قضية فلسطين

حين تصمت المدافع، أو: كي تصمت

نهلة الشهال
بعد «حسبي الله ونعم الوكيل»، شرح أمير دولة قطر أنه ما أن يكتمل نصاب الدول العربية الموافقة على انعقاد القمة حتى يتناقص. واستعرض أسباب رفضه اعتبار الاجتماع «التشاوري» على «هامش» قمة الكويت الاقتصادية كافياً أو بديلاً للقمة إياها. وجدد الدعوة لقمة تنعقد فوراً. وهكذا، انتظمت معركة أخرى وخرجت إلى العلن الرسمي، معركة يريد أحد طرفيها تلافي تلك اللحظة الحرجة، حيث لا بد من كلام سياسي واضح وملزم، يتجاوز تصريحات وزير الخارجية المصري الطليق اللسان، والديبلوماسية التوسطية النشطة للرئيس مبارك.
ليس الأمر يتعلق بتنافس على «الزعامة العربية» كما قد يحلو للبعض القول. فلو كان هذا هو الموضوع، لما جادل أحد في مكانة مصر. المعضلة هي في الكلام السياسي الذي لا بد لأي قمة أن تدلي به، بعد انقضاء ثلاثة أسابيع من العدوان، وهو مستمر!… المعضلة هي في استمرار العدوان بعد كل هذا الوقت، أي في عجزه عن تحقيق أهدافه، ووضع الجميع أمام مشهد حاسم، قابل للقطاف.
وهي الحالة نفسها التي تتسبب بالخلاف الآخر داخل القيادة الإسرائيلية الذي بدأ يظهر إلى العلن، بين دعاة الاكتفاء بهذا القدر من المحرقة وترك الديبلوماسية تفعل فعلها بعد ذلك، وبين من يدعون لاقتناص الفرصة التاريخية والذهاب حتى «النهاية»، واستعجال ذلك قبل وصول السيد باراك أوباما إلى البيت الأبيض، بحيث يتم تلافي إخضاع الملف لرعايته، التي ستختلف، مهما يكن، عن رعاية بوش له. ولكن ما هي النهاية؟
أول من اختبر أن لا «حلول نهائية» هم اليهود أنفسهم، وقد كان ذلك التعبير هو عنوان برنامج نازي متكامل. ولكن، وبالعودة إلى اللحظة الراهنة، والى النتيجة الفورية – وهما المستهدفان، وهما باتا اليوم وبشكل عام، السمات الأساسية للايديولوجيا السائدة -، يبدو افيغدور ليبرمان، الداعي في تصريحه منذ أيام إلى محاكاة الفعل الأميركي في اليابان، أي إلى استخدام السلاح النووي ضد غزة، متصالحا تماماً مع نفسه، لأن «سقوط» غزة العسكري ليس نهاية شيء: فغزة ساقطة أصلاً عسكرياً، وهي أصغر من لبنان (الصغير) بثلاث وثلاثين مرة! فكأن الجحيم الملقى عليها يطال مساحة مدينة متوسطة الحجم في أي مكان من العالم العربي، ودون ذكر أسماء! وهي على ذلك محكمة الحصار الى حد الانقطاع التام عن العالم. ثم، وفي المقام الثاني، فإن ما يمكن أن يعقب احتلال غزة عسكرياً – على فرض تحققه – من مقاومة مباشرة اليوم وغداً، هو هاجس القيادة الإسرائيلية، وذلك رغم طغيان مفهوم «الفورية»، ذاك الذي يقطع أوصال الوقت ويعزل المراحل واحدة عن الأخرى. وأخيرا، فإن القضية الفلسطينية لن تحل بانتهاء فصل غزة الفظيع ذاك، وقد تجدد الوعي بخصوصها بل تجذر بسبب المذبحة المرتكبة. ويكفي أن يكون المرء على اتصال بأوساط الشباب في العالم العربي وخارجه، كي يلاحظ ذلك. ويحدث التجذر في كافة الاتجاهات، يسارية وإسلامية وحقوق إنسانية (أي ديموقراطية)… وعلاماته كثيرة، ولا تسير فحسب في اتجاه تجديد فكرة الحاجة إلى الكفاح المسلح، أو طرح إحداث تغيير في السلطات القائمة في العالم العربي بوصفها مهمة ملحة، أو الانتقال من التظاهر إلى العصيان المدني، بل تطال فئات وبيئات لم تكن لتصرح بالتزامها بالقضية الفلسطينية كقضية عالمية (بوجود «فزاعة» حماس أو بغيابها)، كما يحدث مثلاً مع مثقفين أوروبيين من «النجوم»، يستعدون للوصول إلى غزة تضامناً معها، وكالتغيير البالغ الأهمية في مواقف قوى كانت حتى الأمس «صديقة» لإسرائيل، كحالة «رابطة حقوق الإنسان» الفرنسية التي أصدرت نداء هاماً عنونته إلى «الضمير»، وكمنظمة «هيومن رايتس ووتش» الأميركية التي تتهم إسرائيل بنية إخفاء جرائم حرب، كتفسير لعدم السماح لمراقبيها وللصحافيين بدخول القطاع، وكالسيدة سيغولين رويال، وهي منافسة ساركوزي على الرئاسة الفرنسية، وأحد أبرز زعماء الحزب الاشتراكي الفرنسي – حيث للحركة الصهيونية نفوذ هائل – وكالحزب الاشتراكي الاسباني الحاكم، بل كالفاتيكان الذي مارس دوماً التحفظ خشية نبش ملفات تساهله مع إبادة اليهود خلال الحرب الثانية…
لا نهاية إذاً، وإنما إدارة للحظة، عسى تنقلب الدنيا غداً، حيث لكل يوم همومه!
وفي هذا السياق، تصبح الدعوة لقمة عربية بمن حضر شأنا خطيرا. ليس لأنها، كما يقول معارضوها، «تكرس» انقسام الصف الرسمي العربي (وهو حاصل ولا يشكل تكريسه إضافة)، بل لأنها تطل على ما بعد محرقة غزة، وهو «ما بعد» كثيف، ويحمل العديد من الإرهاصات، مما لا يمكن حسابه وتوقعه تماماً، كما لا يمكن استباقه من جهة أخرى. وعلى أية حال، فالخلاف على القمة العربية اليوم، ثم انعقادها على تلك الشاكلة، يعيد رسم خريطة النظام العربي بوصفه نظاماً متعدد الأقطاب. وهذا فارق مهم عن مجرد ملاحظة الانقسام. وهو فارق مرتبط بالمستقبل، ولكنه أيضاً يمتلك تأثيره المباشر على سياق الخطة الإسرائيلية الجارية، لأنه يعطل أحد أبعادها المتمثل بدور الصمت العربي الرسمي فيها، بل بضبابية مدلولاته وما يثيره من اضطراب يتيح للآخرين، وعلى رأسهم الاتحاد الأوروبي، الاحتماء خلفه، وهو توظيف لا يمكن إنكار فعله على الساحة الديبلوماسية الدولية.
وفي الأثناء، يستمر إحراق سكان غزة بالفوسفور الأبيض، وتمزيق أجسادهم بـ»الدايم»… فيما إسرائيل، التي تخشى الملاحقة القضائية الدولية لمسؤوليها وجنرالاتها، توثق بالصورة «البراهين» على براءتها وبياض صفحتها!
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى