمج ضد غزة، نشطت الحركة الدبلوماسية الأوروبية لمساندة الموقف العربي الرسمي المتخاذل والدعوة الى جبهة الدول المعتدلة التي تعمل على وقف الحرب وتبني الحلول الدبلوماسية.
لكن الموقف الأوروبي لم يخدع أحداً، لأنه يقف عند عتبة الإصرار الأميركي على دعم إسرائيل حتى النهاية. وأن التعلل بصمت الرئيس المنتخب أوباما، لا يقدم الدليل على رغبته في إيجاد حل عادل للصراع الدائر في غزة. وهو يجري وسط صمت عرب مذل، وقادة مختلفين حتى على أبسط مقومات السيادة الوطنية، والكرامة الإنسانية، والحق المشروع في الدفاع عن النفس وغيرها من المبادئ الثقافية التي تشكل العمود الفقري للثقافة التي نص عليها البيان التأسيسي للأمم المتحدة .
فالرئيس بوش يتفهم رغبة إسرائيل في الدفاع عن نفسها. وهو يعلم جيدا أن الرأي العام الدولي يصر على وقف فوري لإطلاق النار في غزة، ويعتبره هدفا إنسانيا نبيلا. لكن بوش يريد وقفا مشروطا للعنف يمنع »حماس« من إطلاق صواريخها على إسرائيل. وهو يحملها المسؤولية الكاملة عن تدهور الأوضاع في غزة، التي تسببت بمأساة إنسانية باتت تقلق العالم كله.
وليس بعيدا منه موقف ساركوزي، ووفد الترويكا الأوروبية الذين أدانوا حماس بصورة مباشرة وفظة. فقد أعلن الرئيس الفرنسي أن حركة حماس تصرفت »بشكل غير مسؤول ولا يغتفر« عبر قرارها عدم تمديد التهدئة مع إسرائيل. وحملها مسؤولية كبيرة عن معاناة الفلسطينيين في غزة. وأشار إلى دور مصر الأساسي والكبير، إلى جانب مجموعة الدول العربية المعتدلة في حل هذا النزاع. فأوروبا تدعم الجهود المصرية والعربية لبلورة مبادرة مشتركة معها من أجل وقف إطلاق النار. وهي تدعم الرئيس الفلسطيني محمود عباس »لأنه رجل سلام وحوار واعتدال«.
هكذا تتضح الملامح الأساسية للمشهد الثقافي العربي على خلفية العدوان الهمجي على غزة. وأبرز سماته هي التالية:
١ـ أن التحالف الأميركي ـ الأوروبي يقف وراء إسرائيل في عدوانها السافر على غزة تحت ستار خادع بأن إسرائيل تدافع عن نفسها في مواجهة صواريخ حماس.
وفيما رفض أمير قطر في بيانه المساواة بين الجاني والضحية، فإن خطب بوش وساركوزي وبيان دول الاتحاد الأوروبي تحوّل الجاني إلى ضحية، وتضع مسؤولية الحرب ونتائجها المأساوية على كاهل حركة حماس. وفي ذلك منتهى الخداع الثقافي، لأنه يغيب تراثا كاملا من القمع الذي مارسته إسرائيل منذ إعلان وعد بلفور حتى الآن. فإلى متى يستمر خداع الرأي العام الدولي بأن جيش إسرائيل، وهو أكبر جيوش الشرق الأوسط، وموصول بترسانة الحرب الأميركية، هو جيش للدفاع فقط؟
٢ـ أن وسائل الإعلام الغربية وامتداداتها تروج لمقولة أكثر خداعا من سابقتها.
ومفادها أن الجهود الأوروبية اصطدمت برفض إسرائيل لأي وقف فوري لإطلاق النار قبل تغيير الوضع في المنطقة. وهي ترفض أية ترتيبات مستقبلية يمكن أن تضفي شرعية على المنظمات الفلسطينية المسلحة، كما تبدي تحفظها على عرض تقدم به الاتحاد الأوروبي وتركيا بنشر مراقبين على معبر رفح. مع ذلك، ينشر الأوروبيون بيانات مطمئنة إلى حل قريب عبر الأمم المتحدة، بموافقة عربية وأوروبية وضمانة أميركية. ويشدد الحل المرتقب على وقف إطلاق النار في أسرع وقت، والعمل على التهدئة، والانصراف إلى تقديم مساعدات إنسانية عاجلة إلى منكوبي غزة. وفي ذلك توكيد على طمس الوجه الحقيقي للحرب على غزة من حيث هي حرب توسعية لمصلحة إسرائيل بالدرجة الأولى لتصفية كل أشكال المقاومة المسلحة ضدها، والتعاطي مع نتائجها عبر حملة مكثفة من المساعدات الإنسانية لنجدة منكوبي غزة.
٣ـ لعل المفارقة الأكثر نفوراً في المعادلة الثقافية المطروحة لحل مأساة غزة أنه يستعاض عن الطرف الفلسطيني المقاوم بأطراف فلسطينية وعربية ترفض المقاومة
بكل أشكالها العسكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية ضد العدو الصهيوني والقوى الأوروبية والأميركية الداعمة له. وهي تذكر بمقولة ثقافية استخدمها المثقفون العرب كثيرا في توصيفهم لوعد بلفور حين قالوا: »تبرع من لا يملك لمن لا يستحق«.
والسؤال الثقافي في هذا المجال: ماذا تستطيع قوى عربية متخاذلة ومتواطئة مع قوى غربية مخادعة ومتواطئة مع إسرائيل أن تفعل حيال جيل فلسطيني جديد شارك في معركة صمود غزة، من الداخل أو الخارج، واكتسب مناعة مقاومة تؤهله لبناء منظمات سياسية جديدة ذات قدرة على تبني مقولات ثقافية أكثر فاعلية وقدرة على التحرير والتغيير، داخل فلسطين وفي العالم العربي؟
٤ـ لذلك ردت قوى المقاومة الفلسطينية على تصريحات بوش وساركوزي ووصفتها بأنها تعبر عن مواقف غربية منحازة بالكامل إلى جانب إسرائيل، وتشجعها على المزيد من العدوان والاحتلال. وهي تمهد لمزيد من المجازر الإسرائيلية ضد الفلسطينيين وباقي العرب في جوار فلسطين المحتلة. وقد بدأت إسرائيل فعلا تمهد لعدوان على لبنان دون أن تعدم الذرائع الواهية على طريقة خطف الجنديين الإسرائيليين اللذين أشعلا فتيل حرب كانت معدة سلفا ضد لبنان في صيف .٢٠٠٦
وما دامت القوى الغربية، الأميركية منها والأوروبية، مستعدة لقلب الحقائق الدامغة، القديمة منها والراهنة، وترفض إدانة إسرائيل وتبرئتها سلفا من جرائم الحرب التي ما زالت ترتكبها ضد الشعوب العربية، فإن أي تهدئة ستكون بالضرورة هدنة بين حربين، وتبقى الأخيرة دوماً أكثر شراسة من التي سبقتها.
ختاماً، ترفض إسرائيل أي وقف فوري لإطلاق النار في غزة، لأنها مصممة فعلا على تغيير الوضع في فلسطين. وهي تمهد الطريق لتغيير أوضاع المنطقة العربية بكاملها على طريق بناء الشرق الأوسط الكبير برعاية أميركية ومساندة أوروبية، وترحيب ضمني من الدول الكبيرة كالصين واليابان وروسيا وغيرها من الدول ذات المصالح الكبيرة في هذه المنطقة المؤثرة جدا في الاقتصاد العالمي. أما قادة ما يسمى بالاعتدال العربي فليس لهم دور يذكر، لا في تاريخ شعوبهم ولا في تاريخ هذه المنطقة. فقد تنكروا لمصالح شعوبهم، وأمضوا فترات حكمهم في مقاومة ثقافة المقاومة التي تفضي حتماً إلى الفعل المقاوم. لكن جيلاً فلسطينياً مقاوماً قد ولد في غزة، وفي باقي المناطق الفلسطينية المحتلة. ويقف إلى جانبه جيل عربي غير مهزوم ما دام يقاوم. وتلقى على كاهله مسؤولية تعزيز ثقافة المقاومة بكل أشكالها، وليس العسكرية منها فحسب، وبناء وحدة فلسطينية على أسس جديدة، وبقيادات جديدة قادرة على مواجهة العنصرية الإسرائيلية بثقافة عصرية قادرة على مواجهة تحديات العولمة وثقافتها الكونية.
([) مؤرخ وأستاذ جامعي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى