… هي، في آخر المطاف، نهاية الردعية الإسرائيلية؟!
ياسين الحاج صالح
لم يفت أحدا من المعلقين السياسيين على العدوان الإسرائيلي على غزة ذكر الدوافع الانتخابية وراءه. فمن ينل أكثر من العدو الفلسطيني من بين السياسيين الإسرائيليين يفز بنسبة أكبر من أصوات الناخبين الإسرائيليين، إذا تساوت كل الأمور الأخرى. غير أن هناك دافعا مهماً وراء الحرص الإسرائيلي العنيد على ضرب غزة يتخطى حتى إرادة تحطيم حماس وحماية سكان جنوب إسرائيل: إنه ترميم الردعية الإسرائيلية التي كانت تضعضعت بصورة جدية في مواجهة حزب الله اللبناني في حرب تموز (يوليو) 2006. ويقتضي الترميم هذا إرهاب الفلسطينيين والعرب بالمعنى الحرفي للكلمة، أي ترويعهم وشل مبادرتهم وكسر عيونهم وإرادة المقاومة المحتملة في أوساطهم.
«اللاتناسب» الشهير، الذي بالكاد تذمرت منه المشاعر المرهفة للأوروبيين، له هذه الوظيفة الردعية بالذات. فإذا أخذناها بالاعتبار، أعني وجوب ردع أعداء إسرائيل وغرس شعور بالضآلة لديهم أمامها، عاد التناسب على أكمل وجه. أو هذا ما يؤمل من وجهة النظر الإسرائيلية. وبعبارة أخرى، ينبغي أن نرى المفعول الاستباقي المأمول من وجهة نظر إسرائيلية لـ»الاستخدام المفرط للقوة» في غزة، ولا نقف عند كونه «ردا» على «اعتداءات» حماس، على نحو ما تقرر الرواية الإسرائيلية القياسية والمقبولة على نطاق واسع في الغرب. والاستباق يتمثل بالطبع في إحباط الخطط العدوانية الفلسطينية في مهدها، بل منعها من البزوغ في الأذهان.
لكن يبدو أنه لن يكون للحلقة السابعة من حرب إسرائيل المستمرة منذ 60 عاما التأثير المروم. الشعور العام عند جمهور عربي واسع يتراوح بين الاشمئزاز والعداء والغضب، لكن ليس الخوف والهلع.
ولعله يمكننا في هذا السياق الكلام على قانون ردعية متناقصة (على غرار ما نتكلم في الاقتصاد على قانون الغلة المتناقصة للأرض أو الرأسمال أو الجهد البشري ) للعنف الإسرائيلي، يمثل الوجه الآخر لقانون تحول الصراع العربي الإسرائيلي من الدول إلى المنظمات العلمانية إلى المنظمات الإسلامية. وشرح هذا القانون ليس متعذرا. في الأصل كانت الردعية الإسرائيلية تأسست على القدرة على هزيمة دول وجيوش مثل مصر وسورية، وبدرجة ما منظمات الفدائيين الفلسطينيين «العلمانية» التي تعمل خارج أرضها ومجتمعها. يتعلق الأمر هنا بأطراف «عقلانية»، لديها ما تخسره (سلطتها وهيبتها، وموارد اقتصادية حرصت إسرائيل حتى حرب 1973 على ضربها؛ وحياة الأفراد والمجتمع المشتت والمهمش أصلا في حالة المنظمات الفلسطينية)، أطراف تؤوّل الوقائع الحربية والسياسية بطريقة ليست بعيدة جدا عن تأويل إسرائيل لها، وتاليا ترتدع إذا ووجهت بقوة ساحقة، محصنة، تحرص على منح الانطباع لأعدائها بأنها مجنونة لا تقف في عنفها عند حد. وهذا انطباع حرصت إسرائيل بوعي على غرسه في أذهان العرب، وجعلت منه مذهبا قتاليا معتمدا. والجنون هذا، تحت اسم «الإفراط في استخدام القوة» أو «اللاتناسب» بين الخطر المتصور والرد عليه، هو ما يحصل أن يشكو منه غربيون، تلهمهم نظرية «الحرب العادلة»، المعروفة جيدا في ثقافتهم.
الأمر مختلف حين تتحول المواجهة إلى منظمات إسلامية، لا تشارك إسرائيل عقلها السياسي، وتحوز ترياقا خاصا، مناسبا جدا يبطل المفعول السُّمّي للجنون الإسرائيلي، عقيدة الاستشهاد الإسلامية. قابلية منظمات كهذه للردع أدنى بكثير، وهي لا تعتبر الموت خسرانا محضا أو حدا مطلقا، بل لعله بداية حياة حقيقية. هذه النظرية هي ما تؤسس للعمليات الانتحارية أو الاستشهادية، تضفي عليها الشرعية بل الوجوب، وإن لم تكن بالقطع سببا لها على نحو ما يفضل أن يعتقد غربيون وعرب مقلدون لهم («السبب» هو «الوضع الانتحاري»، أي حالة الحصار المفروضة على الشعب الفلسطيني والأفق المسدود لقضيته).
ومن جهة أخرى فإن المنظمات الإسلامية هذه، حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين وحزب الله في لبنان، تقيم على أرضها وفي مجتمعها، فلا يمكن طردها إلى مكان آخر على نحو ما أمكن فعله بمنظمة التحرير عام 1982 وقبلها بفلسطينيين كثيرين في موجتي النزوح عامي 1948 و1967 (ولحزب الله ميزة في هذا الشأن عن حماس والجهاد من حيث أن قياداته ومقر قيادته في لبنان).
والقصد أن امتزاج الرسوخ في الأرض مع الرسوخ في الدين هو ما قد يفلّ من الطاقة الردعية للعنف الإسرائيلي المنفلت.
لعلها من «حيل التاريخ»، إذاً، أن إسرائيل، بتمكنها من هزيمة الدول وإخراجها من الصراع المباشر معها (كانت حرب 1973 آخر حروب الدول)، دشنت بيديها انتهاء ردعيتها. وأنه قد يناسب إسرائيل أكثر أن تواجهها دول لا منظمات إسلامية لا ترتدع. لكن هذا يقتضي دولا كاملة السيادة، مالكة لقرار الحرب والسلم، الأمر الذي حرصت إسرائيل ورعاتها الغربيون على إعدام شروطه. هذه مفارقة لا سبيل إلى القفز فوقها يواجهها المشروع الإسرائيلي.
ومن وجوه المفارقة هذه أن أقرب المفاعيل المحتملة للتنكيل الإسرائيلي بغزة هو توثيق الارتباط بين القطاع وحماس، «تعميده بالدم»، أو تحوله إلى رباط مصيري لا ينفصم، حتى لو تعرض الجسم التنظيمي والعسكري لحماس لأذى بالغ من جراء العدوان الإسرائيلي الجاري. وهذا هو النقيض التام لما يفترض أن تصبو إليه إسرائيل (وإن لم يكن أيضا بالأمر الذي يسعد به المرء من وجهة نظر وطنية فلسطينية لكونه ربما يعمق اختلاف الطابع بين القطاع والضفة، أو من وجهة نظر حياة اجتماعية وثقافية أكثر تنوعا وتفتحا في غزة؛ لكن هذا يقتضي تناولا خاصا).
على هذا النحو، يبدو أن المشروع الإسرائيلي لا يكف عن خلق تناقضات بين مصالحه بالذات تحكم عليه في النهاية بالفشل. والفشل لا ينقلب إلى نجاح، لا بالقوة ولا بمزيد من القوة، على خلاف ما كان أمل بن غوريون في الأيام الأولى لتأسيس دولته.
ومنبع التناقضات جميعا هو غربة إسرائيل الجوهرية والجذرية عن المحيط الذي فرضت فيه وعليه غصبا. فلا تستطيع إسرائيل أن تكون آمنة إلا بمراكمة وسائل القوة، وباستخدامها من حين لآخر، الأمر الذي يعمّق غربتها ويعزز استحالة القبول بها. ولا يؤشر العنف إسرائيلي الذي اتصف دوما بـ»اللاتناسب» إلا على أن اللاتناسب جوهر المشروع الإسرائيلي ذاته. ببساطة إسرائيل غير مناسبة ولا متناسبة هنا. هذا أمر غير قابل للتقادم ولا المحو، لا بالقوة ولا بمزيد من القوة، لا بالجنون ولا بالعقل.
خاص – صفحات سورية –