المعاني الأبعد وراء سطح الانشقاق العربي
صالح بشير
من وسم «معسكر الاعتدال» وأهله بتلك الصفة ظلمهم وأجحف في حقهم، أو قصّر على أقل تقدير. فهو قد جمع، بشيء من تعسف، تحت تلك التسمية ما لا يجتمع، أو ما قد لا يفعل إلا على نحو عارض. إذ أن «الاعتدال» قد يكون ملمح سياسةٍ في لحظة ما وحيال أمر ما، ولا يسعه أن يكون طبيعة لدولةٍ أو كنهاً لها، خصوصا إن تعلق الأمر بشأن كذلك الفلسطيني وطرق الدول العربية في التعاطي معه وفي النظر إليه وفي سبل معالجته.
فإن عُد ذلك «الاعتدال» إقبالا على تسويةٍ، لا تستبعد التفاهم مع الدولة العبرية بل تسعى إليها، وتسلم في ذلك بدورٍ فاعل للولايات المتحدة، رعايةً واحتكاما ومبادرة وضمانا، فليس في ذلك ما يستوي فارقا جوهريا عميقا بين أهل ذلك «الاعتدال» وسواهم. ذاك أن «الممانعة»، بالرغم من صوتها الجهير، ليست غير «اعتدال» مؤجل، آني وإن تمادى، يشخص، بقوة الأشياء، نحو نفس الغاية وينشدها، على ما برهن مسلك الممانعين، أو معظمهم ممن كان يُتوسم من قبلهم فعلٌ قبيل مذبحة غزة الأخيرة وحتى في لحظات اشتدادها.
لكل ذلك، ربما تعين البحث عن مصطلح آخر (وأمر المصطلحات ذاك ليس بالمجاني) يكون أكثر دقــة وأبـعد قدرة على التعريف، مُفصِح مفيد، بمعنى الإفادة، غير سجالي أو ينشد ذلك قدر الإمكان. وتلك معايير، إن اعتمدناها، أمكننا القول أن ما يسم الدول العربية الموصوفة بالاندراج في ما يسمى بمحور «الاعتدال»، هو القول بأنها تجسد «الكيانية» العربية، سمة لديها تكوينية ومُحدِّدة، تنبع منها السياسات التي تتوخى وتعود إليها المقاربات التي تتبنى، وأن الواقعة تلك، بصرف النظر عن الرأي فيها، مباركة أو دحضا، هي مما قد يمتنع فهم مجريات المنطقة دون الأخذ به واعتماده.
ينطلق «كيانيو» المنطقة، على يبدو، من مسلمة مفادها أن كياناتهم قائمة وثابتة وقد تكون نهائية، وأنها هي أساس النظرة إلى النفس وإلى العالم، وإلى المجال «القومي»، بوصفها نتاج نصاب قام واستتب في أعقاب الفترة الاستعمارية ومكّنها من أسباب الوجود من جهة، ووسيلة للانخراط في الحياة الدولية، التي لا تقر لها بغير تلك الصفة، من وجه آخر. وقد آل ذلك المنطق، وبصرف النظر حتى عن ذلك العامل الحاسم ممثلا في حال ميزان القوة بين العرب والدولة العبرية وفي اختلاله الفادح، إلى استنتاجين أساسيين: أولهما الكف تدريجا عن النظر إلى المسألة الفلسطينية بوصفها قضية «قومية»، أو «إسلامية في ما بعد، تسائل ذلك الواقع الكياني وتحرجه ولا تتورع عن دحضه، بل على أنها مشكلة وطنية لم تتحقق، لأسباب يطول الخوض فيها، لا حل لها إلا في إطار ذلك الواقع الكياني، بالسعي إلى إنشاء كيان فلسطيني، في الأراضي المحتلة، ينضاف إلى تلك الماثلة ويقوم إلى جانبها. وثانيهما الاعتماد بالدرجة الأولى على القانون والاتفاقات ومباركة العالم وقواه، وما يسمى على نحو أعم بـ»الشرعية الدولية»، لبلوغ هذا الهدف، مع إبداء الحرص على منظمة التحرير وعلى السلطة الوطنية، وقد تمكنت أولاهما من تمثيل الوطنية الفلسطينية ومن نيل الاعتراف الدولي بصفتها تلك واستوت الثانية واجتُرحت بمقتضى ذلك الاعتراف وبإرادته.
والمنطق هذا يلوح متماسكا، ولا تعوزه النجاعة، أقله من الناحية النظرية، ويمكن القول بأنه هو الذي خرج منتصرا، بالرغم من كل اللغط اللفظي ومن حمأة الشعارات الجياشة التي رافقت مأساة غزة الدامية، الخارقة إجراما وشينا، ومع أن من يقيسون الأمور بمقياس المظاهرات المليونية قد لا يتنبهون إلى ذلك أو قد ينكرونه. خصوصا وأن المنطق الممانع المقابل، الذي لا ينكر الكيانية الفلسطينية إلا من باب إلحاقها بغائم الإيديولوجيات أو بسافر التوق إلى التمدد الإمبراطوري، لم يحسن التستر على نوازعه تلك، ولاذ بتردد عملي ضئيل الفعل أو عديمه، لم يتعدّ راديكالية القول.
تمكن ذلك المحور «الكياني» إذاً من فرض وجهة نظره، فامتنع عن العودة بالصراع، إن في وجهه الفلسطيني-الإسرائيلي، وإن في وجهه العربي-الإسرائيلي، إلى سويته ما قبل الوطنية، وقد استند إلى زعامة مصرية صريحة، تستند بدورها إلى الكيانية الراسخة لذلك البلد (وهو يُعد في هذا الصدد مؤسسا في المجال الشرق أوسطي) وإلى وزنه وإلى موقعه الجغرافي محاذيا عربيا وحيدا للقطاع. ولعله من العلامات الفارقة على غلبة ذلك المنطق أنه لم يحدث، ربما قط، في تاريخ ذلك الضرب من المواجهات، ومع أن الأخيرة أشنعها، أن تضافر أقصى التعاطف الإنساني مع سكان غزة مع الجهر بنقد، قاس في بعض الأحيان، حيال حركة «حماس» وسياساتها واختياراتها وأدائها القتالي. كأنما عرفا، كان يبدو راسخا، قد «انتُهك» هذه المرة، مفاده الإحجام عن أي انتقاد يوجه إلى المقاوم أثناء اضطلاعه بفعل المقاومة، أي كأنما فصلا قد أقيم بين شعب غزة وحركة حماس، حيث لم تحظ هذه الأخيرة بتعاطف وبمنزلة بطولة كذينك اللذين كانا، على سبيل المثال، من نصيب «حزب الله» اللبناني سنة 2006.
هو إذاً واقع جديد يبدو أنه قد تأكد، قوامه تمكن تلك المقاربة التي وصفناها بـ»الكيانية»، غير أننا إن حسبنا ذلك غلبة صريحة تحققت لصالح ذلك الاتجاه، إلا أن الغلبة تلك تواجه تحديات أساسية كأداء. أولها أنها تلوح كالمستفيدة، في هذه الحالة تحديدا، من جرم إسرائيلي فادح بعيد الشأو استثنائي، متواطئة معه أو ملازمة له، ما ينال بليغا من شرعية تلك الغلبة المفترضة. وثانيها أن المنحى الكياني ذاك يبدو حييّا، غير قادر على الإفصاح عن منطقه وعن الجهر به، لم يتحرر تماما من «المقولات» والشعارات السائدة، يلوذ بها أقله من باب الدفاع عن النفس. وهو استوى مواقف ونظرة إلى الأمور ولكنه لم يستوِ «ثقافةً»، ما يفضي، في أفضل الأحوال، إلى تشويش الرسالة، بل إلى ضرب من فصام.
أما التحدي الأعوص، فهو ذلك المتمثل في الدولة العبرية. فهذه الأخيرة هي التي أجهضت حتى الآن، بأكثر مما فعلت قوى مثل إيران أو «الجماهير»، تلك المقاربة «الكيانية» وحالت دون تفعيلها في الواقع حلا للنزاع، بأن أفشلت كل مساعي التسوية وتنكرت لها، مهما بلغت من «اعتدال» لم يثمر غير وسم من راهنوا على مثل تلك المقاربة، أو وصمهم به.
وهكذا، يُخشى أن يظفر «الكيانيون» العرب بانتصار، كان باهظ الثمن في معركة غزة، لا يجديهم ولا يجدينا شيئا.
الحياة