إنه الفرز
داود الشريان
الحرب على غزة هي القشة التي أنهت انتظار حال الفرز في الموقف العربي. شيّعت حرب غزة ما يسمى الإجماع، والعمل العربي المشترك. ومنذ الآن سيغيب دور الجامعة العربية، فملاّكها تفرقوا الى وقت طويل مقبل. العرب لم يتفرقوا منذ زمن بعيد مثل حالهم اليوم. ففي «كامب ديفيد» اتحدت الدول العربية ضد مصر، باستثناء عُمان. وفي غزو الكويت قاتل الجيش السوري جنباً الى جنب مع السعودي والمصري، رغم وجود جبهة ما سمي «عرب الضد». لكننا اليوم في حال انقسام لم نعرفه من قبل، ولن يحل بالتراضي، وتقبيل الرؤوس. لا بد لإنهاء هذا الانقسام من منتصر ومهزوم، والمثل العربي يقول: «ليس دون الحلق الا اليدين».
كانت الحرب على لبنان «بروفة» عملية لهذا الفرز، لكن غزة فتحت الستار على مشهده الحقيقي. وهذا الفرز له تداعيات تعقبها نتائج ستكون حاسمة ونهائية، وستغير الحرب طبيعة العلاقات العربية – العربية، وتعزز سياسة المحاور. يصعب التكهن، ولكن يمكن القول إن فريق «الدوحة الثانية» سيحاول التعبير عن دوره في مصر والبحرين والكويت، ويسعى الى إضعاف دور الأغلبية في لبنان، ويدعم بروز دور «حماس». وفريق المبادرة المصرية، سيتخلى عن سياسة الصبر والانتظار، ويساند في شكل مختلف بناء مؤسسات الدولة في لبنان، ويقف الى جانب «فتح» على الساحة الفلسطينية على نحو جديد، وينشط في خلق تهدئة طويلة مع إسرائيل تسمح ببلورة شكل مقبول للدولة الفلسطينية، يمنع استخدام الفلسطينيين كورقة في لعبة الأطماع الإقليمية.
تداعيات الحرب على غزة تنذر بتطورات خطيرة، وغير مسبوقة في مفاهيم السياسة العربية وطبيعتها، وربما تفضي الى أحداث، وتوترات وحروب صغيرة تتطلبها السياسة. وهي ستسمح للتجاذب الإقليمي بالكشف عن وجه مختلف، وستحل المواجهة بديلاً من محاولات التقارب، والسكوت على مضض. فالحرب على غزة أكدت ان فصل العلاقة بين دمشق وطهران كذبة أطلقها الأميركيون في الثمانينات وصدقها العرب. وهي كشفت ان ثمة جيلين ومزاجين في السياسة العربية، ولا مجال للجمع بينهما. حان وقت الحسم. هل ثمة مجال للحديث عن تأثير التوتر بين إيران والولايات المتحدة على حال الفرز العربي؟ الأرجح ان الحرب على غزة قلّلت من رهان بعض العرب على انتظار ما سينتج عن هذا التوتر، وربما يصبح الانقسام العربي وسيلة للتأثير على مجريات هذا التوتر وليس العكس، فالأحداث المقبلة في المنطقة لم تعد تسمح للعرب بانتظار نتائج صراعات الآخرين للتحرك.
الحياة