صفحات ثقافية

حيرة العائد من الشعر إلى الشعر

null


عبدالله أمين الحلاق

يكمل محمود درويش في إصداراته الجديدة دوماً سيرة الشعر والشاعر والتجربة المتفردة في الشعر والنثر الذي يمسي شعراً عندما يكتبه درويش. تقرأ فيه قصة الحداثة والتجديد والانسجام مع الأفكار التي يكتسبها الشاعر او الكاتب من ديناميكية الواقع المتغير، والمتغيرة معه الاقتناعات والآراء في الضرورة، مع الحفاظ على الجوهر العام للفكرة القائمة دوماً على أساس لا يتبدل هو الحرية، وإن اختلف أسلوب التعبير عنها من شاعر او كاتب إلى آخر.

الجوهر واحد والبنية الإبداعية والشعرية هي نفسها منذ بواكير القصائد الأولى في أوائل الستينات حتى “اثر الفراشة”، عمله الأخير، مع تميز صار ملازماً هذه القامة الشعرية. عنينا التحديث في المفردات والأسلوب والانتقال بالنصوص والأفكار من سجن الفكرة السياسية الضيقة والمؤدلجة كما كانت سابقاً إلى فضاء الشعر الرحب الذي لا حدود له.

فمحمود درويش مخزون وإرث عميق في الثقافة الفلسطينية والعربية، وذاكرة تاريخية وراهنة للمستقبل. الشاعر الأميز في مشروع تجديدي انتقل بالشعر إلى خارج الحدود التي وقف وتشبث بها الكثيرون من أبناء جيله. القصيدة الدرويشية هي القصيدة التي غرّدت خارج سرب الإيديولوجيا ونبذت قوقعة الجمود على مستوى النص وبنائه وفكرته، وبناءً على ذلك وصف محمود درويش الشعر وعرّفه قائلاً: “… الشعر دفاع عن الحياة وبأن نحياها كما نريدها ببداهة وسلام، دفاع عن الحب والجمال وعمّا في أعماقنا من موسيقى خفية وفرح، الشعر مقاومة لكل ما يعوق حرية الإنسان وتطبيع علاقته مع ذاته، إنه البحث عن الأمل، بل إنه اختراع الأمل“.

الشعر حياة وأمل وحب وفرح وموسيقى ومقاومة لكل ما يعوق الحرية، وعلى ذلك تميز الشعراء الذين كتبوا الشعر خارج الحدود والتقليد والروتين المألوف للشعر العربي قديمه وحديثه، فعلام تكون الحدود والتقليد بديهيات في ثقاقتنا العربية من أدبها إلى فنها إلى عالم السياسة الموغل في المقدسات والقيود والخطوط الحمراء؟

لازم الجمود والركود ثقافتنا العربية قديمها وحديثها وبكل مستوياتها ومجالاتها، وحتى الأدباء والكتاب الذين شكلوا نقلات نوعية وأقلاماً متقدمة، وأفكاراً كسرت السائد والمألوف في حياتنا العربية ووصفوا حقوق الإنسان (من حق الطفل في مساءلة أبيه الى حق المرأة في خلع الرجل، الى حق المواطن في تغيير الحاكم، إلى حق الفرد والمجتمع في مقاومة الاستبداد والاحتلال معاً، إلى حق الشاعر في التخلص من الانضباط للقافية، إلى حق الحالمين بأن يحلموا بأنهم أحرار، إلى حق الكاتب في التمييز بين معنى الموت ومعنى القتل)، حتى هؤلاء لم يشكلوا إلا اغتراباً عن واقعهم المتردي الذي صار الانحطاط فيه قاعدة والإبداع استثناءً يستوجب التخوين والتكفير والتصفية الفكرية والسياسية وحتى الجسدية في كثير من الأحيان.

فماذا يعني ان يكون المثقف طليعياً ومتقدماً على كل السائد والمألوف والوعي الموروث منذ القرن الخامس الهجري الذي لم تتجاوز بلاد شرق المتوسط وجنوبه حدوده ونمط حياته بعد؟

يعني ان يعيش حالة اغتراب عن الواقع ومفاهيمه، ويتعرض لشتى صنوف الاتهام والتكفير والتخوين، فالحملة التي تعرض لها محمود درويش على يد “حمَلة راية الوطنية والمقاومة من الإسلامويين والقوميين” عندما أقام أمسيته الأخيرة في حيفا، تلتقي موضوعياً مع ما تعرض له احمد بن شمشي في المغرب ونصر حامد أبو زيد وسيد محمود القمني في مصر ومارسيل خليفة في لبنان إلى معتقلي الرأي والضمير العربي والمثقفين القابعين في سجون الطاغية، وكل من دفع ثمناً وضريبة جراء رأيه الحر في هذا العالم العربي – السجن، والأمثلة لا تنتهي.

وعلى هذا، يمكن اعتبار الحداثة في مستوياتها كافة، واعتبار المعبرين عنها في مجالاتهم الإبداعية نموذجاً للدفاع عن فكرة تقول إن التجديد والانطلاق في مشروع ثقافي وسياسي جديد ضرورة وواجب على كل من تهمّه نهضة هذه البلاد وخروجها من نفق الانحطاط، انحطاط اللغة وكل أساليب التعبير، انحطاط المفاهيم والأفكار، انحطاط إنساني وأخلاقي يؤلّه الجلاد ويدين الضحية، ناهيك بتشويه الحياة وتبخيسها امام الموت كهدف وغاية مشتهاة.

لا ندّعي ان المجددين قادرون على تغيير الواقع والموروث منذ قرون، فحياتنا العربية في حاجة إلى هزّات عميقة للانطلاق خارج هذا الركود، ولكن أي فعل إبداعي حداثي على المستوى السياسي أو الثقافي لا بد ان يكون تأسيساً ولو بطيئاً لمرحلة جديدة من تاريخ هذه المنطقة، لبلاد حرة، وحياة حرة، وثقافة متحررة من أسر الضوابط الوهمية، ولمجتمعات تعيد الاعتبار الى العقل بدلاً من الجنون الذي يهلل له الكثيرون ويرونه نمطاً طبيعياً للحياة .

ذهب هذا المقال بعيداً عن الأسلوب الفني لمحمود درويش وكلماته وقصائده التي تشعل العواطف وتحرض الأفكار والأقلام على الكتابة، ربما لأن كتابه الجديد والماقبل الأخير الصادر عن “دار رياض الريس” والمتضمن مقالات مختارة له والمعنون باسم “حيرة العائد” قد أشعل فيَّ كل هذه الأفكار وهو يتحدث عن شخصيات تركت فيه أثراً كبيراً، وخصوصاً مقاله المكتوب في أربعين الحبيب سمير قصير الذي وصفه شاعرنا بأنه “الراقص الرشيق في حقول الألغام، والساخر من كل انسجام مع عبودية مفروضة أو مختارة” ¶

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى