فلسطين اليوم
سليمان تقي الدين
كأننا على مشارف عام .١٩٤٨ بعد ستين سنة من الاحتلال الصهيوني لفلسطين لم تتحول إسرائيل إلى دولة تحكمها القواعد والقوانين، خاصة في علاقتها بجيرانها. قادة تل أبيب يتصرفون كمجموعة من العصابات الإرهابية لكن مع آخر ابتكارات الغرب للسلاح ومع الرعاية نفسها.
ما زالت إسرائيل محكومة بعقدتي الخوف والأمن، لذلك هي تقصف العصفور بالطائرة والمدفع. في أعماق كل إسرائيلي شعور خفي بالجريمة الأصلية التي هي اغتصاب أرض فلسطين وتشريد شعبها. الطفل الفلسطيني هو المشروع المحتمل للرد على هذه الجريمة فينبغي قتله. رغم كل حالة الهوان العربي لا تستطيع إسرائيل أن تتخيل وجود شعب فلسطيني له هوية وطنية وله كيان. واهمٌ من يعتقد أن إسرائيل بصدد قبول مشروع الدولتين الآن.
استطاعت إسرائيل أن تلغي الكثير من التحديات في محيطها. لا يستطيع العرب أن يخوضوا معها حروباً بواسطة دولهم وجيوشهم. أكثرية الدول العربية هي في حال اتفاقات سلام أو علاقات شبه طبيعية. أجمع النظام الرسمي العربي على مبادرة سلام تعطي إسرائيل ما لم تكن تحلم به في هذا المدى الزمني القصير. كلما قدم العرب التنازلات طلبت إسرائيل المزيد. الهاجس الإسرائيلي بالنسبة للمستقبل مشروع. لا تستطيع أقلية بحجم اليهود أن تضمن سلامتها على حساب الآخرين إلا من خلال نظام علماني ليبرالي يضع الهوية الدينية جانباً. إذا ذهبت إسرائيل في هذا الخيار تخسر وظيفتها وكل الدعم الدولي لها. إسرائيل مغامرة كبرى بمصير الشعب اليهودي. الغرب الذي أنتج هذا المشروع الصهيوني هو أكبر مجرم في التاريخ. ما صنعه بين العرب واليهود هو صراع وجود لن يتوقف. مفاتيح الحلول في المنطقة ليست في يد إسرائيل إنها في الغرب وفي يد أميركا تحديداً الآن. والحل الوحيد هو إخراج اليهود من دورهم كأداة في المشروع الاستعماري.
لم يزدهر المشروع الصهيوني ومعه كل هذه الأوهام عن التفوق والقدرة على الردع والقمع والتوسع وفرض الشروط والإرادة إلا لأن العرب الآن قد انضووا في المشروع الأميركي. إن المخارج التي تطرحها إسرائيل لقضية الشعب الفلسطيني هي على حساب دول الجوار. ما يجعل هذا الأفق مفتوحاً هو الضعف العربي وهشاشة النظام الرسمي العربي. لكن ما تخشاه إسرائيل على المدى البعيد بدأ يلوح في الأفق. كأن إسرائيل سعت إلى حتفها بظلفها كما يقول المثل. لقد أنتجت الأصولية اليهودية أصولية إسلامية ودخلنا في مرحلة من تاريخ صراع الأنبياء والآلهة. ثمة روايات تاريخية دينية تحكم المسرح الفلسطيني الآن. سقطت وسائل الحوار السياسي ودخلنا في مرحلة صراع الثقافات. الحروب المقدسة تعطل كل إمكانات الحلول. الجميع في حال من السباق إلى الجنة. إسرائيل جزء من الصراع الذي ينفتح على مصراعيه مع الغرب. مطلوب »الموت لإسرائيل ولأميركا«. الملايين في العالمين العربي والإسلامي باتت تهتف بالشعار ذاته. الغرب يتفرج على مأساتنا لكنه سيندم قريباً جداً. هو من اختار أن يعاملنا خارج معايير حقوق الإنسان. هو من أعاق نشوء أمة عربية ذات قيم معاصرة. هو من دعم الاتجاهات الظلامية وقاوم حركة القومية العلمانية. هو من يدفع الشعب الفلسطيني لكي يتحول إلى جنود في مشروع ديني، وكذلك فعل في أفغانستان والعراق ولبنان. لم تعد الجماهير العربية تتعاطى مع الإسلام كثقافة حياة. استعاد الإسلام طابعه المركزي كدين، كهوية مقدسة تتهاوى ازاءها كل التراكمات والمكتسبات التاريخية. إن الغرب يقودنا إلى صراع مفتوح لا نملك حتى أن نفكر بضرورته أم لا. لقد صرنا أدوات مسخّرة في طريق إلهي مرسوم سلفاً. لقد عدنا إلى مرحلة »صليبية« من جهة و»جهادية« من جهة أخرى ولم تعد بيننا أية جسور للحوار والتواصل. لقد أسقط الغرب نفسه جسور التواصل. إنه يصطف الآن وراء الجرائم الصهيونية متخلياً عن معايير حقوق الإنسان وعن ثقافة حقوق الإنسان. يطبق علينا ازدواجية المعايير. كأننا برابرة أثينا وعبيدها. كأن شعوبنا »بروليتاريا العصر الحديث«، كأننا حثالة التاريخ الصافي لحضارته ويريد التخلص من وجودنا. إن النخب التي عادت تسيطر على القرار الغربي تستبطن ثقافة استعمارية وعنصرية.
ليس هناك أوضح ولا أعدل من قضية الشعب الفلسطيني. ليس هناك ظلم في العالم يوازي الظلم الذي يقع على هذا الشعب. لن تكون مصالحة بيننا وبين الغرب ولن يكون حوار إلا انطلاقاً من حل عادل لهذه القضية. إنها إدانتنا المستمرة لثقافة الغرب وحضارة الغرب. فهل يستطيع الغرب أن يصحح خطأه التاريخي مع اليهود أولاً ومع العرب ثانياً؟ إنه تحدي السنوات المقبلة وخيارات الحروب والسلام.