علــم الحــرب الإســرائيلي
عباس بيضون
عاموس عوز أشهر الكتّاب الاسرائيليين يؤيد »الهجوم« على غزة وكان من قبل أيد الحرب على لبنان مع دافيد غروسمان الذي فقد ولده اثناء الحرب. تراجع الاثنان، والقى الثاني خطاباً معادياً للحرب امام اولمرت. لا نعرف ما الذي اختلف حتى يمضي عاموس عوز في تأييد الهجوم. الحجة هي نفسها التي حملته في البدء على تأييد الهجوم على لبنان.. قنص دبابة إسرائيلية على الحدود اللبنانية من قبل حزب الله في الحال الأولى وإطلاق الصواريخ الاسرائيلية على المدن الاسرائيلية من قبل مقاتلي غزة في الحال الثانية. ردع حزب الله أفضى بعوز وغروسمان الى التراجع فهل استضعاف حماس هو الذي يجعل كاتبي اليسار الاسرائيلي الشهيرين يثابران على تأييدهما للحرب. لم تكن هذه حال ران كوهن احد قادة »ميرتيز« الذي لم يتردد في ان يقف ضد الحرب »حتى ولو كانت الصواريخ تسقط على اسرائيل. اذ ان علينا ان نفهم ان غزة ليست لمليون ونصف فلسطيني سوى سجن. لو كنت في مكانهم سأصرخ وسأضجّ، واذا لم ينفع الأمر فسأشهر سلاحي«. القصة اذن ليست سوى ارسال الصواريخ، وهي بالنسبة لإسرائيلي صالح حجة لا تدحض، لكن إذا علمنا ان ٨٥٠٠ صاروخ اطلقت على اسرائيل في السنوات الثلاث التي اعقبت فوز حماس بالسلطة لم تعقب سوى ١٧ قتيلاً إسرائيلياً، بينما زرعت الطائرات والمدافع الاسرائيلية في المدة نفسها ١٧٠٠ قتيل فلسطيني، سنستنتج ان النسبة هي ١ إلى مئة وهي النسبة التي يبدو ان »الهجوم« الاسرائيلي الحالي يسعى الى ان يحافظ عليها. قد لا يكون هدف الحرب ليس فقط منع الصواريخ الاسرائيلية، ولكن ايضاً المحافظة على النسبة نفسها واحد الى مئة. إنها كذلك على مستوى القتلى اما على مستوى التدمير فلا نعرف النسبة، لكن المؤكد ان الفرق سيكون اوسع بكثير، زجاج نوافذهم وقتلانا يقول حسام عيتاني، الأرجح ان كثيرين يستهولون الزجاج المحطم ولا يرون المقابر التي لم تعد تكفي، ففي السجن الذي اسمه غزة ينبغي أيضاً توسيع المقابر. واحد إلى مئة إنها نسبة مقبولة دولية، يقبلها عاموس عوز ويقبلها العدد الأكبر من المؤرخين الجدد، الذين يتحسرون الآن على وقف الترانسفير، وقبلها العرب ويقبلها، للأسف، الفلسطينيون.
ليس للفلسطيني حياة وليس للبناني حياة معتبرة. فهذه يمكن إزهاقها، بسعر زجاج نافذة، والحجة واضحة: حماس إرهاب وهي منبوذة من نصف الفلسطينيين وأكثر العرب، وسحقها خدمة للعالم والعرب والفلسطينيين. لم تقم اسرائيل بحملتها إلا بعد ان شرحت للعالم أن ما تفعله في غزة يوازي سحق بن لادن والقاعدة وصدام حسين وجلاديه. كاد العالم أن يقتنع لولا أن وقائع صغيرة جعلت الأمر مشوشاً. لقد سقطت القذائف الأولى على حفلة تخريج للشرطة وأعملت في مئات أفرادها الذين يتوخى أن يحافظوا على الأمن والنظام، كان على القذائف ان تبحث عن إبرة المقاتل وسط أكوام المدنيين. هكذا تهدمت المساجد والبيوت والمدارس. وفي كل مرة كان أطفال ونساء ومدنيون يختنقون تحت سقوفها.
يقول الإسرائيليون ان غزة كثيفة مزدحمة، وانهم لا يصلون الى المقاتلين إلا على جسر من الجثث، لكن الحجة الضمنية هي ان الجميع هنا مقاتلون او مقاتلون محتملون. جميعهم أعداء بالقوة او الفعل، لقد صوتوا لحماس فليتحملوا المسؤولية عنها. بعض اصوليينا يفتون بقتل اطفال اسرائيل للسبب عينه، إنهم هنا بالغصب وسيكبرون أعداء. انتظرنا بوش لنعرف ان ما اعتبرناه نبتا قبليا له اشباه في كل مكان، لقد انتبهنا متأخرين أننا نتكلم لغة عالمية، وان ما يقوله الشيخ بن لادن لولا الحرف القرآني له دلالة معاصرة، فهناك دائماً الحرب الوقائية وهناك دائماً الأعداء المحتملون. كثيرون في العالم لا يعرفون اين غزة ولا يفرقون بينها وبين تورا بورا ولا يعرفون مثلاً أنها فقط ٣٦٠ كلم٢ ومعابرها كلها الا واحداً في إسرائيل ووقودها وكهرباؤها وطعامها من هناك، وإن إسرائيل شددت عليها الخناق وأمعنت في حرمانها من كل شيء، منذ ثلاث سنوات، أي منذ فوز حماس بتصويت ديموقراطي. التجويع والظلام وفقدان الدواء كانت عقاباً لشعب غزة على حماس وانتخاب حماس، واليوم يقتل هذا الشعب في مدارسه ومعابده وبيوته كما لو كان مطروداً مطارداً في الجبال او مشاركاً في تفجير البرجين.
السؤال هو هل تحيد إسرائيل عن الهدف العسكري مضطرة؟ وهل تقتنص بدون قصد المقاتلين وسط الأعداد التي اندسوا فيها وتموّهوا بها. إذا لم يكن صواباً قتل ٤٠ طفلاً لاقتناص مقاتل واحد بأي منطق وأي قياس، فإن التأكد من أن أياً من المقاتلين لم يكن بين الأطفال يطرح سؤالاً مختلفاً تماماً. هل تضل الطائرات أهدافـها حــقاً ام ان هـذه أهدافها فعلاً؟
في حرب تموز كتبتُ مقالاً تعجبتُ فيه من أن تغير الطائرات الإسرائيلية على الجسور والمباني والمصانع والمستشفيات، وتراءى لي ان هذا ليس ميدانها، وأنها لا تحطم آلة حرب كهذه بل مشروعاً سلمياً. ترجم المقال في »الكورييه انترناسيونال« وبعد وقت صادفت في الانترنت جواباً بالفرنسية من ضابط إسرائيلي يقول فيه إن تعجبي ليس في محله، وان قصف المنشآت المدنية وتحطيم المجتمع المدني ليسا بعيدين عن أهداف الحرب، فالحرب اليوم تتم هنا وهذا ميدانها بالضبط، وهدفها أن تربح القتال العسكري بتحطيم المجتمع كله. يقول الضابط إن هذا هو علم الحرب من كوسوفو الى اليوم. كانت القوافل المدنية والجسور والمنشآت الأخرى إذن هدفاً عسكرياً بامتياز، فلا داعي لان نتعجب، لم تخطئ الطائرات، لقد أصابت بالأحرى أهدافها.
يخطر لي هذا حين أتذكر أن إسرائيل لم تخلص لأي من ادعاءاتها. لقد باعت الفلسطينيين وعوداً عملت منذ ذلك الحين على تجويفها وتصفيتها. وعدتهم بأرض ودولة وما فعلته إلى الآن هو إبقاؤهم تحت رقابتها، عاجزين عن امتلاك المقومات السياسية والاقتصادية والمكانية لمجتمع ودولة. لقد استمرت في بناء المستعمرات وأردفتها بالجدار منذ اللحظة التي وعدت فيها بتأمين دولة فلسطينية، وما زال الحديث جارياً عن هذه الدولة في حين أنها صارت مستحيلة. من الواضح ان اسرائيل لا تبغي سوى أن لا تقوم للفلسطينيين قائمة وان يستمروا في عوز لكل شيء وان يحيوا في ظلها. إنهم أعداء لا مناص. لا يختلف في ذلك معتدلوهم عن متطرفيهم، تضرب المتطرفين في حين تبقي المعتدلين بلا حول، إن رقم ١١ ألف سجين فضلاً عما اقتطع من الأرض أرقام فلكية ولا مثيل لها في عصرنا.
تريد إسرائيل للفلسطينيين أرضاً شبه محتلة وكياناً تابعاً ومجتمعاً بلا مقومات. تريدهم ضعفاء بأكثر ما يكون الضعف، لا تريدهم بشراً وما زالت تقتلهم كما لم يكونوا بشراً. إنها تتركهم بلا واقع ولا حاضر ولا مستقبل. تضعهم أمام الجدار وتقوم بمعجزات في تجويعهم وإذلالهم. هي هنا لا تكلفهم فوق طاقتهم فحسب، بل لا تعرف حداً للطاقة. العالم يتعجب كم يتحمّل الفلسطينيون من الموت والحاجة والبعض يجد ذلك بدائياً بدون أن يتساءل إذا لم يكن السر في أنهم كلفوا دائماً فوق طاقتهم فباتوا يجهلون أين هي وما هو مقدارها. لم يكن الهولوكوست ولا أمثاله امتحاناً في مستوى الطاقة البشرية، ولا يعرف المرء كم روحاً يمتلكها الإنسان في مدارج البؤس، لكننا نفكر أن هذه هي معجزة السلطة الإسرائيلية هي التي لا تعرف حدوداً للطاقة البشرية. يكاد الخبراء يتفقون أن من الصعب بمكان تدمير حماس وإن ما تريده إسرائيل إجبارها على قبول رقابة حازمة تمنع دخول السلاح. الأمر بسيط إذن، ما من سبيل إلى إجبار حماس، حين تعز تصفيتها، إلا بتدمير المجتمع، لم يكن قصف مدرسة جباليا عبثاً ولا عن خطأ.
لا بد من دم كثير لإجبار حماس على الاستغاثة. لا بدّ من دم أكثر لإجبار إسرائيل على التراجع عن محاولتها الإطباق على حماس، هناك دائماً وفي كل وقت دم كثير ليدفع. إنه تقريباً نقدنا الوحيد، لكن الإفراط فيه يجعله أدنى سعراً، ليس دمنا فحسب بل أطفالنا ونساءنا وقتلانا وآلامنا وسنحتاج دائماً إلى المزيد منها. إنها ملحمة كل يوم، هذا صحيح، لكن القتل العادي قد ينتهي أحياناً إلى تبخيس أنفسنا. لدينا أطنان من الشجاعة أطنان من الصبر، ينبغي أن لا تهدر وأن نجد أنفسنا فقط أمام منافس أوحد هو ذواتنا، على آلامنا أن تبقى منارة، ولن تكون كذلك حين يغدو الدم طبقاً يومياً ويسيل بسهولة في الشوارع.
السفير