مآزق المعتدلين العرب
محمد سيد رصاص
تشكَلت حالة الإعتدال عند العرب، منذ هزيمة 5 حزيران1967، من خلال معبر اسمه الموضوع الإسرائيلي، وعملياً فقد كان القبول بالقرار242 (22 تشرين الثاني 1967) ثم بمبادرة روجرز (التي وافق عليها الرئيس عبد الناصر في خطابه يوم 23 تموز 1970 ما أوقف حرب الإستنزاف يوم 2 آب التالي) مؤدياً إلى الفرز والإصطفاف، على أساس الموقف منهما، بين معتدلين ومتشددين أو متطرفين، ليشمل معسكر هؤلاء كل قوى المقاومة الفلسطينية وسلطتي البعث في بغداد ودمشق. كما أن الإصطفافات في دوائر بعض الأنظمة كان على أساس الموقف من القرار 242، كماحصل في حزب البعث الحاكم بدمشق حتى جاءت حركة 16 تشرين الثاني 1970، بقيادة الفريق حافظ الأسد، لتبعد اللواء صلاح جديد الذي وجد نفسه، في شهري آب وأيلول 1970، في خصام مع عبد الناصر والسوفيات والأميركيين والسعودية والأردن وخاصة لما حاول التدخل العسكري في الأردن لمصلحة المقاومة الفلسطينية الداخلة في صدام مسلح عنيف مع الملك حسين.
هنا، كان اعتدال الرئيس عبد الناصر في موضوع الحل السلمي، وفقاً للقرار 242، لايتشابه مع ما فعله الرئيس السادات بعد حرب 1973 انطلاقاً من مقولتيه بأن”هذه الحرب هي آخر الحروب مع اسرائيل” وأن “99% من أوراق الحل بيد اميركا”، بل كان يؤمن بأن “السلم” و”التسوية” يمران عبر طريق السلاح والتوازنات الفعلية على الأرض، لاعبر العواطف والمبادرات الرامية إلى “كسر الحاجز النفسي” كما تصور الرئيس السادات عبر زيارته لإسرائيل يوم 19 تشرين الثاني1977، ليُصدم في أيلول من العام التالي أثناء مفاوضات “كمب ديفيد” بذهنية سياسية اسرائيلية لا تعترف إلا بتوازنات الوقائع الفعلية على الأرض من خلال رد بيغن عليه بأنه في السياسة “الورقة تفقد قيمتها بعد وضعها على الطاولة”.
تكرر هذا مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات يوم توقيع اتفاقية أوسلو (13 أيلول 1993) بحديقة البيت الأبيض لما مدَّ ابن القدس يده مبادراً (بعد التوقيع) لمصافحة إسحق رابين ابن المهاجرين اليهود من بولندا إلى فلسطين وأحجم الأخير أمام عدسات الكاميرات،في مشهد رمزي يشي عملياً بما تم في المفاوضات التي جرت في منزل منعزل من ضواحي أوسلو، لما قدَّم الفلسطيني الكثير مقابل وعود بمفاوضات حول “مواضيع الحل النهائي”، مايشبه شراء السمك وهو في البحر، حتى قام شارون (الذي ردَ في اليوم التالي على مبادرة قمة بيروت العربية للسلام عام 2002 بإجتياح الضفة الغربية) بعد عقد من الزمان بتدمير كل نتائج “أوسلو” بما فيها كل مؤسسات “السلطة الفلسطينية” بعدما فكّر عرفات، عبر “الإنتفاضة الثانية” الآتية إثر شهرين من فشل مفاوضات كمب ديفيد الثلاثية بين كلينتون وباراك وعرفات في تموز 2000، بالمزاوجة بين “العنف” و”السياسة”، كما كان يفعل بن غوريون في الأربعينيات قبل15 أيار 1948 ضد العرب، مستخدماً منظمة (الهاغاناه) بشكل مباشر، ومنظمتي “الإرغون” و”شترن” ضد العرب والبريطانيين بطريقة غير مباشرة.
ربما كانت تلك الثنائية بين السلاح وغصن الزيتون، والتي أشار إليها عرفات في خطابه امام الأمم المتحدة عام 1974، هي طريق كل حركة سياسية تسعى إلى بناء دولة أو استعادة كيان أو أرض، كما حصل في فيتنام والجزائر، إلا أن “أوسلو” لا تقود إلى ذلك، وإن تمَّ هذا تحت خيمتها فهو محكوم بالفشل والخسران، كما كان مصير”الإنتفاضة الثانية”، لينقسم العمل الفلسطيني، بعد وفاة الزعيم ياسر عرفات، إلى ثنائية لا تلتقي تعبّر عن انفصال هذين الحدَّين، بين ذهنية سياسية تشبه تلك التي كانت عند الرئيس السادات لدى “السلطة الفلسطينية”، وبين قوة عنفية عند “حماس” لاتملك ذهناً سياسياً
موازناً أوقادراً على تثمير العنف أوالسلاح.
في هذا الإطار، دخل “الموضوع الأميركي” كعامل محدِد للاعتدال والتطرف منذ سقوط بغداد في 9 نيسان2003، وتداخل مع الموضوع الإسرائيلي، وخاصة بعد مرحلة انتقالية كان فيها التحالف الأميركي – الإيراني قائماً في مرحلتي غزو العراق واحتلاله حتى انفكَ تحالفهما في آب 2005 مع استئناف طهران برنامج التخصيب النووي، ليصبح المشهد مكتملاً، وخاصة منذ حرب تموز2006، باصطفافاته واستقطاباته، التي شملت عموم المنطقة من طهران إلى القاهرة، بين”معتدلين” يؤيدون أو يتلاقون أويقبلون الوجود الأميركي بالعراق وأجندات تعلنها واشنطن للمنطقة، أوسياسات ترسمها ضد أنظمة اقليمية معينة وأحزاب وقوى مسلحة متحالفة مع تلك الأنظمة، وبين “متطرفين” (يمكن تسميتهم مقاومين أو ممانعين) يرون أنفسهم في اصطفافات تمتد على مساحة اقليم الشرق الأوسط ضد الأميركي في العراق (ولوظل بعضهم يرعى حلفاء له في بغداد هم حلفاء ومتعاونون مع الأميركي في الآن نفسه، مثل ايران في علاقتها مع آل الحكيم وحزب الدعوة) وضد أنظمة عربية متحالفة مع واشنطن، وضد منظمات أو تحالفات ببلدان عربية عديدة ترى نفسها في الطرف الآخر تجاه “المقاومين” و”الممانعين”.
تأتي مآزق هذا الإعتدال العربي، الذي يشمل أنظمة وقوى واتجاهات سياسية عربية هي خارج السلطات الرسمية، من واقع التحالف العضوي بين واشنطن وتل أبيب، وخاصة بعد تعثرات المشروع الأميركي في المنطقة في السنوات الثلاث الماضية بدءاً من العراق.، وهو مادفع واشنطن لتأييد حرب اسرائيل على لبنان في صيف2006 بصفتها “آلام مخاض ضرورية لولادة شرق أوسط جديد”، على حد تعبير الوزيرة رايس في الأسبوع الأول من تلك الحرب، بعد أن تعثرت ولادته في أرض الرافدين واستعصت (في مشهد هو بخلاف مشهد حرب عام 1991 لما كان تأييد ثالوث الرياض- القاهرة – دمشق للتحالف الدولي بعد الغزو العراقي للكويت مؤدياً إلى فاتورة قدمتها واشنطن تمثلت في ضغط أميركي شديد على اسرائيل لكي تذهب إلى مؤتمر مدريد)، الأمر الذي يتكرر في هذه الأيام مع حرب اسرائيل على قطاع غزة بتأييد أميركي صريح، في محاولة أخيرة من الإدارة الأميركية الراحلة في فترة الإنتقال لإستخدام العامل الإسرائيلي، الساعي إلى ردِ اعتباره بعد فشله في حرب 2006، من أجل قلب الطاولة على التحالف الرباعي (طهران- دمشق – “حزب الله” – “حماس”) عبر ضربه في حلقته الضعيفة، كنوع من المدخل إلى انشاء مشهد شرق أوسطي جديد يعاكس الذي نشأ في عموم المنطقة، وفي هذا الموضع أوذاك،على إثر نتائج حرب تموز.
هذا التحالف بين الأميركي والإسرائيلي يقود منذ سنوات عدة إلى انفلات الموضوع الفلسطيني من أيدي المعتدلين العرب، وسط تغوّل اسرائيلي بتأييد أميركي على الفلسطيني، مايضع “السلطة الفلسطينية” في موقع ضعيف ومعزول فلسطينياً وعربياً واسلامياً على الصعيد الشعبي، وهو ما يصيب بآثاره كل مؤيد أوراغب في “التسوية” مع اسرائيل من العرب سواء كان في الأنظمة الرسمية أوخارجها، فيما استطاع “التحالف الرباعي” أن يماهي “المقاومة” و”الممانعة” ضد اسرائيل، به، وأن يخرج المعتدلين العرب من دائرتهما على الأقل اعلامياً ومعنوياً. وهناك الكثير من المؤشرات على أن هذا حاصل في عيون الكثيرين بالشارع العربي من الرباط والى البحرين.
أيضاً، فإن هذا التحالف العضوي بين أميركا واسرائيل يجعل المعتدلين العرب في حالة انفصال مع غالبية واضحة في الشارع العربي ترى نفسها في حالة كره شديد للسياسة الأميركية، يعادل الذي تحمله ضد اسرائيل، ما يجعل بعضهم في حالة قريبة من حالة نوري السعيد في الخمسينات في فترة ما بعد حرب السويس (تشرين أول – تشرين ثاني 1956) التي شاركت فيها حليفته بريطانيا بالتحالف مع اسرائيل ضد مصر، والتي أدت الى هزيمة بريطانيا فيها إلى نتائج لم تقتصر على رئيس الوزراء أنطوني إيدن في “10 داونينغ ستريت” وإنما أيضاً إلى انعكاسات كان أحد مسارحها في بغداد يوم 14 تموز 1958.
(كاتب سوري)
المستقبل