قضية فلسطين

محرقة غزة .. إلى أين ؟

الدكتور عبدالله تركماني
محرقة غزة وما حدث فيها من استهداف المدنيين والمدارس والمستشفيات وسيارات الإسعاف، واستعمال القنابل العنقودية والفسفورية الحارقة التي أسفرت، حتى كتابة هذه السطور، عن استشهاد 875 مواطن فلسطيني وجرح ما يقارب 3681 أغلب جراحاتهم بليغة. هي ليست أولى المجازر الصهيونية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني على يد الآلة العسكرية الإسرائيلية، غير أنّ هول ما يجري بغزة وفظاعته لا يتأتيان من المشهد الدموي البشع فقط، إنما من المشهد العربي العاجز والمشهد الفلسطيني المنقسم أيضا.
لقد كان الوضع قبل محرقة غزة على النحو التالي: ” حماس ” تعتقد أنّ باستطاعتها تحسين موقعها التفاوضي مع إسرائيل التي خرقت مرارا التهدئة، وأنّ بإمكانها الاستفادة من التباين في مواقف الأحزاب الإسرائيلية التي تستعد لخوض الانتخابات العامة. كما رأت أنّ تأزيما محدودا للوضع الأمني قد يعزز أوراقها الفلسطينية الداخلية ويدفع السلطة الوطنية الفلسطينية إلى التجاوب مع مطالبها، بما في ذلك وقف المفاوضات مع إسرائيل على أساس عملية أنابوليس. وكان هناك أيضا دفع إقليمي سوري – إيراني للحركة في اتجاه القطع مع محور الاعتدال العربي الذي تمثله مصر والسعودية.
أما إسرائيل فكانت تسعى، وفقا لتصريحات قادتها العسكريين، إلى استعادة ورقة الردع المستند إلى تفوق ناري وعملياتي هائل. كما كانت تعرف أنّ التزامات ” حماس ” الإقليمية ستدفعها إلى التخلي عن المظلة المصرية ووقف العمل بالتهدئة، لذا تحينت الفرصة لتوجيه ضربة مؤلمة، هي في الوقت نفسه رسالة إلى حلفاء ” حماس “، خصوصا في لبنان، بأنّ أي حرب مقبلة ستكون باهظة الثمن.
إنّ المحرقة البشعة التي ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة أقل ما توصف به هو أنها جريمة ضد الإنسانية‏,‏ وليست فقط إفراطا في استخدام القوة العسكرية كما وصفها البعض‏,‏ فالقانون الدولي الإنساني يلزم قوات الاحتلال بالحفاظ علي حياة وممتلكات المدنيين‏,‏ غير أنّ إسرائيل لم تأبه مطلقا بقواعد القانون الدولي‏,‏ ولم تتورع عن أي عمل ترى فيه مصلحتها الأمنية‏,‏ بصرف النظر عن مدى مشروعيته‏,‏ أو احتمال أن يكون ضحيته قتلى وجرحي مدنيون بأعداد كبيرة‏.‏
وإذا كان لكل حرب نهايات عسكرية وسياسية في آن، فلعله من نافلة القول: إنّ النهايات السياسية هي التي ترسم ملامح الوضع الجديد المستهدف من وراء العمل العسكري. وفي الواقع لا أحد يمكن له أن يحدد كيف ستنتهي الأمور، فهل يكون العدوان الإسرائيلي على غزة شرارة قد تغير صورة الوضع وتقيم شرق أوسط جديدا ينعم بالأمن والأمان والاستقرار وبالعيش المشترك بين جميع الشعوب فيه ؟ وهل يمكنه أن يلغي حالة الانقسام، ويوحد الحركة الوطنية الفلسطينية من جديد على وقع الهتاف الشعبي الذي صرخ به أبناء المخيمات من حرقتهم ” يا فتح ويا حماس وحدتكم هي الأساس “.
إنّ المدخل المباشر إلى التعاطي الفلسطيني المجدي مع العدوانية الإسرائيلية، هو استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية في إطار شرعية وطنية موحدة، بما يطوي صفحة انشقاق ” حماس ” القاتل الذي وقع في يونيو/حزيران 2007، وبما يعيد غزة جزءا لا يتجزأ من جغرافية فلسطين. كما أنّ تكامل الشرعيتين، الفلسطينية والعربية، هو الدينامية السياسية التي لا بد منها من أجل جعل القرار الصادر عن مجلس الأمن قرارا ذا قيمة، أي من أجل جعل ” تدويل ” عملية السلام الإقليمية مسألة ناجحة، خاصة مع وجود مبادرتين إقليميتين، مصرية وتركية، جديرتين بأن تكونا معا الأداة التنفيذية لقرار مجلس الأمن 1860.  إذ أنّ البند الثامن من القرار يدعو إلى: جهد متجدد وعاجل من قبل الأطراف والمجتمع الدولي لتحقيق سلام شامل على أساس الرؤية القائمة على وجود دولتين ديموقراطيتين، فلسطين وإسرائيل، تعيشان بجوار بعضهما البعض في سلام وداخل حدود آمنة معترف بها.
في كل الأحوال، إنّ محرقة غزة تعبير مكثف عن أزمة بنيوية، لذلك فإنّ حلها يحتاج إلى معطيات سياسية جديدة، وإلى تحولات نوعية. ومع ذلك فإنّ القوى الفلسطينية الفاعلة قادرة على الحد من آلام هذه المرحلة، وتأمين ولادة حالة فلسطينية جديدة، بأقل الخسائر الممكنة. مما يتطلب توفر الوعي المستقبلي والإرادة الصلبة، وتوفير الترجمة العملية لذلك، بعيدا عن المزايدات المجانية، والحسابات الفصائلية الضيقة.
وفي كل الأحوال لا بد من تكرار أنه لا فائدة من حكومة وحدة وطنية فلسطينية في غياب الاتفاق على برنامج سياسي واضح، لا يمكن إلا أن يأخذ في الاعتبار ما وصلت إليه العملية السياسية في ضوء نصف قرن من النضال الفلسطيني. وهذا يتطلب: أولا، نبذ التوجه نحو تجييش العواطف والعناصر. وثانيا، نبذ استعراض القوى والانجرار للاقتتال الجانبي. وثالثا، اعتماد وسائل الحوار والنقد والتفاعل البنّاء، لإيجاد توافقات وطنية فلسطينية. ورابعا، إن لم تفلح هذه الوسائل، لا مناص أمام الفلسطينيين من حسم الأمر عبر الوسائل الديمقراطية، وضمنها الاستفتاء والانتخابات المبكرة.
فرغم دموية المشهد واحتقان الصدور والغضب، إلا أنّ الحكمة تتطلب الصبر، وعدم انحراف بوصلة المشروع الوطني الفلسطيني، بتقديم الصالح العام والمصالحة الوطنية، لأنّ بديل المصارحة والمصالحة والوحدة الوطنية هو التدهور ومضاعفة مأساوية المشهد الفلسطيني.

كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
(+) – نُشرت في صحيفة ” الوقت ” البحرينية – 15/1/2009

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى