كسر حالة اللابديل… فلسطينياً وعربياً
ياسين الحاج صالح
لا بديل عن «حماس» غير عباس، ولا بديل عن عباس غير «حماس». في المحصلة «لا بديل»، الشعار الذي كانت مارغريت تاتشر سوَّغت به سياساتها الاقتصادية والاجتماعية النيوليبرالية والمحافظة قبل نحو 30 عاما.
في موقعة غزة الجارية الآن، يتكشف، ربما أكثر مما في أي مناسبة دامية سابقة، الجوهر «الرجعي» لإسرائيل. الكلمة ليست مرضية تماما، لكن لا منافس لها في توحيد مدركات ثلاثة، يبدو لي أنها تطبع بعمق حرب إسرائيل الأخيرة.
1- غطرسة القوة وجنونها، ما يطلق عليه في الغرب اسما منافقا: اللاتناسب أو الاستخدام المفرط للقوة، وما يتأسس على حق للأقوى لا يمكن القبول به للضعيف.
2- ما ينبئ به ذلك من ترتيب للمجتمعين والإنسانين الإسرائيلي والفلسطيني في مرتبتين أو طبقتين، طبقة السادة الذين يحظون في آن بالقوة والحصانة والتفوق الأخلاقي، وطبقة التابعين المكشوفة والتي ينبغي أن تبقى في حالة انكشاف، بلا حماية ولا حصانة، ولا حتى جدارة بالتعاطف.
3- ما يتحصل من ذلك كله من فارق نوعي بين الإسرائيلي والفلسطيني، بين حياتيهما وقوتيهما والجدارة الإنسانية لكل منهما. العنصرية هي الكلمة المناسبة لوصف الإنكار الجوهري للمساواة بين الناس.
يمكن تأسيس مناهضة إسرائيل ومقاومتها بصورة كافية جدا على طابعها الرجعي واللاإنساني العميق، الذي لم تكن حرب غزة هذه غير مناسبة لانكشافه بصورة تتكثف فيها الفوارق الثقافية (عنصرية) والسياسية (استعمارية) والطبقية (أسياد مقابل أتباع). وبقدر ما يعمل العرب وينجحون في طرح صراعهم مع إسرائيل على هذه الأرضية، فإنهم يجعلون من قضيتهم قضية التقدم والإنسانية، القضية التي يخونها الغرب بطريقة تذكِّر بجرائم عصر الاستعمار. والطابع الديني للالتزام الغربي بإسرائيل (وهذه نقطة قلما نراها أو نتبين أهميتها) يرفع خيانته للعدالة والإنسانية إلى مرتبة مبدأ ثابت غير قابل للتصحيح. فإن لم تكن القيم هذه جاذبة لنا في ذاتها، فينبغي أن نحرص عليها من باب ملء الفراغ القيمي الذي يتركه الغرب. (يلزم فقط التوضيح أن الطابع الديني للعلاقة الغربية الإسرائيلية مرتبط بالهولوكوست، أي بجريمة كبرى ارتكبت بحق اليهود، لا بالديانة اليهودية).
غير أن الفلسطينيين والعرب قلما فكروا في ذلك أو اهتموا به. الواقع أن سياسات «حماس» ووجهة تفكيرها الدينية العامة تخصم من حساب القضية الفلسطينية ولا تضيف إليه. النموذج الحمساوي غير جاذب، كيلا نقول إنه منفر، فوق أنه أخرق سياسيا. لا ينبغي لأي شيء أن يحول دون قول ذلك. ولا حتى تعرض غزة لعدوان من قبل قوة متعجرفة وعنصرية ورجعية. إذ لا يبرهن كون المرء معتدى عليه إلا على كونه صاحب حق، دون أن يعني ذلك أنه على حق في كل ما يفعل. وهذا لا يمس بحال التضامن مع شعب غزة، ومع «حماس» نفسها، في معركة مواجهة العدوان. فالشيء الوحيد الصحيح حين تتعرض لعدوان هو أن تدافع عن نفسك وعن شعبك، دون قيد أو شرط.
لكن العدوان سينتهي عاجلا أو آجلا. فهل سنشهد أي نوع من كشف الحساب، تقدمه «حماس» الحاكمة في غزة لأهل القطاع وللشعب الفلسطيني، ولعموم المتضامنين مع غزة و«حماس»؟ أم أن «صوت المعركة» سيثابر على خنق أي أصوات نقدية قد تعلو هنا أو هناك؟
وليس في نقد نموذج «حماس» وسياساتها ما يشهد لنموذج «فتح». هذا نموذج منحل، يجمع بين فساد جامح وفقد الإرادة المستقلة، ولعله أيضا مخترق أميركيا، وربما إسرائيليا، على أعلى مستوى فيه.
يتوحد النموذجان في تبديد المضمون التقدمي والتحرري لقضية فلسطين، وتتوحد صيغ التفاعل العربي في إهدار المضمون التقدمي لمواجهة المشروع الإسرائيلي الرجعي، إن لم نقل في أنها تتوحد في طابعها الرجعي هي ذاتها. إذ لا يقترح معسكر الاعتدال من مخرج غير العودة إلى الأوضاع السابقة، ويبدو ميالا إلى تحميل «حماس» المسؤولية عن الوضع الراهن، كأن كل شيء بدأ بانتهاء الهدنة، أو بتفرد «حماس» في غزة قبل عام ونصف، أو حتى بفوز «حماس» في الانتخابات التشريعية الفلسطينية قبل 3 سنوات. ومن المفهوم وفق هذه الرؤية «المعتدلة» أن تكون «فتح» عباس هي الحل. بالمقابل، يبدو أن مواجهة مفتوحة ودائمة من قبل الشعب الفلسطيني كله للمحتلين هي الحل من وجهة نظر أهل الممانعة الذين يجودون على فلسطين وأهلها بدفق من العواطف الإعلامية، بينما يثابرون على الحجْر على مجتمعاتهم بكل الصور.
أوسع من ذلك، ومن وجهة نظر تاريخية، كان العالم العربي انزلق بعد حرب يونيو 1967 إلى مواقع محافظة ورجعية على الصعد المختلفة. إن الاستبداد والأصولية الدينية، وتبعية سياسية واسعة للقوى الغربية، وضرب من حداثية ثقافية غير نقدية حيال الغرب، تتقاسم صيغ تنظيمنا الذاتي وتفاعلنا مع العالم. والعالم العربي يسهم، منذ أربعين عاما، في تثقيل كفة كل ما هو محافظ ورجعي واستبدادي في العالم ككل، وضد العرب قبل غيرهم. ويجري تثبيت هذه الأوضاع وإضفاء طابع قدري عليها بنكران وجود أي بديل ممكن عن طرفي الاستقطاب القائم. بلى، ثمة بديل عن «الاعتدال» (والتعبير كاذب وأورويلي، ومضمونه الحقيقي التطرف في الخضوع للأميركيين)، لكن أهل الممانعة الذين يعلنون هذا البديل لا يحيلون إلا على أنفسهم تجسيدا له. وبلى، ثمة بديل أيضا عن الممانعة، (والتعبير كاذب وأورويلي بدوره، ومضمونه استخدام القضايا الوطنية لتثبيت سلطات استبدادية فاسدة)، لكن لا يحال إلا المعتدلون تمثيلا عليه. وبالطبع لا يرى أي من الطرفين بديلا عن نفسه، فهو الصح وهو الحل. وعلى هذا النحو تنغلق الدائرة، فلا بديل عن «حماس» غير عباس، ولا بديل عن عباس غير «حماس». في المحصلة «لا بديل»، الشعار الذي كانت مارغريت تاتشر سوَّغت به سياساتها الاقتصادية والاجتماعية النيوليبرالية والمحافظة قبل نحو 30 عاما.
وفي عالم اللابديل نعيش نحن منذ عقود. نتعفن ونختنق، ويحصل أن ننشر بعض تعفننا في أقطار العالم. وما غلبة إسرائيل المادية والمعنوية علينا إلا تحصيل حاصل لهذا الوضع التعيس.
فإن كان هذا صحيحا، فإن ما تقتضيه مواجهة ناجحة للمشروع الإسرائيلي الرجعي والعنصري، هو ذاته ما يوجب الانتفاض على مسار التعفن الذي طال قبوعنا فيه ساكنين.
والمسألة في أساسها ثقافية وروحية، التمرد القلبي والعقلي على أوضاعنا الراهنة والتفلت مما تفرضه من قيود على التفكير والتخيل والإرادة، تجعل منها أطرا ثابتة ونهائية لكل معرفة وعمل. من شأن خلق البدائل في أذهاننا أن يمهد لتخلقها في الواقع، فيكسر حالة اللابديل الخانقة اليوم.
* كاتب سوري
خاص – صفحات سورية –