كتّاب الأسماء الـحقـيقـية لـماذا يـستعيرون أسماء أخرى؟
رلى راشد
نعم هذا أنا يصرخ الشاعر: كلّ ما كنته كلّ ما لـم أكنـه
ليس الكتّاب بالغباء الذي يظنه البعض. يدركون ان المحظوظين ليسوا اولئك الذين يبتكرون الحكاية بل الذين يعيشون في ثناياها. يحسدون شخصياتهم على ترف السعادة والحزن الراقي وعلى إعجاز انبعاثهم من الموت الى الحياة. تتأكلهم الضغينة الى ان يصمموا في توقيت،
مبكر او متأخر من حياتهم الأدبية، على العبور الى ضفة اخرى، واتخاذ إسم مستعار، فيسمّون بدورهم شخصيات متخيلة. الخطوة متجذرة في التقليد الأدبي وعابرة للعصور والتيارات والحقبات. ثمة من يتجاسر عليها في بداياته، خشية الوقوع في شرك التبجح الإبداعي. وثمة أقلام أخرى مكرسة تختار إسما مستعارا طمعا بتجريب تنويعات سردية، تصنّفها القواميس الأدبية الاصطلاحية دونية، ناهيك بأن ثمة من يستهلك أيامه الكتابية غير مقتنع بأن الوقت قد حان، وبأنه بات أخيرا أهلا للخروج الى العلن. كتّاب الأسماء الحقيقية، لماذا يستعيرون أسماء أخرى؟ هنا سفر في الأسماء، الحقيقي منها والمستعار.
التعداد تمرين مرهق. اكتفت الشاعرة التشيليانية غبرييلا ميسترال الحائزة نوبل الآداب بواحد، في حين تصرف الكاتب الاميركي ثيودور غيسيل بثلاثة واحتار جورج سيمونون بين ثلة بلغت سبعة عشر، في وقت “نزح” البرتغالي فرناندو بيسوا الى مد وجزر ما يتخطى السبعين منها. لسنا في صدد إحصاء زوجات الكتّاب أو ممتلكاتهم أو جوائزهم وإنما هوياتهم الأخرى التي ركنوا إليها. لا فرق إن كانت أسماء القلم، في حال استخدمنا التعبير الإنكليزي، مستعارة أو عضوية، لأنها تستحيل خيمياء غامضة، معادلة سحرية الأبجدية تبعثر الكاتب وتشظيه. يتلبس الإسم المستعار طيف الكاتب وخصمه وشريكه وينجز ما لا تستطيعه الجينات، إذ يبتّ قطيعة، لا رجوع عنها، مع نسبه البيولوجي ليمدّه بنسب آخر، أدبي، يصالحه مع فرادته.
لم يبخل خورخي لويس بورخيس بهنيهة واحدة يبرهن خلالها على ذائقته الفكاهية الموشّاة بالتهكم. كتب في “سيرة ذاتية”: “في كل مرة قرأت نصا موجها ضدي، شاركت صاحبه الرأي بل أكثر، ساورتني فكرة اني كنت لأنجزه على نحو أفضل مما فعل هو. ربما ينبغي لي ان أنصح المرشحين المستقبليين لعمل كهذا، كما أعدائي، ان يبعثوا إليَّ بنصوصهم النقدية مسبقا وهم قريرو العيون، لأنهم سينالون دعمي اللامشروط ومساعدتي. ويذهب بي التصميم أيضا حد الرغبة في كتابة نص لاذع أتحامل فيه على نفسي متلطيا خلف اسم مستعار!”. سيصل صدى هذيان بورخيس الأدبي، أو توهيماته، الى الايرلندي جون بانفيل، أكثر “مؤسلبي الأدب الانكليزي أناقة”، بحسب الأوساط النقدية الانغلوسكسونية الراهنة، بعدما ظفر بجائزة بوكر 2005 عن روايته “البحر”. سيفعل تماما ما تمنّاه بورخيس، ويندسّ من تحت مسام بنجامين بلاك، صنوه الشاب الذي يبلغ الثالثة والعشرين والذي وطئ للتو عتبة الرواية السوداء مع “كريستين تسقط”، الصادرة حديثا. استل من خياله، شذرة شذرة، قسمات بنجامين بلاك ونفخ فيه حياة، واستسلم بعدذاك لفتنة نشر حوار كتبه بنفسه، متواريا خلف هوية بلاك، يتهجم فيه على بانفيل “الكاتب المفرط في اهتمامه بالشكل”. تصارع بانفيل مع أناه الثانية، وفصل نفسه عنها وتأمل فيها من خلف زجاج عازل. بلاك “التر ايغو” بانفيل، راوٍ لا يهاب القص الجسور والمتهكم والممسرح، وتحرّكه الحماسة المتقدة. أمسك بيد بلاك، كأنه أحد “آلهة الكتابة” التي تؤرق الروائي نورمان مايلر، وحرّره من خشية الاستسلام الكلي للسرد. بل فعل أكثر: خرج من عباءة مبتكره وأقضّ مضجعه وأقحمه في هاجس النضب الكتابي بعدما تسلل الى أعماقه وجعله يذوق تجربة التعود على استيطان مدار التبسيط. من العبثي القول ان جون بانفيل (ويكسفورد، 1945) وهو يكتب بصفته بلاك، أفضل من بانفيل وهو يكتب بصفته بانفيل، ذلك ان فسحات التشكيك في انتماء كل منهما، وملحقاته، أمست شفافة تماما. تلاشت الفواصل لتمسي مثل الأوعية المتصلة، يرفد الواحد الآخر بمكنوناته. أما الأكيد فإنهما روحان او ربما قلمان متباينان. استعانت أعمال بانفيل الى الآن بضمير المتكلم، الضمير الأخير كما سمّاه بيكيت، أما بنجامين بلاك فاستلهم ضمير الغائب، وهذا تبدّل محوري. يؤكد بانفيل في لقاءات صحافية، العبء الذي ينوء تحته عندما يكتب بالإسم الذي حمله طفلا، إذ يمنحه مادية “كتلة حجرية” يتفتت ثقلها وتفسح مجالا لـ”خفة وجود”، لحظة يبدّل بانفيل جلده ليصبح بلاك. كأن سيزيف المتربص في ذهنه قد رمى صخرة عقابه المتدحرجة عليه أبداً. انتظر حلما هاذيا اسمه بنجامين بلاك لتخترق حياته حيوات أخرى، كما لو أن مستر هايد يحل مكان دكتور جيكيل. استدان من بلاك شبابه وحماسته واقتحم دواخله مفرغا حكاياته. على “مرور الروايات”، لازم قراء بانفيل نماذج تنهكها عقد الذنب، تجيء وتؤوب، تفتح جروح الماضي ثم تختمها بالشمع الأحمر وتستظل حبكات متراصة ومزدحمة وغنائية لافتة واستعارات تامة تؤثر أو تبلبل. في رفقة بنجامين بلاك، يعود بانفيل أدراجه الى نفسه، يخاطبها بضمير الغائب كأنه يقف أمام كاتبين لا يعرفهما، فارضاً عليهما معايير التقويم. أيسلم بانفيل بإدعائه انه بنجامين بلاك؟ ليست المسائل جلية تماما لأنه في “كريستين تسقط” يسائل الاثنين. أحيانا يبدو بانفيل الذي صار بلاك، مقحماً في كوميديا هذيانية، فيتشوش ذهنه ويرتبك، ولا يدرك تماما إن كان يحاور الأول أو الثاني. يسري هذا الواقع أيضا على كيرك، الشخصية الرئيسية القلقة في “كريستين تسقط”، المكتوبة بمنحى roman dur التي ارتبطت بسيمونون، حيث الانسان موزع في دوامة من الصراع المضطرم. في دبلن الرمادية، في الخمسينات من القرن الماضي، ثمة حسناء تموت في غمامة ظروف غامضة، وثمة توترات عائلية مرتبطة بالنفوذ، وشبكات من الاتجار بالاطفال وتهديدات يكملها كيرك. بطل مضاد، طبيب خبير يتحمل تحدي اكتشاف الحقيقة رغم أنف عدم كفايته وضعفه أمام الكحول. أعادت “كريستين تسقط”، التي ستلد كتبا أخرى، على ما يتردد، الجذوة الى فكرة تلطي كاتب خلف قناع الاسم المستعار. يمنح بانفيل النور لفصيلة من الكتّاب المزدوجين، المكتظين في تكاثرهم. اللافت، خيار بانفيل استيطان مساحات الظل عند نقطة التقاطع بين الرواية البوليسية والتخييل النموذجي. يبدو ذلك منطقيا في إطار شكوى مؤلّفي أدب الجريمة من إغفال الجوائز الأدبية المهيبة لهم. وفي حين يوغل كتّاب في دهاليز الغموض تلبيةً لرغبات بدائية فطرية، يرتبط آخرون بالرواية البوليسية السوداء لأسباب مادية بحتة، من خلف غشاء الإسم المستعار. ممارسة يلجأون اليها في الخفاء، فكأن متعددي الأنواع الكتابية متعددو الزوجات، يخون كل واحد منهم الزوجة الأولى برفقة أخرى. بهذا المنحى طرق الروائي الانكليزي جوليان بارنز باب الرواية التشويقية مستعيناً بدان كافانا، في حين أصدر مواطنه تيم باركس ثريلر، بإسم جون ماك داويل، أعمالاً اضاءت على جنوح قاما بلجمه في رواياتهما الاصطلاحية. يستعيد باركس ظروف كتابته Cara Massimina، متذكرا حنقه ويومياته المضجرة إبان امتهانه تدريس الانكليزية في فيرونا، لتلامذة ميسورين. آنذاك انجرّ الى “تحقيق طموح أدنى من طموحه وتقاضي أجر أدنى من أجره”، فهجس بفكرة كتابة ثريلر كوميدي عله يحظى بالتفاتة من الناشرين اللندنيين الذين تمرّن، عبثا، على إمطارهم، بأعمال “أكثر جدية“.
محروم من إسم حقيقي
إذا كان جوليان غراك، واسمه الحقيقي لوي بوارييه، سيبقى في الموسوعات الكاتب الذي رفض جائزة غونكور، فإن رومان غاري هو ذاك الذي تحفظ له ذاكرتنا الادبية خانة منفردة، بعدما نال هذه الجائزة الأدبية مرتين، وهي سابقة، بإسمين مختلفين، ناجحاً في خداع لجنة تحكيم مهيبة. منتصف السبعينات من القرن المنصرم، وبعد وقت وجيز على نيله جائزة غونكور الثانية لروايته “الحياة أمام المرء”، التي حملت إسم اميل أجار، حامت تساؤلات في الأوساط الأدبية الباريسية عن هوية صاحب الموهبة الغامضة. استل رومان غاري في محترف جنيف قلم اميل أجار ليكتب في زوبعة الحمّى التي تتأكله والرغبة الدفينة في وضع حد للشائعات، نصاً يستشيظ غيظا وتسرعا وعنفا يجزم فيه ان غاري هو “ابن أخيه بول بافلوفيتش”. سيشكل هذا النص كتابه الثالث عشر الحامل عنوانا شديد الدلالة، “إسم مستعار”، يحارب فيه طواحين أطيافه ويطيل أمد حيلة رومان غاري حتى الرمق الأخير. ورد في نثار اعترافاته: “راودتني نوبات الهذيان أول مرة في السادسة عشرة. وجدت نفسي وقد حاصرني صخب أمواج الواقع. كنت فتيا جاهلا ماهية العلم النفساني، وعندما كنت أقع عبر شاشة التلفزيون على صور فيتنام (…) كان يترسخ اقتناعي بخبلي وهلوستي. على هذا النحو، طورت رويدا رويدا، ومن دون إدراك مني، نظاما دفاعيا. لم يتبلور ذلك دفعة واحدة بل كان محصلة عمل دؤوب. لم أكوّن نفسي بنفسي، فهناك الوراثة من جهة والديّ وهناك إدمان الكحول والسل وداء السكري. يجب العودة بعيدا الى المنبع الأصلي لكي نعثر على ذاك المحروم من إسم حقيقي”. يعمق نص “إسم مستعار”، المتنازَع بين الرواية والخيال الذاتي والحكاية الشخصية، فهمنا لإنتفاضة غاري (توارى أيضا خلف هوية فوسكو سينيبالدي وشاتان بوغات)، واستحالة ان يكون المرء نفسه، الى درجة الموت انتحارا بعد سنوات. يتحكم غاري بخيوط دمية متحركة هي اميل أجار، ويستعير نبرة سيلين، ليصف تأويلاته النفسية: حسود، جشع الانتشار، ومهرّج فرنسا الحرة، ويجعل من “إسم مستعار” محجة مخاوفه وقلقه وهذيانه وعوراته النفسانية.
كل ما كنته، كل ما لم أكنه
الأسماء المستعارة أشبه بوحوش كاسرة، مغتبطة حينا وموجعة أحيانا في حال رومان غاري، لكنها ذوات الذات وبدلاء النفس، في فلك فرناندو بيسوا. اختزل بيسوا الحداثة الشعرية في البرتغال وأوغل في الفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ والنقد والقصة القصيرة والمسرح، لكن تفصيلا واحدا يختصره. يكفي أن نقول انه كاتب كتب آخرين. تكاثر بيسوا شاعرا واستقل عن نفسه وكاد يستقيل منها ليفسح الدرب أمام تجسد أفكاره وخواطره ومقارباته للحياة وتركيبها. لم يكتب الشعر والنثر نازعا قناعا ومتبنيا آخر، بل أرسى مفهوم heterَnimo مطلقاً تأويلاً غير مسبوق للإسم المستعار. أوجد أقنعة، “إخوته الصغار”، كما عرّفها صديقه الشاعر والروائي ماريو دي ساكارنيرو، ومنحها “حكما ذاتيا”، وائتمن كلاً منها على تاريخه وسيرته وملامحه وأسلوبه الأدبي. مارس بيسوا إمحاء الذات ليمنح الحياة لأصوات متعددة اكتنفتها ذاته، وبعدما ازدرته طويلا أوروبا وفرنسا، سيمسي لغزا يداعب فراديس ريلكه وفاليري ولوركا وماياكوفسكي. ومن حقيبة، هي سليلة شتى الحقائب (كتلك المتخمة أسرارا التي ورثها أورهان باموق عن والده واستعادها في خطاب نيله نوبل للآداب)، ستخرج بعد رحيل بيسوا مخطوطات ترويه كاملا: أكثر من اثنين وسبعين صنوا كتابيا هم سطح الجبل الجليدي في متاهة شغب بيسوا.
بعثر بيسوا حساسيته، نماذج راسخة وأخرى قصيرة الأمد، مثل كويلو باتشيكو التائه في دهاليز ازدواجيته. لكنه تسامر مع أربعة وجوه أساسية، متناقضة أحيانا، حدّ ادعاء انه أربع هويات، ولم تتقاطع ولو للحظة سيرة الأنا الأولى مع السير الثلاث الباقية، بل ارتفع السور بينها شاهقا. بيسر مفقد للاتزان، كان يسعه ان يحدّث الأنا الاولى عن الأنا الثانية او الثالثة او الرابعة: نكرة تحاور نكرة، تاريخ كل منها حفرة سوداء بالنسبة الى الاخرى. في ترويض يومي مرهق لا بل يستنفد القوة الذهنية وحتى الجسدية، صمّم أن يذخر كل بديل وأن يتمسك بالاختلاف الملحّ بينهم. ومن بين الشعراء الأربعة الاساسيين الذين صارهم هذا الـ بيسوا، كان الفارو دي كامبوس الوحيد الملائم للتيارات الأساسية في زمنه. شاعر لا يتردد في وجه الجداريات السخية، فيزاوج كيبلينغ ويعرّج على تشيسترتون في فصاحة وواقعية معاصرة، ولا يغفل لعبة تواتر الوجوه. يصرخ الفارو دي كامبوس في “وجوه من أقنعة”: “نعم، هذا أنا، انا ذاتي، محصلة الكوني / ضرب من الإضافات أو من الفائض الشخصي/ تخوم لامتساوية من انفعالي الصادق/ أنا ذاتي هنا في ذاتي، أنا ذاتي/ كل ما كنته، كل ما لم أكنه، هذا كله ما أنا عليه”. في حين ان ما هو عليه ريكاردو رايس، يعرف عنه ترف التكلف والكلاسيكية. جاء رايس بتنويع على الانحلال والتلذذ بالقصيدة. شغف بالشكل وحدّق صاقلا الكلمات، وهي هنيهات اغتباط الأوقات والأزمنة. أما وارث بيسوا الأحق، البرتو كايرو، فكان أميناً على النبرة المزعزعة والعميقة، نبرة النبي المشكك حتى في أحقية بيسوا الشعرية وقابليته للعيش، ولم يتردد في التسلح بجسارته ليجهز على حفنة من قصائد بيسوا ونصوصه. اتهمه بالوجود. أراده، كما يعنيه أسمه بالبرتغالية، لا أحد، ان يتناسى ماديته، وأن يواري أوراقه الثبوتية في مهب النسيان ليكتفي بمنّة بدلاء حمّلهم رمزية فيض تخييله الوهمي.
مؤامرة أدبية
في رأي أناتول فرانس أن المصادفة هي الاسم المستعار الذي يستتر خلفه الله عندما لا يرغب في التوقيع، وأن الإسم المستعار هو مطية الأدباء المكرسين عندما يتفادون، في دورهم، التوقيع. إنه المظلة التي ترعى إقدام قامة أدبية على أن تعود الى صفوف المتلقّين، وأن تستسلم، على حين غرة، لإغراء أخذ مسافة من المكانة التي وصلتها. هذا ما خامر الروائي المكسيكي كارلوس فوينتيس. قبل أشهر، صدرت عن دار “بلاثا إي خانيس” رواية “أسرار الأوبرا”. بحسب ما أعلن قبل صدورها، فإن إيمانويل ماتا، ابن ميتشواكان المكسيكية هو صاحب العمل: كاتب حديث البزوع، تجاسر على إصدار باكورة تمارينه الكتابية، في الثانية بعد المئة. هذه السيرة المفخخة بالشكوك، أيقظت التباساً عززه التوضيح الذي ذيّل غلاف الرواية البوليسية الخلفي والمغالي في وضوحه. أشارت تلك الجملة اليتيمة الى أن صاحب الرواية الفعلي “كاتب مكرّس استفاق يوما طيّب المزاج فقرّر الترفيه عن نفسه”. في أيام، صار ماتا في واجهة النقاشات الأدبية. تردد ان الكاتب الغامض الذي وصف بأنه دجاي تي ليروي اللاتيني (في إشارة الى الكاتب الاميركي الخفي الذي شغل الاوساط الاميركية، قبل ان يتبيّن انه لورا البرت)، قد يكون خورخي فولبي أو كارلوس فوينتيس، الصوت الذي ساهم في تحديد وجهة الرواية اللاتينية، وأغرق أدبه في النقاش الثقافي حول “الماهية المكسيكية”. لاذ كارلوس فوينتيس بالصمت، ولم يحمله تواتر الحوادث الى حسم النقاش، حتى بعدما نشر أحد العاملين في دار “بلاثا إي خانيس” في مدوّنته، ومن دون استئذان، فصلين من الرواية متطفلاً على خط التكهّنات وجازماً أن “غابو” هو ضالة النقاد. وسط هذه الضوضاء، اختارت صحيفة “ميلينيو” المكسيكية اللجوء الى التمحص العلمي، فطلبت من خبراء ينتمون الى جامعة أوتونوما في المكسيك التنقيب في نسب كتاب باع ما يزيد على عشرة آلاف نسخة في ثلاثة أشهر. توقفوا عند تواتر المصطلحات والتفاصيل في الرواية وقارنوها بثلاثة أعمال لكارلوس فوينتيس هي “حسن الوعي” و”حدس اينيس” و”ملاحظا الرؤى”. تبين بنتيجة هذا التفحص، وبأرجحية تلامس المئة في المئة ان ماتا هو فوينتيس. تطوع أحد المسؤولين في دار النشر، بيدرو اويرتاس، ليكون طليعة المبادرين الى التعليق على نتائج الدراسة. لم ينف أو يؤكد، بل أعلن اعجابه بجدّية التقصّي، في ملاحظة لا تحتمل التأويل. وبحسب الرواية التي نسجها اويرتاس لمجلة “كامبيو” التي يديرها الروائي غبريال غارثيا ماركيز، حيكت “المؤامرة الأدبية” في عتمة حانة لندنية حيث التقى اويرتاس كاتبا مكسيكيا شهيرا، فتوافقا بعد احتسائهما الجعة على التعاون في نشر مجموعة بوليسية مستخدمين إسما مستعارا. لكن فوينتيس لم يرغب في وضع حجر عثرة أمام قرائه، فاستنبط وسائل بديلة للتواصل معهم وأقحم في قصص المجموعة خيوطا سردية، هي أشبه بقرائن تدلّ المتيقّظ منهم على هوية المؤلّف الحقيقية، رغبةً منه ربما في امتحان ولائهم.
حقيقة يتوارى خلفها غياب الحقيقة
في السجلات الرسمية، فإن بابلو نيرودا هو ريكاردو اليسير نيفالتي رييس باسوالتو، وجورج اورويل هو أريك آرثر بلير. وفي القرن التاسع عشر المستقر تحت أفياء بطريركية ذكورية تحرم المرأة رفاهية البوح، ظلّ كورير بيل لسنوات مبتدع رائعة “جاين آير” رغم أنف تحرّق الشقيقات برونتي لإجهار موهبتهن. أما في أمبراطورية الشمس المشرقة، فاستلهم الشعراء اليابانيون أقنعة مسرح “كابوكي” التقليدي، ليفرّوا الى سكون الاسم البديل، أو المعروف بـ”هايغا”. فاستخدم أشهر شعراء الهايكو ماتسوو مونيفوزا ما يزيد على خمسة عشر إسما مستعارا قبل أن يلتصق به لقب باشو، أي “نبتة الموز”. تيِّم ماتسوو مونيفوزا بحب الشجرة التي وهبه اياها أحد تلامذته وزرعها أمام كوخه حيث انسحب من صخب المدينة. تقرّب منها وتماهى بأوراقها الكبيرة والهشة في وجه هبوب ريح قاصفة من جهة البحر. في السبعينات من القرن المنصرم، داعبت غواية التنكر الروائي الأميركي بول اوستر الذي استتر في “لعبة ضاغطة” وراء اسمه الوسطي بول بنجامين. وحاول في “الغرفة المقفلة” من “ثلاثية نيويورك” اعطاء إجابة قاطعة عن الاستفهام حول السبب الكامن وراء تستر بعض الكتّاب خلف اسم مستعار. لكنه لم ير مفراً من الإجابة، من باب سؤال إضافي: هل يمتلك الكتاب في المحصلة وجودا فعليا؟ في هذا السياق، وإذا عدنا الى تعريف منجد le petit Robert لمصطلح الإسم المستعار، لوجدناه يحدّده بالآتي: “تسمية يختارها شخص ما بغية اخفاء هويته”، أو، في تعبير آخر، بغية طمس حقيقته. علماً ان الجذر اليوناني لـ pseudonym يضحي الأعمق بما أنه يقودنا الى مساحات الوهم والابهام. يتحدث الفيلسوف الفرنسي جان بودريار، “المثقف المنطلق” بمعايير بعضهم، و”حفار اليوتوبيات” بمعايير بعضهم الآخر، عن تلاشي الأصلي في مجتمعنا المعاصر، لمصلحة استبداله بالتوهيمي. “كتّاب الأسماء المستعارة” تالياً، هم التجلي اللماع لهذا التوهيم، لهذه الصورة الزائفة في تعابير بودريار التي تخفي حقيقة غياب الحقيقة.
لا ريب في ان إسم الانسان عنصر مكوّن للشخصية. بل أكثر: هو كسرة من روحه. لكن اختيار اسم مستعار لا يحمل بذور فصام الكاتب حكماً، إنما يكتنف فرارا ممتعا، وهجرا طوعيا من شرك العادية، عبر كوّة المخيلة. السعي الى ترويض لاوعي الكاتب وتحويله الى رهينة خانعة، محاولة خاسرة. لا ينمّ الاسم المستعار حكما عن حالة تململ مرضي يجتاح صاحبه. يرشدنا أبو الطب النفساني سيغموند فرويد الى منفذ لفهم هذا الخيار. تتأمل النظرية الفرويدية في التشكيك المستديم في النسب لجهة الأب، وتاليا في إسم العائلة. فكل منا يحلم، على ما يبدو، بالتفلت من واقعه، فيروقه التحايل على أهله، ويطلق العنان لمتعة لامتناهية في إعادة صوغ توهيمي لبنيتنا الأسرية. ميل يجد صداه في تشديد جول دو غونكور على انه ينبغي لكل أديب أن يتخذ اسماً مستعاراً بغية حرمان عائلته من التمتع بألق اسمه. في كل حال، عندما يكتب أحدهم، يتمادى في توقه ليصير آخر: شخصية معنوية تعلّق معطفها على مشجب صومعة الكتابة، وتلوّن جلدها بيسر الحرباء، ومكرها أحيانا.
“أنا هو آخر”، كرر رامبو في مراسلاته، وربما كانت تلك فحوى التجربة الكتابية التي وصل صداها الى معاصرينا *