فشل الحرب على غزة والاستثمار العربي بعدها
سليمان تقي الدين
بات من المؤكد الآن أن الحرب “الإسرائيلية” على غزة ليست عملية محدودة أو تكتيكية. صحيح ان الاهداف لم تكن معلنة بوضوح لكن سبب ذلك مقصود لإيهام الفرقاء والرأي العام العربي والدولي بأن المطلوب ببساطة هو اخماد صواريخ حماس. إلا أن هذا المطلب الذي يظهر محدوداً وجزئياً لا يتحقق أصلاً إلا بتغيير الاوضاع في غزة كما قالت وزيرة خارجية العدو تسيبي ليفني مع بدء العمليات الحربية.
لقد أعدت “اسرائيل” نفسها لهذه الحرب عبر سياسة الحصار الطويل للقطاع وعبر التوقيت الذي يفيد من المرحلة الانتقالية في الادارة الأمريكية وتمهيد الاوضاع ميدانياً أمام الادارة الجديدة.
سبق ل “إسرائيل” أن انسحبت من قطاع غزّة لانه يمثل كرة من اللهب في يديها وهي ليست راغبة أصلاً باحتضان هذه القنبلة الديمغرافية ذات النضالية العالية. لكن العودة إلى غزة الآن بهدف كسر شوكة المقاومة وإرادة وقدرة القتال لدى الطرف الفلسطيني تمهيداً لحلول سياسية تصفوية. من الواضح ان السياق العام للتعاطي هو تفكيك المشروع الفلسطيني ومنعه من بلورة هويته الوطنية وكيانه المستقل. كل الاجراءات التي تجري في الضفة الغربية بعد “اوسلو” تؤكد ذلك. لقد ازدادت المستوطنات والحواجز الأمنية وتمت عملية ترويض واسعة لحركة المقاومة في الضفة خاصة بواسطة السلطة نفسها. خلال سنوات “اوسلو” كل السياسات “الإسرائيلية” التي جرى اعتمادها تظهر أن “اسرائيل” ليست جاهزة لعملية السلام وهي لم تطبق اتفاق “اوسلو” بل هي ضربت بعرض الحائط كل المبادرات التي تشكل تمهيداً لعملية السلام بما في ذلك مبادرة السلام العربية منذ العام 2002.
يتحصل معنا أن الحرب على غزة هي خطوة على طريق خلق وقائع جديدة لا تسمح للعرب أن يمارسوا ضغوطهم في اتجاه التقدم على طريق المفاوضات.
ان التدمير المنهجي لمقومات الحياة في قطاع غزة كان مقصوداً ومعه المذابح البشرية لايقاع أكبر قدر من الخسائر في المدنيين ولارهاب سكان القطاع واغراقه في المهمات الانسانية على حساب روح المقاومة.
في واقع الأمر تعرف “اسرائيل” أن أمام الادارة الأمريكية الجديدة عدّة ملفات يتم من خلالها استنزاف هيبتها السياسية ومشروعها وفي مقدمة ذلك ملف القضية الفلسطينية الذي يشكل اولوية لدى اصدقائها العرب. لذلك كانت مبادرة “اسرائيل” لخلق اوضاع جديدة على صعيد القضية الفلسطينية يمكن من خلالها تبويب مشاريع الحلول السياسية المطروحة. وهنا بالذات يبدو ان حل الدولتين الذي صار متداولاً وملتزماً به من قبل الادارة الأمريكية ولدى مختلف الاوساط الدولية وكذلك العرب لم يعد في المنظور “الاسرائيلي” مقبولاً. ان اتجاهات الرأي داخل كيان العدو تذهب في التطرف ابعد من ذي قبل. لقد تم انهاء دور حزب العمل التاريخي لمصلحة الحركات الاكثر يمينية من الليكود حتى كاديما. كما ان هناك تطلعاً جديداً نحو بلورة مشروع يهودية الدولة، الامر الذي يهدد مباشرة وجود ومستقبل عرب 1948/ وقد أعلنت ليفني صراحة انها ترغب في احداث مثل هذا التغيير الديمغرافي. في واقع الأمر هذا من تجليات مأزق المشروع الصهيوني اصلاً. لكن بدلاً من ان يتجه هذا المشروع للتكثيف مع المعطيات الجديدة ولا سيما التوسع الديمغرافي الفلسطيني يذهب في اتجاه الهروب إلى الامام عبر تعميق السياسة العنصرية. على ضوء هذه الوقائع يمكن فهم طبيعة الحرب على غزة. لكن ما لا يدركه هذا العدو ان ليس امام الطرف الفلسطيني سوى المقاومة. وان محاولة احداث شرخ فلسطيني بين الضفة والقطاع أو بين المدنيين والمجاهدين هو امر متعذر خاصة بعد اختبار طبيعة الاهداف وانسداد آفاق أية تسوية سياسية فيما يطرحه العدو.
ان فشل العدوان في تحقيق اهدافه السياسية بعد اسبوعين من القصف الهمجي هو الذي استولد القرار 1860 لأن ما يحصل امام الرأي العام العالمي بات عبئاً ثقيلاً على سياسة جميع الدول. لقد بدا ان هذه الحرب تطاول بصورة رئيسية المدنيين وان قسماً أساسياً من ضحاياها هم الاطفال.
لكن القرار 1860 لم يعالج ولم يلامس اصل المشكلة، بما هي مشكلة احتلال ومقاومة. لقد تحدث عن اطلاق النار بصورة عامة وادان ضمناً المقاومة نفسها بالحديث عن العنف والارهاب. ولم يشر إلى الطرف السياسي الفلسطيني في هذه المواجهة بل شدد على ضرورة محاصرته عسكرياً بمنع تسرّب السلاح اليه في حين كان عليه ان يعترف بشرعية المقاومة ضد الاحتلال ويركز شرعية القرار على ادانة اعمال الاحتلال وان يسمي الاحتلال باسمه. لكن رفض اسرائيل لهذا القرار جاء على خلفية انه لا يعطيها مكاسب سياسية عجزت عن تحقيقها في الميدان. لذا نجدها بادرت إلى ما اسمته اطلاق المرحلة الثالثة من الحرب وكأنها بذلك تريد تحقيق بعض المكاسب التي تسمح لها بتبرير حربها امام جمهورها. وبالفعل أفسح القرار الدولي لها هذه الفسحة الزمنية لأنه لم يحدد آليات ووسائل تنفيذ القرار وترك الأمر للتفاوض وهذا هو سبب تحريك المبادرات السياسية نحو إيجاد آليات تنفيذ الهدف منها عدم إعطاء حركة حماس شرعية مطلقة لادارتها قطاع غزة، ومن خلال ذلك خفض أهمية المقاومة التي أبداها القطاع بدلاً من الانطلاق من هذه المقاومة وهذا الصمود لتطوير البرنامج العربي والفلسطيني للتفاوض.
في مطلق الأحوال أسقط صمود قطاع غزة المشروع “الاسرائيلي” الهادف إلى تصفية القضية الفلسطينية وعادت قضية فلسطين قضية مركزية ملتهبة على مستوى الشارعين العربي والاسلامي وفي اوساط شعبية عالمية. ما هو مطلوب الآن إعادة صياغة البرنامج الوطني الفلسطيني لمواجهة المرحلة المقبلة من المناورات السياسية للعدو ولحلفائه الدوليين. ولا بد لهذا البرنامج من ان يأخذ بنظر الاعتبار المخرج بين منجزات المقاومة وثوابت النضال الفلسطيني في التفاوض بعد تطهير التفكير الفلسطيني مما علق به من أوهام جراء المرحلة السابقة ولا سيما كل ما يتعلق بتجربة السلطة تحت الاحتلال.
الخليج