الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزّة: تسوية الآن.. أم حرب استنزاف طويلة؟
ماجد الشّيخ ()
في إحدى الندوات الساخنة في التلفزيون الإسرائيلي، قال جنرال كبير إنّ العرب ومعظم الجمهور الإسرائيلي، لا يعرفون بعد ما معنى المرحلة الثّالثة من الحرب، فهم يعتقدون أنّ المرحلة الثالثة هي دخول الجيش في مناطق الكثافة السّكّانية مثل المخيّمات، وبالتّأكيد إسرائيل لا تفكّر بذلك لأنّ غزّة قادرة على ابتلاع لواءين من الجيش بكلّ سهولة، وأنا لا أريد أن أوضّح ما هي المرحلة الثالثة، لكن سأقول أنّها مختلفة عمّا يفكّر به المتحدّثون؛ وسيكون من خلالها الجيش قادراً على الرّماية الطّويلة، دون الحاجة للدّخول في مناطق الازدحام السّكاني بالقطاع.
وحين سئل الجنرال الإسرائيلي عن المرحلة الرّابعة، قال إنّ هناك قادة كباراً في الجيش الإسرائيلي لم يجر اطلاعهم على ماهيّة المرحلة الرّابعة، وهي سر عسكري لا يجري الإفصاح عنه، لكنّها مرحلة مختلفة وتعتمد على تدريبات مكثّفة خضع لها الجيش منذ سنتين.
وإذا كان الجيش الإسرائيلي يعتبر أنّه قد أنجز المهمّة العسكريّة التي كلّف بها، وفي مقدّمها إثبات مقدرته الرّدعيّة، فإن أهداف الطّاقم السياسي الحاكم لم تنجز بعد، وهي لن تنجز في حال عدم التّوصّل إلى اتفاق سياسي تسعى إسرائيل للوصول إليه.
من هنا تبدو إسرائيل في خضم سباق مع الوقت؛ بين سياسييها والمؤسسة العسكرية والأمنيّة من جهة، وداخل كلّ طرف من جهة أخرى. فما يجري ميدانيّا لا يقدّم الحسم أو الحزم اللازم لاستمرار العمليّة العسكريّة في مرحلتها الثّالثة؛ ولا تلك الرابعة، أو تمهيد الخط الأخير للسّباق نحو إيجاد مخرج سياسي لا بدّ منه للانتهاء من كابوس العمليّة العسكريّة، قبل أن تبدأ بفقدان ما يعتقد أنّه إنجازاتها المفترضة أو الموهومة، وخسارة ما تحقّق.
ضبّاط كبار نقلت عنهم هآرتس (11/1) قولهم أنّه سيكون على الجيش الإسرائيلي توسيع حملته العسكريّة لعشرين يوما آخر على الأقل مع إشراك قوّات الاحتياط. ونقلت عن مصدر سياسي قوله إنّه من دون حل مسألة التّهريب ووجود آليّة رقابة ناجعة في محور فيلادلفي لن تنتهي العمليّة العسكريّة، وقال نحن مستعدّون لحل سياسي بواسطة المصريين، لكن إذا لم تنشأ رقابة؛ فلن يكون مفر من توسيع العمليّة.
رغم ذلك تبدو إسرائيل متردّدة في إطلاق مرحلة جديدة من عدوانها الوحشي غير المسبوق على غزّة، رغم تأييد غالبيّة أعضاء الحكومة لها وتوصية الميجر جنرال “يوآف غالنت” بتنفيذها بداعي أنّها ستضمن وقف تهريب السّلاح لسنوات عديدة قادمة. لهذا لا يخفي كبار ضبّاط الجيش الإسرائيلي قلقهم من احتمال أن يؤدّي عدم الحسم في قطاع غزّة، إلى تحمّل إسرائيل تكاليف باهظة، فقد قال رئيس مجلس الأمن القومي السّابق الجنرال المتقاعد غيورا آيلند أنّه “لا يمكن للجيش أن يستمر في هذا الوضع إلى ما لا نهاية، ونريد التّوصّل إلى قرار: إمّا وقف إطلاق النار، أو البدء بعمليّة عسكريّة واسعة يمكن أن تستمر لأسبوعين على الأقل. نحن ندور حول أنفسنا منذ أسبوع، وحان الوقت لاتّخاذ قرار الآن”.
أما العميد احتياط يعقوب عميدور فقد رأى أنّه إذا كانت الحكومة تريد أن تحقّق ما أعلنت عنه، فينبغي أن تقلب المعادلة رأساً على عقب، يجب تكليف الجيش باحتلال قطاع غزّة، حتى يستجاب لمطالبنا والموافقة على الشّروط التي تطرحها إسرائيل، وإلا فسيضطرّ الجيش الإسرائيلي للاستعداد لسيطرة طويلة في القطاع، معظمه أو كلّه.(إسرائيل اليوم 8/1/2009).
وانسجاماً مع منطق العميد عميدور، فإنّ الجنرال يوآف جالنت وهو كذلك برتبة عميد ويشغل قائد قوات جيش الاحتلال في الجنوب (قطاع غزّة) يدعو أيضا إلى وجوب إعادة احتلال كامل قطاع غزّة بكلّ ثمن ومهما تكلّفت إسرائيل من خسائر، وإلاّ فإنّ الصّواريخ ستصل قريبا إلى مدن إسرائيليّة أبعد مما وصلت إليه حتّى الآن.
ونقلاً عن مواقع عبريّة إخباريّة، فإنّ قادة آخرين في جيش الاحتلال بدأوا يقتنعون أكثر فأكثر بوجهة نظر جالنت، ويضغطون على الحكومة لاجتياح غزّة بالكامل بواسطة عشرات الآلاف من الجنود الاحتياط من كتيبة “هنيغف” أي (النّقب)، ومعنى ذلك، وفي حال اجتاحت إسرائيل قطاع غزّة، فإنّ الأمر سيحتاج إلى ثلاثة أسابيع أخرى من المعارك المكثّفة، ولهذا يقول جالنت لقادة إسرائيل وهو عضو مجلس الأمن القومي اليهودي في إسرائيل، أنّه “إذا لم تفعلوا ذلك فلا تتعجّبوا إذا وصلت صواريخ غزّة إلى تل أبيب لاحقا”.
من هنا تبدو مسألة التّسوية الدبلوماسية عبر مصر ومسألة الحسم العسكري في سباق مع الزمن، على أنّ توسيع الأهداف يخلق صعوبة أمام تحقيقها، ويحوّل الحملات الخاطفة إلى حروب استنزاف طويلة. وحسب هآرتس (6/1) فإنّ “المزيد من أيّام القتال والمزيد من مئات القتلى في الجانب الفلسطيني لن يعزّز الرّدع الإسرائيلي، وستؤدّي فقط إلى تقويض الأساس السّياسي والأخلاقي للعمليّة العسكريّة”. لكن كيف يمكن إنهاء الحرب عبر الدبلوماسية؟ علما أن هناك العديد من المقترحات منها المصريّة والتّركيّة ومقترحات الأمين العام للأمم المتّحدة، وهناك أيضا المقترحات الفرنسيّة من أجل هدنة إنسانيّة. وحسب هآرتس التي عارضت اجتياحاً برّياً ينتهي باحتلال القطاع، لن يقلّل أيّ من هذه المقترحات من قدرة إسرائيل العسكريّة أو السّياسيّة إن هي قرّرت دراسة هذه المقترحات، بل ربّما كان من شأن هذا أن يمنحها الإنجاز الأهم الّذي تصبو إليه: تغيير الوضع الأمني على حدود غزّة.
وفي هذا السياق نشرت التايمز اللندنية (10/1/2009) تقريراً حول مبادرة دبلوماسيّة دوليّة، بعد رفض الحكومة الإسرائيليّة تطبيق قرار مجلس الأمن الدّولي، تشمل مقترحات حول تحكّم السّلطة الفلسطينيّة وسيطرتها على الحدود، بالإضافة إلى مراقبة دوليّة تركيّة وفرنسيّة على معبري رفح وكرم أبو سالم. وتشمل المبادرة الدّبلوماسيّة التي تركّز عليها وسائل الإعلام الإسرائيليّة وقفا فوريّا لإطلاق النّار، تدار بعده محادثات حول ضمان فتح المعابر وإعادة الهدوء، بحيث تفتح المعابر بوجود السّلطة الفلسطينية والقوّات الدّوليّة التركيّة الفرنسيّة.
لكن المبادرة هذه التي تعتمد بنود المبادرة المصريّة الفرنسيّة تواجه عدّة عقبات أهمّها معارضة حركة “حماس” لوجود قوّات دوليّة في قطاع غزّة على المعابر، وكذلك إصرار الحكومة الإسرائيليّة على وجود قوّات دوليّة كبيرة تضمن هدم أنفاق تهريب الأسلحة، وذلك في تأكيد على إحدى أهم إشكاليّات المبادرة؛ التي تصوّر الصّراع كنتاج لمشكلة تهريب الأسلحة للمقاومة، وليس نتاج الحصار والاحتلال.
وفي كل الأحوال، يرى عكيفا الدار إنها وعبر عمليّتها في غزّة، تكون حكومة إسرائيل المنتهية ولايتها استطاعت أن تضع الصراع على طاولة البحث الدّولي، حتّى قبل أن تطأ قدما الرّئيس الأميركي الجديد أعتاب البيت الأبيض. أمّا الحساب السّياسي مع أحزاب الائتلاف الحكومي التي صوّتت بالإجماع إلى جانب قرار الهجوم، ومع المعارضة التي أيّدتها فهو مؤجّل إلى العاشر من شباط (فبراير) المقبل. أي إلى موعد انتخابات الكنيست إذا لم تؤدّ تطورات العملية العسكرية إلى تأجيلها إلى موعد لاحق.
لكن قبل ذلك، يبدو أنّ احتياجات إسرائيل الأمنيّة والمفاهيم الدّولية في شأنها وإن قسّمت وتقسّم الموقف الرسمي الإسرائيلي حتى في ذروة المعركة الحاليّة، فإن “مكافحة الإرهاب”؛ وهو الخط الّذي انتهجته الولايات المتّحدة في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001 ، ما زال المهيمن في فضاء العلاقات وانتشار المفاهيم المغلوطة التي تمتح منها إسرائيل في عمليتها العسكرية والتدميرية الواسعة الجارية في غزة، دون أن تثمر جهود المجتمع الدّولي حتى بعد صدور قرار مجلس الأمن في إيقاف الحرب، ودون أن تجد من يزجرها، أو يرفع سيف الفيتو في مواجهة إرهابها الهمجي. وهذا ما يرقى إلى وضع مصالح إسرائيل واحتياجاتها الأمنيّة فوق كلّ اعتبار، بل وإدراج عمليّتها العسكريّة المتدحرجة في غزّة في إطار الحرب الأميركيّة ضدّ الإرهاب.
ومع أنّ حرباً كهذه، ومن قبلها حرب لبنان الثانيّة، ينبغي أن تكون قد بدّدت أوهاما كثيرة، خاصّة لدى الإسرائيليين التي تضخّمت “نقطة التّوهّم” لديهم، فقد اعتبر ألوف بن أن الحرب أمر معقّد مع الكثير من عدم اليقين والمفاجآت، فقد أفشلت “نقطة التّوهم” هذه كبار الاستراتيجيين والعسكريين في تاريخ الحروب في العام 1940، وبعد إخضاع فرنسا لحرب خاطفة لم يتوقّف هتلر لإنجاز تسوية مع بريطانيا. وكذلك حين دخل إلى روسيا عاد إلى تكرار الخطأ ذاته بعد عام واحد فقط، وهكذا كان قبره هناك، تماماً مثل نابليون من قبله. وفي نفس العام ارتكبت اليابان الخطأ ذاته بعد أن شنّت هجوماً ناجحاً على بيرل هاربر، لكن توهّم زعمائها قادهم إلى الاعتقاد أنّ بإمكانهم السّيطرة على الإمبراطوريّة بدل البحث عن مخرج، حيث كانت النتيجة خراب اليابان واحتلالها. من هنا يذهب ظن “ألوف بن” إلى ضرورة توقّف الحرب عند الحدود التي بلغتها، أمّا استمرارها فترة أطول فهو نتاج “نقطة التّوهم” التي بدأت تخادع الإسرائيليين، ويمكنها أن تطيح ما اعتبروه “إنجازاتها” المتحقّقة.
المستقبل
() كاتب فلسطيني