صفحات ثقافية

مكاوي سعيد: الرواية التجريبة أدت إلى موت القارئ

null


راشد عيسى

روايته «تغريدة البجعة» في الطريق إلى فيلم سينمائي

وصلت رواية المصري مكاوي سعيد «تغريدة البجعة» إلى طبعتها الرابعة قبل أن يجري تسجيلها في القائمة القصيرة لجائزة «البوكر العربية»، ما يعني أنها نالت حظاً وافراً من الانتشار والتداول ليس لـ«البوكر» فضل فيه، رغم أن الكاتب لا ينكر بعض أفضال «البوكر» لاحقاً.
لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» قالت في «تغريدة البجعة»: «يشتق مكاوي سعيد في هذه الرواية الشكل الروائي من واقع اجتماعي متحول متبدل، ويعيّن الشكل الجديد مدخلاً إلى قراءة الواقع وتحولاته، في عمل روائي جميل يرثي زمناً غنائياً مضى، ويصوغ المستقبل المحتمل بأسئلة بلا إجابات». ويؤكد سعيد: «إنها حقاً نوستالجيا، ومرثية للمكان الذي كنت أحبه، والزمن الذي أعشقه».

في القاهرة، كان علينا أن نعثر على مكاوي سعيد في مكانه الأحب، وسط البلد، في مقاهيها الشعبية جداً. ولمزيد من الواقعية كان علينا أن نلتقي أبطال روايته، من أولاد الشوارع. لم نكد نمشي خطوتين حتى تنادى أبطاله وجاؤوا إليه معرّفين إياه ببطل شارعيّ جديد. يقول: «أنا أعرفهم من قرب، عشت بقربهم لشهور طويلة. رافقتهم عبر الكاميرا وعبر التسجيل، كدت أنهي فيلماً عنهم، لولا أن حادثة شهيرة في مصر، اسمها حادثة التوربيني، وقعت في القطار الذي يصل مصر بالاسكندرية. والتوربيني طفل من أطفال الشوارع تم القبض عليه في الاسكندرية، واتهم بأنه قتل واعتدى على أكثر من أربعين طفلاً، ويقال إنه تم العثور على مقابر جماعية، واعترف زملاؤه بحوادث قتل واغتصاب. نشط البوليس لفترة وتم القبض على غالبية أولاد الشوراع فاختفوا.. ففشلت في إتمام فيلمي، وغزلت هذه الحكاية ضمن الرواية التي كنت أكتبها». يريد سعيد أن يكون شاهداً على عصر، كما يقول، وهو لذلك لا يكف عن توثيق حوادث راهنة ومعاصرة «أنا لا أثق بما يكتبه التاريخ في مرحلة ما، فالتاريخ يكتبه المنتصرون، بينما الرواية تدلّني على الأشخاص والشوارع والناس. أنا تقصدت أن أكتب التحولات والتغيرات التي مرّت وتمرّ على القاهرة. تعمدت أن أذكر حادثة مسرح بني سويف التي راح فيها زهرة المسرحيين الشبان من أصدقائنا، فيما الناس بدأت تنساه. أنا لست مؤرخاً بالمعنى الحرفي، إنما راصد لفترة ما من التاريخ، رأيت أن أكتبها بصدق لتعبّر للأجيال المقبلة عمّا نعيش فيه وما نحن متورطون به».

شرق وغرب

وإذا كانت روايته «تغريدة البجعة» تحكي عن مخرجة أفلام تسجيلية أميركية جاءت تصنع فيلماً عن أبناء الشوارع، يساعدها مثقف محلي وشاعر، هو بطل الرواية، ولعله يشكل معادلاً موضوعياً للمؤلف (لكن الكاتب يرفض هذه الفكرة ويقول إنها ليست سيرة ذاتية)، فإن البطلين يشكلان معاً علاقة مألوفة ورمزية بين شرق وغرب. لكن الكاتب يرى أن العلاقة هذه المرة مختلفة، يقول: «أرى العلاقة بين الشرق والغرب من منظور مختلف. عند الطيب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال»، كان الأمر مختلفاً، حيث الشرقي في بلاد الغرب. أما أنا فأقصد الغربي الذي ينتشر في البلاد العربية، هل جاء للفرجة؟ للسياحة؟ للاستعلام؟ .. حاجات غير مفهومة ومثيرة للشك وبحاجة للتوضيح. الرواية تطرح تساؤلات ولا إجابات عندي عليها». وحين نسأله إذا كان النظر إلى العلاقة بهذا الشكل الرمزي، وفي ما إذا كانت محاولات البطل إدانة سلوك الغرب عبر المرأة الأميركية تجعل من الرواية مرافعة ضد الآخر يقول: «هذا ليس صحيحاً، فالأمر لا يتعدى صفحتين في العمل. المرافعة تظهر الرواية تقريرية، بينما البطل ممسوس بفكرة وهاجس أن الأجانب بدأوا ينتشرون بغزارة في وسط البلد، وبدأ البطل يسمع في الشارع أصواتاً مختلفة، ليس بينها اللغة العربية. بالإضافة إلى أن علاقته بالأميركية تدعم هذا الهاجس إلى حد أن ينقلب إلى وسواس، هذا إلى جانب تجربة فاشلة في السفر إلى أميركا، تدفعه لقول رأيه في هذه الرحلة القصيرة، حين يقول بأنه حتى الشوارع هناك هي أرقام لا تدلّ!».

قبل «تغريدة البجعة» كتب مكاوي سعيد ثلاث مجموعات قصصية هي «الركض وراء الضوء» و«حالة رومانسية» و«راكبة المقعد الخلفي»، إلى جانب رواية «فئران السفينة» التي قدمت في أربع طبعات. وهو كتب أيضا العديد من سيناريوهات الأفلام السينمائية، ولعله لذلك يستخدم في روايته تقنيات السينما، يقول: «أنا أساساً كاتب سيناريو وثائقي وتسجيلي وروائي قصير، ودرست السيناريو عبر سنوات طويلة، وكنت عضواً في لجان القراءة لأكثر من شركة إنتاج، ولقد أفادني هذا الفهم لتقنيات السينما في كتابة الرواية كما قال النقاد. فالرواية تتناول فترة عريضة من حياة القاهرة (من أوائل الثمانينيات وحتى العام 2006) وبها انتقالات سريعة، وهنا استخدمت تقنية المونتاج المتوازي، حتى لا يصبح الانتقال بين فصول الرواية حاداً، مرهقاً للقارئ، بخلاف تقنيات أخرى ككسر الإيهام، والفلاش باك وغيرهما». لذلك ليس غريباً أن تعود الرواية إلى أصلها السينمائي، إلى فكرتها السينمائية لو جاز القول، حين تباع من أجل إنتاج فيلم سينمائي «أنا أحب السينما جداً، وأتمنى أن أرى شخوصي على الشاشة الفضية، وأعتقد أن هذا تخليد للكتابة وللكتاب، وقد يسند أحدهما الآخر، ولكن لم أتخلّ عن مشروعي، وأعني الفيلم التسجيلي عن أولاد الشوراع، لأنه مشروع خاص جداً لا يستهوي المنتجين فأنا أعمله بهدوء ومزاج». فهل يفضل سعيد كتابة سيناريو فيلمه بنفسه؟ يقول: «أنا رفضت كتابة السيناريو لأنني أخذت قراراً بأن لا أكتب سيناريو لأي من قصصي حتى لا أخضع لرغبات تجارية، إنما يمكن أن أكتب للسينما مباشرة. أما سيناريو روايتي فيكتبه صديقي السينارست بلال فضل، وأنا أثق بقدرته على الوصول إلى الجماهير العريضة».

سوق القراءة

نسأل سعيد عن سوق القراءة في مصر هذه الأيام حين نلحظ أن كتباً كثيرة تباع بأرقام طبعات متزايدة فيجيب «لوحظ في الأشهر الأخيرة انتشار المكتبات وذلك يدل على زيادة عدد القراء، لأن التجار لا يدخلون تجارة إلا إذا كانت مربحة، ومعنى ذلك أن النشر والكتابة مجال مربح، روايتي طبعت أكثر من أربع طبعات خلال سبعة شهور، وهذا رقم مذهل بالنسبة إلي». فهل ساهمت «البوكر» في ترويج روايتك؟ «لقد ساهمت فقط في ترويج الطبعة الرابعة. «البوكر» أفادتني إعلامياً، فأصبح هناك، في الوطن العربي من يطلب نسخاً من روايتي، أصبحت معروفاً في الوطن العربي إلى حدّ ما». وفي ما إذا كان منصفاً اختيار رواية بهاء طاهر «واحة الغروب» كرواية فائزة بـ«البوكر» العربية يجيب «آه، طبعاً. أنا أحب بهاء، وهو أستاذي وله رصيد كبير من الأعمال الروائية المهمة، ووجوده في القائمة حسم الأمر تماماً منذ البداية، ولم أكن أراهن على أن أياً منّا قد يفوز. فإن هذا بمثابة إهانة لتاريخ هذا الرجل الروائي. أما أعمال زملائي المتنافسين فهي أكثر من رائعة. «مديح الكراهية» لخالد خليفة فاتنة، و«أرض اليمبوس» لالياس فركوح، ولا يمكن أن أقول شيئاً عن حيادية لجنة «البوكر» التي أنصفتني وجعلتني في قائمتها وأنا لم أكن معروفاً على الإطلاق. كما أنني بتعرّفي على زملائي المتنافسين وأعمالهم كسبتُ أشياء وأشخاصاً فنانين بحق».

وحول مشهد الرواية في مصر اليوم وموقعه في هذا المشهد يقول: «أنا في الطابور. لا أرى نفسي، وعادة لا يستمتع الكاتب بما يكتبه. أنا أستمتع بكتابات الآخرين، ولست معنياً أن أكون الأول أو غيره، يهمني أن يقول قارئ إنه قرأ لي عملاً جميلاً. نحن راضون عن هذا الانتشار الواسع للرواية، ولكن الأيام ستغربل بالتأكيد. ولعل ما خلق تلك الهوة بين القارئ والكاتب في فترة الثمانينيات هو أن أعمالاً كثيرة صدرت للخاصة من القراء. التنوّع في الرواية اليوم، والبساطة قرّب الرواية إلى الناس فكسبنا جمهوراً كبيراً، وبرأيي أننا يجب ألا ننسى هذه الميزة لنروح نستعيد آليات وفنيات غريبة تزيد الرواية تعقيداً وتنفر القارئ منها». أما قصده بالروايات التي صدرت للخاصة فهي «تلك الأعمال التجريبية، النظرية والفكرية المحض، التي لا حياة فيها، بل مجرد صراع أفكار، ما جعل الرواية أقرب إلى الفلسفة، وما دفع إلى موت القارئ. نأمل اليوم أن لا نفقد القارئ مجدداً».

(القاهرة)


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى