تغوّل ‘التواطؤ’ العربي
عبد الباري عطوان
تشهد العواصم العربية هذه الايام حربا اكثر ضراوة من العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة. هدف هذه الحرب هو كيفية منع انعقاد قمة عربية طارئة في مدينة الدوحة، يكون زمام المبادرة فيها لدول مثل سورية والسودان والجزائر وقطر واليمن.
فالمملكة العربية السعودية ومصر، قطبا هذه الحرب الرئيسيان، يريدان مسح سورية كليا من الخريطة السياسية، وإحكام العزلة العربية عليها، ولهذا مارستا ضغوطا شرسة، مرفقة بتهديدات مبطنة للأطراف القوية، واغراءات مالية علنية لمن هو بحاجة اليها، للحيلولة دون تحقيق النصاب الذي يسمح بانعقاد هذه القمة التي قررتا مقاطعتها مسبقا، تحت ذريعة تقويضها لقمة الكويت الاقتصادية التي جرى الاعداد لها جيدا على مدى عام كامل.
ست عشرة دولة عربية وافقت على انعقاد القمة الطارئة، ثم بدأت الضغوط تعطي ثمارها: انسحابات متتالية او على شكل مساومات تشترط ان تأتي القرارات ‘مائعة’ او ‘غير ثورية’، مقابل المشاركة في القمة.
وهكذا فإن الهمّ الاساسي لقادة محور الاعتدال العربي لم يعد التصدي للعدوان الاسرائيلي، وايقاف المجازر في قطاع غزة، وانما التصدي لاي دول من المحور الآخر تريد ان تنتصر للضحايا، وتتماهى مع الشارع العربي ومطالبه الملحة في ضرورة التحرك واتخاذ اجراء ما للخروج من حال الهوان الرسمي المخجلة. اما ابناء قطاع غزة فليذهبوا الى الجحيم ولتحصدهم الصواريخ الاسرائيلية.
لنفترض ان المحور السعودي ـ المصري حقق الانتصار الكبير الذي يقاتل حاليا من اجله، اي افشال قمة الدوحة، فماذا هو فاعل بعد ذلك ، هل سنراه يأخذ زمام المبادرة ويدفع باتجاه خطوات عملية تظهر مدى جدية العرب في الدفاع عن كرامتهم المهدورة في قطاع غزة؟
قمة الكويت التي ستعقد يوم الاثنين المقبل هي قمة اقتصادية، ستخصص جزءا من وقتها لاجراء مشاورات بين الزعماء المشاركين فيها لبحث الاوضاع في قطاع غزة، وكيفية وقف اطلاق النار، والوصول الى صيغة جديدة تؤدي الى فتح المعابر، وانهاء الحصار المفروض على مليون ونصف المليون فلسطيني، جميعهم من العرب، نقولها للتذكير فقط.
المنطق يقول ان تبحث هذه القمة، طالما انها تصدرت، وبسبب ضغوط قمة الدوحة الموؤودة (حتى الان) لاتخاذ زمام المبادرة لانهاء الحرب الاسرائيلية على القطاع، كيفية استخدام الاقتصاد كورقة ضغط للوصول الى هذا الهدف، جنبا الى جنب مع اوراق سياسية اخرى.
بمعنى آخر، هل سيلوح الزعماء المشاركون فيها، والعاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز على وجه الخصوص، بسلاح النفط في وجه امريكا والدول الغربية الداعمة لهذا العدوان الاسرائيلي، والمعرقلة لتطبيق قرار مجلس الامن الدولي المطالب بوقف فوري لاطلاق النار؟ ام ان هؤلاء سيستخدمون ارصدتهم المالية الضخمة كورقة ضغط، من حيث رفض التجاوب مع طلبات الادارة الامريكية وحكومات اوروبية اخرى لانقاذ النظام الرأسمالي الغربي من حال الانهيار التي يعيشها حاليا؟
فإذا كان استخدام سلاح النفط غير وارد، مثلما اكد الامير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي في مؤتمر صحافي عقده في نيويورك قبل اسبوع، لان الشعب السعودي بحاجة الى عوائده المالية، فهل نرى قمة الكويت تتخذ قرارا بتجميد عضوية دولها في الامم المتحدة بسبب ازدواجية معاييرها، وعدم جعلها القرارات الصادرة عن مجلس امنها بحق الصراع العربي ـ الاسرائيلي الزامية، على اساس البند السابع من ميثاق المنظمة الدولية، على غرار قرارات مماثلة صدرت بشأن تغيير النظامين في العراق وافغانستان.
لا نعتقد ان زعماء محور الاعتدال سيترجمون انتصارهم المظفر في افشال قمة الدوحة على شكل اجراءات عملية تلقن اسرائيل درسا موجعا عقابا لها على عدوانها. كما اننا لا نتوقع توظيف الاقتصاد بأذرعه المالية والتجارية والنفطية كسلاح في مواجهة الدول الغربية الداعمة للعدوان، لان هؤلاء لا يريدون الحاق اي اذى باسرائيل، الحليف المحتمل في اي حرب قادمة ضد ايران لتدمير مفاعلاتها النووية، والحد من قوتها العسكرية ونفوذها السياسي المتنامي في المنطقة.
فكيف يمكن تفسير هذا الصمت السعودي الرسمي تجاه العدوان الاسرائيلي الحالي، وتحريم القيام بالمظاهرات تعاطفا مع الضحايا العرب المسلمين في قطاع غزة، وجميعهم سنّة بالمناسبة، وكيف يمكن فهم الدور الرسمي المصري الحالي في إحكام الحصار والاكتفاء بدور ‘ساعي البريد’ لنقل الشروط الاسرائيلية في وقف اطلاق النار الى حركة ‘حماس’، والضغط بكل الوسائل من اجل تمريرها؟
رجب طيب اردوغان ليس زعيما عربيا، ويملك كل الحق في ادارة ظهره الى الغرب بعد ان طعن العرب بلاده في الظهر بخنجر مسموم عندما تحالفوا مع القوى الغربية، وثاروا ضد الامبراطورية العثمانية بتحريض بريطاني، ولكنه لم يفعل ذلك، ووقف في البرلمان التركي يدين العدوان الاسرائيلي على القطاع بأقسى الكلمات، ويصفه بأنه بقعة سوداء في تاريخ البشرية، ويرد على بعض منتقديه بالقول بأن كلماته هذه ليست اقوى من قنابل الفوسفور الابيض التي تحرق اطفال غزة.
كنا نتمنى لو صدرت مثل هذه الكلمات عن المسؤولين السعوديين والمصريين، والملك عبدالله بن عبدالعزيز خادم الحرمين الشريفين، والرئيس حسني مبارك على وجه التحديد، ولكن امنياتنا لم تكن في مكانها للأسف الشديد. وهذا ما يشجع اسرائيل على المضي قدما في عدوانها ومجازرها وهي مطمئنة الى غياب اي مواقف عربية لايقافها.
هذا الانقسام العربي الذي نراه حاليا في ابشع صورة هو ‘رحمة’، لانه يكشف عن مواقف الانظمة الحقيقية، والهوة المتسعة بينها وبين شعوبها. فلا نريد تضامنا عربيا على ارضية الخنوع لاسرائيل، واستجداء عطفها من خلال مبادرات سلام متخمة بالتنازلات، او حوار اديان يخفي نوايا متأججة نحو التطبيع المجاني.
تسيبي ليفني وعدت بتغيير المعادلة السياسية في قطاع غزة بالقوة العسكرية، ونجحت في تحقيق ذلك فعلا، فقد توجت فصائل المقاومة على عرش التمثيل الفلسطيني، وانهت العملية السلمية باطلاق رصاصة الرحمة عليها، وجعلت من حركة ‘حماس’ الطرف الفلسطيني الأقوى، تماماً مثلما أدى انتصار المقاومة في معركة الكرامة في آذار (مارس) عام 1968 إلى تتويج ياسر عرفات رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية، وابعاد يحيى حمودة إلى زاوية النسيان.
ولعل التطور الأهم الذي كرسته هذه الحرب هو جعل حركة ‘حماس’ بمثابة الذراع العسكرية للحركات الاسلامية السنية، والاخوان المسلمين بشكل خاص، في موازاة ‘حزب الله’ كذراع عسكرية للحركات الاسلامية الشيعية على الحدود مع الدولة العبرية.
وهذا بلا شك انقلاب كبير في المعادلات السياسية العربية والاسلامية، يفسر حجم العداء المتنامي والسافر لهذه الحركة، أي ‘حماس’، في دول عربية مؤثرة مثل مصر والمملكة العربية السعودية.
نحن الآن في انتظار قمة الكويت الاقتصادية، وما يمكن ان يتخذه فرسانها من قرارات، ولا نعلم كم من الأطفال والنساء والمدنيين ستسحق عظامهم صواريخ الدبابات والطائرات الاسرائيلية حتى موعد انعقادها يوم الاثنين المقبل، ولكن ما نعلمه ان ابطال المقاومة لن يرفعوا الرايات البيضاء مطلقاً حتى يثبتوا للأمتين العربية والاسلامية انهم ليسوا من طينة هؤلاء الزعماء المتواطئين المتخاذلين.
نصيحتنا للزعماء ‘الموؤودة’ قمتهم الطارئة ان يتداعوا إلى اجتماع تشاوري في الدوحة، يدعون إليه شرفاء الانسانية والكرامة، من أمثال هوغو تشافيز، ورجب طيب أردوغان، وأحمدي نجاد، ويصدرون بيانا يحددون فيه مواقفهم بكل صراحة ووضوح، ويشرحون كل ملابسات التخاذل، وتفاصيل الضغوط الارهابية التي تعرض لها البعض حتى لا يشارك في القمة الطارئة، ويعلنون سحب أو تجميد مساندتهم او اعترافهم بمبادرة السلام العربية، ويذهبون بعد ذلك إلى قمة الكويت على أرضية المواجهة وفرز المواقف، والتبرؤ من المتواطئين مع العدوان.
القدس العربي