قطاع غزة ليس جزءاً من أرض الميعاد
ماجد كيالي
احتل قطاع غزة، في الأسابيع الماضية، المشهد الإعلامي، وتحول أهله إلى أسطورة في التضحية والصمود، وفي المقاومة والبطولة، في مواجهتهم للآلة العسكرية الإسرائيلية، التي باتت تعيث فيه تقتيلاً وتدميراً، في ظل موازين غير متكافئة البتة، وفي صورة بشعة لم تشهد لها البشرية مثيلاً منذ الحربين العالميتين.
فبعد ثمانية عشر يوماً(حتى كتابة هذه السطور)، من الحرب الإسرائيلية الوحشية والتدميرية، بلغ عدد الشهداء في القطاع نحو الألف والجرحى نحو الخمسة آلاف، في حين باتت أحياء واسعة وكثيرة من مدن القطاع في حالة خراب، جزئي أو شامل.
وكان قطاع غزة، ومنذ احتلاله في العام 1967، قد عانى الكثير جراء الممارسات الإرهابية والوحشية الإسرائيلية، لكنه مع ذلك استعصى على إسرائيل، ولا يبدو انه في هذه المرحلة سيسلم لها، على رغم حجم الخراب والدمار الذي أحاق به.
ومعضلة قطاع غزة، تحديدا، بالنسبة للإسرائيليين، أنه منطقة تعد بؤرة للمقاومة، إذ يقطنه مليون ونصف مليون من الفلسطينيين، في مساحة ضيقة، لا تتعدى 360 كلم2، تعد من أعلى المناطق في العالم بالنسبة للكثافة البشرية؛ وهذه المساحة تشكل ما نسبته 6 بالمئة من مساحة الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، و1.3 بالمئة من مساحة أرض فلسطين التاريخية. ويشكل اللاجئون الفلسطينيون، الذين قطنوا القطاع بعد النكبة في العام 1948، حوالى 70 بالمئة من سكانه، ويبلغ عددهم اليوم نحو مليون نسمة، أغلبهم يسكن في ظروف صعبة في ثمانية مخيمات بائسة تشرف عليها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، التابعة للأمم المتحدة.
فوق ذلك فإن القطاع يفتقر لمصادر المياه كما للموارد الاقتصادية (زراعة وصناعة وخدمات)، بالقياس للضفة الغربية، لذلك فإن نسبة الفقر في قطاع غزة كبيرة جدا، بسبب ارتفاع نسبة البطالة والتزايد البشري لدى الفلسطينيين فيه. وقد تفاقم الأمر بعد الانتفاضة الثانية نتيجة الاعتمادية العالية على العمل في إسرائيل، وفي المنطقة الصناعية في ايريتز، وكلاهما توقفا بسبب ظروف الحصار والانتفاضة والإجراءات الإسرائيلية القاسية، التي ترمي إلى تجويع الفلسطينيين وإفقارهم وصولا لتطويعهم من الناحية السياسية.
لهذه الأوضاع كلها ظل قطاع غزة، على الدوام، بمثابة شوكة في خاصرة إسرائيل، ومعلماً تاريخاً من معالم حركة التحرر المعاصرة للشعب الفلسطيني، حيث تم التأسيس فيه لفكرة الكيانية الفلسطينية، وذلك في المؤتمر الوطني الأول الذي عقد في مدينة غزة، إثر النكبة، بزعامة الحاج أمين الحسيني(1/10/1948)، والذي انبثقت عنه “حكومة عموم فلسطين”.
بعد ذلك انطلقت الطلائع الأولى للعمل الفدائي (1955 ـ 1956)، التي دفعت لميلاد حركة “فتح” في منتصف الستينيات، والتي ضمت بين أبرز مؤسسيها شخصيات من لاجئي قطاع غزة من مثل القادة الشهداء: أبو جهاد وأبو يوسف النجار وأبو إياد.
أيضاً، من قطاع غزة اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الكبرى في العام 1987، ومنها انطلق التيار الإسلامي المقاوم؛ ممثلا بحركتي الجهاد وحماس؛ وهي أول بقعة من أرض فلسطين اختارت إسرائيل الانسحاب منها، من طرف واحد (2005).
وعليه لم يكن مستغرباً تصريح اسحق رابين (رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق) في مطلع التسعينيات، أي بعد نحو ربع قرن من الاحتلال، والذي قال فيه بأنه “يتمنى لو يستيقظ ذات يوم ويجد غزة قد غرقت في البحر”! ما يعكس بجلاء يأس إسرائيل من قدرتها على فرض سيطرتها على هذا القطاع، الذي لعب دوراً كبيراً في تعزيز الجدل بين الإسرائيليين بشأن عدم جدوى الاحتلال وفشل السيطرة على شعب أخر وإخفاق مشروع الاستيطان. ولا شك أن هذا الجدل ما كان له أن يبلغ ما بلغه لولا حال ممانعة ومقاومة الفلسطينيين للاحتلال، ولولا عجز إسرائيل عن فرض املاءاتها عليهم.
وكانت الانتفاضة الأولى (1987 ـ 1993) قد أفضت إلى تشكيل قناعة لدى غالبية الإسرائيليين بشأن ضرورة الخروج من جحيم أو مستنقع غزة، وهذا ما يفسر أن اتفاق أوسلو (1993) تضمن أولاً الخروج الإسرائيلي من القطاع.
أما مفاعيل الانتفاضة الثانية، التي اندلعت أواخر العام 2000، فقد أفضت إلى تفكيك مستوطنات القطاع وإجلاء المستعمرين الإسرائيليين منه سواء كانوا على شكل عسكريين أو مستوطنين؛ وفق خطة أريئيل شارون (رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق)، والمتمثلة بخطة الانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة، وتفكيك مستوطناته، وهي خطة تم تنفيذها في عهد ايهود اولمرت (2005) الذي خلف شارون في زعامة حزبه كاديما، وفي رئاسة الحكومة الإسرائيلية.
وفي ذلك وقفت معضلة إسرائيل في قطاع غزة، وراء الانقسام في حزب الليكود، وإنشاء حزب كاديما (بزعامة شارون ثم اولمرت ثم ليفني)، حيث أن الوعي بالعجز عن السيطرة على الفلسطينيين، خصوصا في القطاع، انتقل حتى إلى أوساط حزب الليكود اليميني وإلى وعي قيادته، وهذا ما عبر عنه شارون، أكثر من مرة، باعترافه بأن الاحتلال مكلف للإسرائيليين أيضا، وبإعلانه إفلاس المشروع الاستيطاني الإسرائيلي في قطاع غزة، وصولا لطرحه خطة الانسحاب الأحادي من القطاع؛ من دون أي تفاوض مع الفلسطينيين، كما قدمنا. وحتى أن شاؤول موفاز، وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، أكد في تصريح له، بأن “المستوطنات داخل قطاع غزة ليست في خريطة مصالح دولة إسرائيل” ..لدرجة أنه صرح بأن “قطاع غزة ليس أرض آبائنا وأجدادنا..أنا ازعم أن الآباء المؤسسين لاتفاق “غزة وأريحا أولا” ارتكبوا خطأ حين سمحوا للمستوطنات الإسرائيلية بالبقاء في قطاع غزة.” (معاريف 14/5/2004).
هكذا أجبر قطاع غزة غالبية الإسرائيليين على الإقرار بأن ليس لديهم ما يعملونه في القطاع، فهو ليس جزءاً من “أرض الميعاد” في عرفهم. وفوق ذلك فهو ليس جائزة وإنما عبء سياسي وأمني واقتصادي وأخلاقي.
الآن، يبدو أن الصراع على قطاع غزة، الذي كان منطلق الكيانية الفلسطينية، وموطن الحركة الوطنية الأول، سيحدد مصير العمل الفلسطيني، وشكل الحركة الوطنية الفلسطينية، مهما كانت نتائج هذه الحرب.
فقد بينت التجربة بأن ليس ثمة حل امني أو عسكري في مواجهة مقاومة الشعب الفلسطيني، كما بينت بأن هذه المقاومة يمكن ان تتراجع وأن تخبو، ولكنها سرعان ما تعود للنمو والاشتعال.
لكن مع ذلك، فمن الواضح أن مصير قطاع غزة سيحسم في الكثير من الملفات، المعقدة والعالقة، ومن ضمنها: عملية التسوية، وانقسام النظام الفلسطيني، ومكانة كل من حركتي فتح وحماس، في القيادة، أو على الأقل فهو سيقرر كيفية التقرير بهذه الملفات.