في مرآة غزة
رزان زيتونة
أوقات مثل التي نعيشها حاليا، هي أوقات استثنائية نعيش فيها حالة من الغضب والرفض بالصوت العالي، على خلاف ما اعتدنا عليه في حياتنا اليومية. غالبا ما ارتبطت هذه الحالة بأحداث دموية محددة، فلسطين غالبا، والعراق في بعض الحالات. هي مقرونة دوما بآلة الحرب وسيلان الدماء وأعداد الشهداء.
في مثل هذه الأوقات فقط، تتنبه الشعوب العربية إلى واقعها، وتمارس حق التعبير عن آرائها، بالقول والكتابة والتظاهر، وتبدي الكثير من الرفض للواقع القائم، وأكثر منه إحساسا ثقيلا بعجز مستديم، والفضائيات العربية تتيح للأصوات الغاضبة قول ما لديها، والإنترنت يمنح الفرصة للكلام بلا توقف.
تيار جامح من القول والكتابة يمشي جنبا إلى جنب مع سيل الأخبار الآتية من أرض الحدث، عبر البرامج التي تتيح للمشاهدين المشاركة بآرائهم، نسمع رثاء للذات، غضبا متفجرا يصعب معرفة إلى من هو موجه تماما، فقد يشعر المستمع بالضيق الشديد والكلمات تنهمر بلا هوادة، وهو يستيقظ على «حقيقة» أنه محاط بالمتخاذلين والانهزاميين وذيول الإمبريالية والحكام العرب إياهم والشعوب النائمة إياها! وفقا للمفردات الأكثر استخداما من قبل المشاركين، فلغة التعبير بين إسلامي ويساري تتوحد إلى حد غريب، وتختلط الولاءات التي تظهر في غير أوقات الأزمات بشكلها السافر.
حتى لو لم يسع المرء إلى تلك الآراء، فهي سوف تسعى إليه، والبريد الإلكتروني متخم بالرسائل المتهافتة من كل حدب وصوب، صور مفجعة لجثث وأشلاء ودماء، عبارات كتبت بالخط العريض ولونت بالأحمر تتصدر تلك الرسائل، ألا تكفي تلك الصور؟ أأكثر من ذلك مهانة وإذلالا؟ ألا تستيقظون، ألا تشعرون؟ يتساءلون… لم تبق مفردة خذلان أو مهانة لم تلصق بالعربي في معرض ذلك التعبير عن الغضب.
واختلط على القارئ من قد يكون هذا العربي المدعو بشدة إلى الاستيقاظ واستشعار كرامته المهدورة، وإن كان المقصود الشارع العربي ومن ضمنه قارئ تلك الرسائل، فما المطلوب لاستعادة تلك الكرامة والقيامة من الموت؟ والغضب طبيعي، والألم مثله، لكن جَلْد الشارع العربي نفسه على هذا الشكل الذي ابتكرت له طقوس وعبارات وقصائد، وتكرار الحالة في كل أزمة مشابهة، يحتاج إلى قولة كفى، وإلى التساؤل حول مغزى تخزين غضب الأيام السابقة كله، ما ينتج عن أوضاع محلية وإقليمية على السواء، لتفجيره رثاء للذات في مثل هذه الأوقات. وكأن في مصائب الآخرين فرصة للتعبير عن العجز المزمن، وكأنها فرصة «آمنة» لإعلان الغضب، لا تستدعي بالنتيجة ثمنا أو عقابا كما يمكن أن يحدث في أوقات مغايرة، ولمناسبات مختلفة، وكأن أحدا ما لا يملك مرآة للتحديق في وجهه، فينتظر فرصة استخدام مرآة الآخرين بين حين وآخر.
أصوات الغضب الشعبية نفسها التي تعلن موت العرب وترثي حالهم، هي التي قبلت استقالتها الإجبارية من الحياة العامة في بلدانها، وارتضت أن تكون بلا صوت أو تأثير، وتعايشت مع أوضاع لا يقبل بها من يتحدث بإيمان عن الحياة الكريمة والعادلة، وهي أيضا التي ارتضت حكم من تسميهم بالخونة في ظروف المآسي البعيدة عنها، مثل العدوان على غزة واحتلال العراق، وكأنها ترغب بالتغيير بشدة، لكنها تحبذ أن يبدأ من هناك، وبكثير من الدماء والضحايا بحيث تشبع حاجتها للتماثل مع دور الضحية والبطل في الوقت نفسه، المعتدى عليه، لكنه المقاوم الشرس أيضا.
أما الحديث عن المقاومة السلمية وحقن الدماء، فيثير لديها ردة فعل أشبه بصعق الكهرباء، فهو حديث يمس الكبرياء والكرامة، ويترجم تخاذلا واستسلاما، حتى لتبدو محبة الشارع العربي لفلسطين وأهلها من النوع الذي تنطبق عليه مقولة «ومن الحب ما قتل»، فضلا عن شبه الإجماع الشعبي على أن كل من يمارس العمل السياسي بعيدا عن العنف لا قيمة له إن لم يصنف خائنا، فيما تصنف الجماعات والأحزاب التي تعتمد النضال العنفي في مصافي البطولة، أما داخليا، فلا تغدو خيارات متبقية، فالعنف خيار غير مقبول أو غير ممكن، والعرب لم يفيقوا من موتهم بعد! والواقع أن المقاومة السلمية لا يمكن أن تنتج عن مجرد قرار، بل هي تحتاج إلى عملية تدرب طويلة وأكثر صعوبة بما لا يقاس، من التدرب على استخدام المدفع أو البندقية، وقبل ذلك، هي تحتاج إلى التذكر بأننا غير راضين عن واقعنا ونفتقر للعدالة، ويؤلمنا عجزنا وعدم قدرتنا على أن نكون فاعلين في مجتمعاتنا، فضلا عن مساعدة من نؤمن أنهم أصحاب قضية عادلة… نحتاج إلى تذكر ذلك خارج أوقات الأزمة والعدوان والاجتياح، كي لا نضطر إلى استعادة طقوس الندب والرثاء للذات إلى ما لا نهاية.
* كاتبة سورية