غزة ضحية العدوان وحسابات “حماس” الخاطئة
ميشال شماس
نجحت إسرائيل بجرِّ حركة “حماس” إلى وضع قررت فيه إنهاء التهدئة، فيما أخطأت “حماس” في تقديراتها لما يمكن أن تؤول إليه الأمور مراهنة على الانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي عشية الانتخابات الإسرائيلية، والتوهم بعجز الحكومة الإسرائيلية عن اتخاذ قرار الحرب. يضاف إلى ذلك اعتقاد “حماس” أن القرار الأميركي سيكون مختلفاً مع مجيء الحزب الديموقراطي الأميركي إلى الحكم متجاهلة ان كلا الحزبين الجمهوري والديموقراطي يجتمعان حول الدعم المطلق لإسرائيل. وما القرار الذي اتخذه مجلس النواب الأميركي قبل يومين وأيد فيه حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها وحماية حدودها إلا دليل على ما نقول.
يضاف إلى ذلك اعتقاد “حماس” أن النظام الإيراني الذي لم يترك مناسبة إلا وأكد فيها على دعمه المطلق للشعب الفلسطيني، واستعداد رئيسه لإزالة إسرائيل من الوجود، سيهبُّ لنجدتها، تماماً كما دعم “حزب الله” في لبنان خلال حرب تموز. ولم تتوقع أبداً أن تسمع من مرشد الثورة الإسلامية في إيران آية الله خامنئي منع ذهاب متطوعين ايرانيين للقتال في غزة بقوله: “ينبغي عليكم أن تنتبهوا إلى أننا لا نستطيع أن نفعل شيئا في هذا المجال”. ولم يدرك قادة “حماس” أن السلطات الإيرانية تفكر الآن بالرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما واستلامه السلطة بعد أيام كي تسوّي أوضاعها مع أميركا، وهي ليست
في وارد التضحية بمصالحها القومية من اجل “حماس”.
كما أن حركة “حماس” اعتقدت خطأ بأن الوضع سيكون مشابهاً لما جرى في حرب تموز على لبنان. وقد غاب عن ذهن قادتها أنه إذا كانت إسرائيل عجزت عن تحقيق أهداف عدوانها على لبنان ووافقت تحت الضغط العربي والدولي على وقف النار وعلى التزام كل الإطراف المعنيين بتنفيذ القرار 1701، فلأن الوضع اللبناني والعربي في حرب تموز كان مختلفاً تماماً عن الوضع الفلسطيني والعربي وحتى الدولي قبل أن تشن إسرائيل عدوانها الوحشي على قطاع غزة من نواح عديدة أهمها:
1- تضامن اللبنانيون مع “حزب الله” في مواجهة العدوان الإسرائيلي وتحملوا معه الخسائر المادية والبشرية، يضاف إلى ذلك أن الوضع العربي لم يكن منقسماً كما هو اليوم في مواجهة ذلك العدوان، بل إن الدول العربية وقفت متضامنة مع لبنان عربياً ودولياً، وأثمر ذلك التضامن وقف العدوان بصدور القرار 1701.أما الوضع العربي حاليا فهو منقسم جداً حيال العدوان الإسرائيلي على غزة بين من يدعم “حماس” ويريد لها الانتصار أو اقله الصمود للحؤول دون تمكين العدوان من تحقيق أهدافه ومن يناهض “حماس” ويحمّلها مسؤولية العدوان على غزة وأيضاً مسؤولية عرقلة كل المساعي لتوحيد السلطة الفلسطينية تحت سلطة واحدة وموقف واحد.
2- إن “حزب الله” ليس حزباً حاكماً في لبنان، فعندما شنت إسرائيل عدوانها استطاعت الحكومة اللبنانية التملص من مسؤولية الحرب بحجة أنها لم تكن على علم مسبق بنية “حزب الله” أسر جنديين إسرائيليين، وقد اتخذت إسرائيل من أسرهما ذريعة لشن عدوانها. ثم إن “حزب الله” فوض الحكومة اللبنانية التفاوض عنه لوقف العدوان، أما في قطاع غزة فإن “حماس” هي التي تسيطر على مقاليد الأمور، استولت على مقرات السلطة الفلسطينية، وتالياً من يفاوض عنها وباسمها بعدما ساءت علاقتها مع رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية وجارتها مصر..؟
3- إن العدوان على لبنان لم يمنع من وصول إمدادات عسكرية إلى “حزب الله”، عبر الحدود السورية، تلك الإمدادات التي ساهمت بصورة فعالة في صمود مقاتلي “حزب الله”، أما في قطاع غزة فإن “حماس” محاصرة من كل الاتجاهات، باستثناء تلك المساعدات الإنسانية التي تدخل القطاع في أوقات محددة وبموافقة إسرائيلية مسبقة.
لقد استغلت إسرائيل ذلك الوضع، بعدما رأت غير ما رأته “حماس” واعتقدته، وقرأت جيداً كل الظروف المحيطة بها، واستغلت الوضع الفلسطيني والعربي المنقسم على نفسه أشد الانقسام أفضل استغلال، ودفعت “حماس” دفعاً لإنهاء التهدئة في الوقت الذي تريده إسرائيل حتى تظهر أمام العالم بأنها هي من يريد السلام، وتظهر حركة “حماس” في مظهر المعتدي الذي لا يريد السلام. فاستغلت إسرائيل ذلك جيداً وبدأت بشن عدوانها المبيت على قطاع غزة في ظل انشغال العالم باحتفالات أعياد الميلاد ورأس السنة، وهي الفترة الميتة في الغرب، يضاف الى ذلك الدول الغربية ومعها الولايات المتحدة الأميركية تنظر إلى حركة “حماس” على أنها منظمة أصولية إرهابية لا يرجى منها خيراً، وبالتالي فإنهم لن يتحسروا على إضعافها سياسياً أو حتى تدميرها. وهناك الكثير من الغربيين من سياسيين وحتى مثقفين يتمنون النجاح لإسرائيل في القضاء على “حماس” التي يشعرون أنها أصبحت عالة على العالم. وحتى في العالم العربي أيضاً هناك من يتمنى ذلك أيضاً.
انطلاقاً مما تقدم يمكننا أن نفهم لماذا تجرأت إسرائيل على شن عدوانها الوحشي على قطاع غزة المحاصر أساساً، وبصرف النظر عما إذا كانت حركة “حماس” أخطأت في قرارها بإنهاء التهدئة أم لا، فإن من يدفع الثمن الآن هو ذلك الشعب البائس والفقير في قطاع غزة الذي يتعرض لأبشع أنواع القهر والإذلال والقتل والتدمير.
وأخيراً، لا يسعني إلا التأكيد على أن استمرار العدوان الوحشي على غزة، يفترض الآن تجاوز كل ما قيل ويقال عن الأسباب التي أدت اليه، وأن يعمل الفلسطينيون قبل العرب على تجاوز خلافاتهم وانقساماتهم، والتأكيد على أن هذا العدوان هو عدوان على الشعب الفلسطيني بمختلف تكويناته وتلاوينه، وهو الذي يدفع ثمناً باهظاً آلافاً مؤلفة من الشهداء والجرحى والمشردين واليتامى والثكالى وتدميراً منهجياً هائلاً في البنى التحتية ومجمل مقومات الحياة في قطاع غزة. وهو عدوان يستهدف في النهاية القضية الفلسطينية برمتها قبل كل شيء، وإن عودة “حماس” إلى الوحدة الفلسطينية لا تشكل تراجعاً أو هزيمة، فالهزيمة تكون أمام العدو لا أمام الشقيق، منطق الهزيمة والنصر لا يرتبط بأية مشاريع إقليمية غالباً ما تتعاطى مع قضية فلسطين وفقاً لمفهوم المصالح، بل يرتبط أولاً وأخيراً بمقدار نجاح الأخوة الفلسطينيين في تحقيق وحدتهم الوطنية الفلسطينية، بالتزامن مع التضامن بين البلدان العربية نفسها بعيداً عن الشعارات والعنتريات.عندها فقط نستطيع وقف هذا العدوان ومنعه من تحقيق
أهدافه.
(محام سوري)
النهار