مثقفون سوريون: تتلاقى مصالح التاجر الثقافي والمؤسسة الرسمية
راشد عيسى
تأميـم الثقافـة العربيـة هـل يحميـها مـن التجـارة أم يرهنهـا للسـلطة؟
المثقفون السوريون ليسوا أكيدين من المخرج. هناك هجاء مر للتأميم الثقافي، لكن قلما يصل الأمر الى دعوة للانفكاك أو الخصخصة، يبقى مصير الثقافة ملتبسا والحل غامضا.
نبيــل سـليمان:
مقــام الحيــرة
يقول الروائي نبيل سليمان: «يحتاج تأميم الحكومة للثقافة كما عشناه في سوريا أو مصر أو العراق والجزائر وتونس وليبيا… إلى قراءة نقدية جديدة، وعلينا أن نضيف إلى ذلك تأميماً آخر هو غير حكومي، أو بالأحرى هو حكومي بالإضافة إلى غير حكومي، أي القطاع المشترك، وأعني تأميم الجهات الدينية المجتمعية شبه الرسمية للثقافة، وبالتعاون مع بعض الأنظمة. ربما كان الحسم في هذا التأميم الأخير هيناً، حيث لا يخفى شره المتفاقم ولا أذاه العميم، مما تستّر بالدين أو التراث أو الأصالة. أما الحسم الأول الملفوف بسيلوفان القومية والثورة والاشتراكية والعصرية فهو أعقد. فمن جهة أولى حقق هذا التأميم فوائد هامة، من بناء القاعدة الثقافية التحتية (مراكز ومعاهد ومطابع ومؤسسات سينمائية ومسارح…). وحسب المرء أن يذكر فورة المجلات الثقافية المصرية أو العراقية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. حسب المرء أن يذكر فورة مشروع مكتبة الأسرة والقراءة للجميع في مصر. ولكن ثمن ذلك كان فادحاً في سيرورة الدولة الناصرية أو البعثية وما شابهها، من حيث تطويب الثقافة وهيمنة الأحادية الحزبية والإيديولوجية، والتسطيح الذي فشا متستراً بالجماهيرية». ويتابع سليمان ما آلت إليه الأمور، ويرصد واقع الحال: «بعد كل هذا العمر التعيس الطويل مع ثقافة رسمية كهذه، بدأت حركة جديدة. بدأ بعض الحراك الثقافي للقطاع الخاص، كالمساهمة في تمويل مهرجان أو تكريم فنانين أو تمويل الإنتاج التلفزيوني أو إصدار دوريات ثقافية، وهذا كله جديد في سوريا، وترى الناس فيه حيارى، بين من لا يرى في هذه الحركة الجديدة إلا غسلاً للأموال، ومن يرى فيها البشرى بالخلاص من الهيمنة المعمّرة الرسمية، ومن هو خائف من الثقافة التي يشيعها المناخ الجديد بدعوى الحداثة وما بعدها». ويبدو سليمان هنا حائراً هو الآخر، في بحثه عن طريق بين التأميم والخصخصة: «إزاء كل ذلك، يبدو لي أن ليس من حل قريب، ولا من أفق واضح. وربما كان ذلك جزءاً من مهمة المستقبل على كل مستوى. إزاء كل ذلك، يبدو أن لا مناص من البحث عن طريق ثالث، تتحمل فيه الدولة مسؤولياتها الثقافية بعيداً من التطويب القومي أو الديني أو أي تطويب. وفي هذا الطريق الثالث لا بد من أن يكون للقطاع الخاص والمجتمع المدني مساهمتهما الفعالة في الحياة الثقافية. ولعل العنوان الأكبر هنا هو تحقيق مدى أكبر فأكبر من الديموقراطية ومن الإصلاح، وبهذا، وبصريح العبارة، ترانا نعود إلى السياسة، والعياذ بالله».
شوقـي بغـدادي:
الرعايــة والديموقراطيــة
الشاعر شوقي بغدادي قال: «صناعة قصيدة أو رواية أو مسرحية ليست بالتأكيد مثل صناعة الملابس أو البطاريات الكهربائية أو علب الكبريت، ومع ذلك فإن «التأميم» يطال الصناعتين بقرار بسيط تصدره عادة الدولة الشمولية القادرة على احتكار السلطة، وعلى أن تجد المسوغات لتبرير قرارها بمنطق مستمد من الأخطاء التي يرتكبها خصومها أحياناً، وليس من الحاجة الماسة لتدخّلها، كأن يقال مثلاً إن المؤسسات الخاصة تتلاعب بإنتاج المبدعين بأن تتهرب من الوفاء بكامل حقوقهم المادية وبغيرها من أساليب ماكرة، وبالتالي تغدو الدولة هي المؤسسة الوحيدة القادرة على حفظ هذه الحقوق، ذلك لأن الدولة شخصية اعتبارية لا تتصرف حسب أهواء اقتصاد السوق، بل حسب القوانين التي تحفظ حقوق الطرفين«. ويعلق بغدادي على هذا الافتراض الذي طرحه بنفسه: »قد يكون لهذا المنطق سلامة ما في حال كون الدولة الراعية ذات نظام ديموقراطي، وليس مجرد تسمية شكلية فارغة، كما هي الحال مع أنظمتنا في الوطن العربي المجيد، ذلك لأن النظام الديموقراطي هو القادر فعلاً على حماية حقوق المبدعين، لا لشيء إلا لأن السلطة القضائية فيه مستقلة ونزيهة يمكن الاحتكام اليها في حال التلاعب بهذه الحقوق».
وأياً كان الأمر، فإن البغدادي يرى «أن «التأميم» يعني إلغاء «الحرية»، أو روح المبادرات الفردية الخلاقة، وبالتالي إمكانات الرقابة على القابضين على أجهزة الحكم الذين أثبتت التجربة الواقعية أن تقيّد هؤلاء الحكام بالعدالة، التي من المفترض أنهم يحكمون باسمها، أمر نسبي جداً، أو بتعبير آخر، متعلق بالضمير الشخصي الحيّ للحاكم أو الموظف، وبهذا المعنى فهو متروك للمصادفة لا لطبيعة النظام، وخاصة حين تضيق الأكثرية «الحاكمة» بصاحب الضمير هذا، إذ تجده عقبة تعرقل تحقيق أطماعها، فتزيحه من طريقها كي يتحكم العسف وحده».
خيـري الذهبـي:
المشكلة في القائمين على التأميم
وربما بسبب من المصادفات التي تحدث عنها بغدادي، يؤكد الروائي خيري الذهبي أن »المشكل ليس في التأميم بحد ذاته، بل في القائمين على التأميم، ففي دولة متخلفة الإدارة، كسوريا مثلاً، أمّمنا الثقافة فاستولى عليها نصف أميّ لمدة سبعة وعشرين عاماً، ففرض نصف أميته على الثقافة في بلد بأكمله، وكان هذا كارثة على الثقافة في سوريا. هذه الكارثة اضطرت معظم المبدعين إلى الهرب خارج تأثير هذا الديكتاتور الصغير. ليس ذلك فحسب، فإذا نظرنا إلى الاتحاد السوفياتي الذي أمّم الثقافة كما أمّم كل نشاطات المجتمع، لرأينا أنه، خلال سبعين سنة، هي عمر الاتحاد السوفياتي، لم يستطع أن يقدم كاتباً واحداً بنصف قيمة تورغينيف أو تشيخوف أو تولوستوي، والكاتب الوحيد الذي ظهر خلال فترة الاتحاد السوفياتي كان مغضوباً عليه، وأعني بولغاكوف صاحب الرائعة »المعلم ومارغريتا«. طبعاً هذا الرأي لا يعني أن يترك الأمر إلى عتاة التجارة يتحكمون في المنجز الثقافي ليحيلوه إلى أدب إثارة وعنف ومهيجات. طبعاً هناك حل وسط، كما تقوم به بعض أوروبا الغربية المتنورة لحماية الثقافة الجادة، ليس عن طريق التأميم بل عن طريق تأمين المساعدات التي تمكن الكاتب والمبدع الجاد من الحياة الكريمة، كما نرى ذلك في فرنسا، وبريطانيا إلى حدّ ما، وبعض دول اسكندنافيا. في الستينيات ظهرت محاولة في مصر وأشيع أنها ستقلد في سوريا، عن تفريغ المبدعين للإبداع، وأنا أقول لا سمح الله أن يتم هذا الأمر في سوريا، فإن حدث لن يتم تفريغ إلا المؤلفة قلوبهم والجعجاعون ورجال البروباغندا، وهذا يتبع الفكرة الأساسية في أن خراب الإدارة لا بد أن يستتلي خراب الثقافة المؤممة».
ويسأل شوقي بغدادي: «ماذا يتبقى إذاً من ضمانات العيش في ظلّ نظام من هذا النوع لا يوفرها لأصحابها سوى رضى الحاكم بأمره عليهم، ولكن من يحمي المبدع عندئذ من مخاطر مزاج هذا الحاكم المأخوذ عادة بالشكوك والأوهام وجنون العظمة والقسوة المتوحشة وشهوة السلطة، سوى أن يلجأ المبدع إلى الصمت أو المداورة أو الخضوع الأعمى، وهي حالات لا ترجى معها العافية لأية ثقافة، وقد أساء لها النفاق أو الغباء أو الذعر. إن الشواهد على مثل هذه المناخات في ظل أنظمة التأميم أكثر من أن تحصى، وأقربها إلى الذاكرة ما جرى في دول المنظومة المسماة «اشتراكية»، حين غدا أدباء عظام مثل باسترناك، وسولجينستين، وبولغاكوف، وآخماتوفا وسفيتا بيفا وماياكوفسكي متهمين بالخيانة أو التقصير حين اختلف إنتاجهم عن التعاليم «الجدانوفية» التي وضعها النظام للإبداع الفنيّ عامة، فهاجر منهم من هاجر، أو تخلى عن جائزة كبرى غربية، مثل باسترناك الذي منح جائزة نوبل على روايته «أتن
«الدكتور جيفاكو»، فهُدِّد بطرده من وطنه إذا ما قبل بها، أو انتحر مثل الشاعر ماياكوفسكي الذي تغنّى بالثورة ثم اختلف مع النقاد الرسميين في ما بعد حول إنتاجه الجديد المتهم عندهم بالغموض والمجانية».
هيثـم حقـي:
مـا ينتـج فـي الهامـش
في تجربة هيثم حقي، المخرج التلفزيوني والسينمائي، شاهد على ما فعلت ثقافة التأميم، يقول: «حين عدنا من الاتحاد السوفياتي السابق، كمجموعة من متخرجي معهد السينما، كنا نعتقد أن السينما الجيدة والثقافة التي تحمل هموم الوطن والمواطن لا يمكن أن تتحقق إلا بمزيد من تأميم الثقافة. فوجود مؤسسة للسينما إلى جانب إنتاج القطاع الخاص التسويقي، الذي احتوى الكثير من الابتذال والقليل من الفن، جعلنا ننحاز إلى القطاع العام، الذي بدا كأنه يسعى لنشر الثقافة الجيدة، وإتاحة الفرصة للشباب للتعبير عن أفكارهم. لكن ما إن تبدلت الإدارات في «المؤسسات الثقافية»، حتى ظهرت نظرية نصف الكأس الفارغ (وهو ما ننتجه نحن من فن نقدي يسعى لتغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي)، ونصف الكأس الملآن (أي الجانب المشرق والمتقدم من الواقع)، والتي بموجبها تم التضييق والضغط علينا لتقديم ما اصطلح على تسميته (فن يوازن بين الإيجابيات والسلبيات)، بدل فن (البحث عن المزابل) الذي وصمت به أعمالنا».
وهنا يشير حقي إلى بعض ما حققه القطاع الخاص «الآن، بعد مرور كل هذه السنوات، ونجاح القطاع الخاص في مجالات ثقافية عدة منها نشر الأعمال الأدبية المهمة، والفن التشكيلي الذي وصل إلى أعلى مراتبه بواسطة التسويق الخاص، وأخيراً وأولاً صناعة الدراما التلفزيونية، وقريباً الصناعة السينمائية، أجد أننا بدأنا مرحلة جديدة؛ فإلى جانب مؤسسات ثقافية ما تزال عقليتها المسيطرة هي عقلية نصف الكأس الملآن، هناك مؤسسات تنشأ استطاعت أن تزحزح الجدار السميك للرقابة المفروضة على القطاعين الخاص والعام، واستطاعت هذه المؤسسات الخاصة أن تضمن عيشاً كريماً للمبدعين، بعد أن جعلتهم مؤسسات الدولة شبه عاطلين عن العمل برواتب الحد الأدنى من المعيشة. ولكن بالنتيجة الجانب التسويقي لكل عمل خاص سيلعب دوراً مهماً. وستتلاقى مصالح «التاجر الثقافي» مع مؤسسات الدولة الثقافية، والتي تقبل بالإنتاج (الخالي الدسم) لأنه يخلّصها مما يطلق عليه عادة (وجع الرأس)، ويخلصها قبل كل شيء من دفع المال في سبيل الإنتاج الثقافي، لتتفرغ مؤسساتها لثقافة التطبيل والتزمير ووهم الإنجازات، التي تقام لها مهرجانات وأفراح دون إنتاج ثقافي حقيقي».
أما عن الطريق الثالث المنشود، الذي يراه حقي بعيد المنال في عالمنا الثالث، يقول: «نحن بحاجة إلى دعم الثقافة الوطنية على طريقة الأوروبيين، لا على طريقة السوفيات. أي أن تقوم الدولة بدعم غير مشروط للإبداع الوطني، من أجل عدم اندثار الثقافة المحلية. وذلك بأن تقدم المنح وتنشئ الصناديق لدعم الثقافة المكلفة وغير التجارية، من مسرح وسينما وطنية وكتاب وتشكيل وغيرها. وبالتعاون مع القطاع الخاص، الذي سيحصل على هذا الدعم حين يقدم إنتاجاً إبداعياً عالي المستوى، يحمل اسم الوطن ليكون ثقافته. كل هذا مع إتاحة حرية التعبير الكاملة، وأنا أحلم بيوم تلغى فيه الرقابة على الإبداع في كل بلادنا».
منـذر حـلّوم:
مـن يدفـع يـطلب مـا يريـد
الكاتب منذر بدر حلّوم يطرح أسباباً إضافية تؤكد عدم جدوى التأميم في عصرنا الراهن: «يخيّل إليّ أنّه لم يعد بإمكان أحد اليوم أن يؤمم الثقافة، ذلك أن التأميم، وإن سرى على أرض محددة، فمن بإمكانه حصر الثقافة ـ وحتى ما يقال عنها قومية عربية أو روسية أو غيرهما ـ بهذه البقعة من الأرض أو تلك، سواء بمعنى إنتاجها أو تسويقها، ناهيك بإمكانية حصر المبدعين في جغرافيا محددة أو أطر مسبقة الصنع؟ فليس مهماً كثيراً، إلا بمعنى أهمية حاضنة الإبداع وهذا سؤال آخر، أين يعيش الشاعر أو الروائي أو الرسام أو الموسيقي اليوم، بل المهم هو كيف يعيش، خاصة مع الزيادة المتواترة في استخدام شبكة المعلوماتية والإمكانيات التي تتيحها في مجال النشر والترويج والتسويق. وحتى فكرة التأميم في مداها الأقصى الذي بلغته في الاتحاد السوفياتي السابق، لم يكن لها أن تحصر الثقافة (الروسية) بحدود الاتحاد السوفياتي، ولا الستار الحديدي كان قادراً على حجبها. وقد يكون ما أنتجه مبدعون روس في مجال الشعر والرواية والفن التشكيلي والموسيقى في شتاتهم أهم ما أنتجته الحقبة السوفياتية من إبداع. وأمّا سؤال المنفى الإجباري منه والاختياري فسؤال آخر». ولكن حلّوم يطرح سبباً آخر لضرورة تدخل الدولة: «من يدفع يطلب الموسيقى التي يريد! وبالتالي فالثقافة، بما هي إنتاج للآداب والفنون، تتأثر من خلال تغذية راجعة، قد تستبطنها أشكال مختلفة من الدعم، بسلطة رأس المال، أكثر مما تتحدد بالبنى السياسية، على افتراض إمكانية الافتراق بينهما نظريا. ومن المؤسف هنا أنّ الطبقة الوسطى بوصفها المستهلك الأوّل للثقافة قلّما تستطيع دعم إنتاج الثقافة مالياً. فثمة تفارق بين حضور المعارض الفنّية من جهة واقتناء اللوحات الفنية من جهة أخرى، وبين حضور أمسيات شعرية وموسيقية وندوات أدبية هنا وهناك وبين دعم الشعراء والموسيقيين والكتّاب، وإنشاء جوائز محفّزة على الإبداع وقاعات عرض وعزف ودور نشر أهدافها غير ربحية. الأشياء الأخيرة هذه يبدو إطارها الأفضل إلى الآن الدولة. ففي الوقت الذي تجد فيه بين أصحاب رؤوس الأموال من يعنى بإدارة إنتاج رسّام هنا وموسيقي هناك، فعلى الدولة أن تدير أعمال الثقافة ككل وتؤمّن إمكانية مشاركة تنافسية للجميع، يكون لكل فيها القدرة على أن يعرض نتاجه الإبداعي والحق في أن يُسلَّط عليه الضوء كغيره».
ويضيف حلّوم: «من غير المجدي أن تنغلق الدائرة عند حدود مؤسسة (الدولة) الرسمية، بل إن ذلك لا يبدو ممكنا حتى لو أراده أحد ما اليوم. فلم يعد لأحد اليوم أن يحتكر إمكانية الضوء وتسليطه مع كثرة وسائل الإعلام وتنوعها. وأمّا استهلاك المنتج الثقافي فعلى الدولة أن تدخل فيه على قاعدة تنافسية لملء ساعاتها التلفزيونية وأروقة متاحفها وجدران قاعات عرضها وفضاءات دور الاستماع إلى الشعر والموسيقى والقول. وأمّا الاحتكار فوهم قد يسكن رأس جنرال في السلطة هنا وجنرال هناك، وقد يخرج بأشكال عنفية من التقييد والمنع والمصادرة، إلا أنّه يبقى عاجزاً عن بلوغ أهدافه ما لم يلجأ إلى آليات السوق وأدواته. وقد تجد من يعترض هنا على تسليع المنتج الثقافي وإخضاعه لآليات السوق، وقد أكون من بين هؤلاء الذين لا يعجبهم ذلك، إلاّ أن المسألة لم تعد بيد المبدعين اليوم، فما أن ينفصلوا عمّا يخرج من تحت أيديهم حتى يتحوّل إلى سلعة، سلعة قد يكون من المفيد التفكير في الاشتغال على المسافة الفاصلة بين خصوصيتها ومحليتها من جهة وعالميتها من جهة ثانية. وأمّا إذا عدنا إلى السؤال المطروح عن فاعلية الثقافة، بين خصخصة الأخيرة وتأميمها، فقد يكون الفارق بينهما في هامش الحرّية المتعيّن بالتضاد. وعلى العكس من تسليط الضوء، فقد يُسلَّط العتم على محترفات الثقافة الحرّة وتحشر في الظل وفي الأقبية إلى حين، إلا أنّها سرعان ما تخرج إلى الضوء في لحظات تصدّع بنية التضييق والتعتيم والمنع لتقول كلمتها، إن هي عجزت عن إخراجها إلى جغرافيا أخرى قبل ذلك، وهو أمر لا يعجز عنه إلا العاجزون اليوم. ولعل المهمش الذي ينتج في الهامش هو ما يفتح الثقافة على آفاق مستقبلية واعدة. وثمّة كثير يمكن أن يقال، هنا وفي غير مكان، في دور المثقفين الممكن لبقائهم الثقافي وبقاء الثقافة، وكذلك في الفاعليات التي تضمن للمبدعين منهم البقاء إبداعياً. وهي نافذة، للسؤال المطروح فضلٌ في فتحها على الأسئلة. والسؤال دائما جالب نور عكس التسليم».
إبراهيـم صموئيـل:
منــاخ الحريــة
الكاتب والقاص ابراهيم صموئيل علّق بالقول: «تأميم؟! أول ما أوحت لي به هذه الكلمة استيلاء السلطة على الثقافة بالقوة والقهر، على غرار الاستيلاء على السلطة وعلى ثروات البلاد بما فيها «مادة» الإنسان! فالتأميم، في تجربتنا العربية، وهذا ليس نظرياً، الاستيلاء بالقوة والقهر لصالح الدولة والسلطة والنظام. من هنا لا أرى لتأميم أي شيء أية فائدة ترتجى للناس، وفي الآن نفسه، وعلى قدم المساواة، ووفق التجربة العربية أيضاً، لا أرى في ما يُسمى بالخصخصة حلاً. فالتجّار الباحثون عن المال والربح أولاً وأخيراً يعنيهم الدارج ويعملون وفق منطقه. أي دارج يدرج ويشيع يلهثون خلفه ويعملون على ترويجه ودعمه وحصر الإنتاج به، بحيث لو سألت عن بضاعة ما لقالوا لك: «ما في… لأنو مو ماشي»! الخصخصة تسوق حسب السوق، وتتسلط وتتحكم بدورها أيضاً وأيضاً. والسؤال هنا أشبه بسؤال، في مجال آخر، شاع على الألسن قبل خمس سنوات: هل أنت مع صدام حسين ونظامه وسلطته.. أم مع الأميركيين وغزوهم واحتلالهم؟!» ولذلك اختار صموئيل أن يدلف إلى طريق ثالث: «بلى، بالضبط، طريقٌ ثالث، طريقٌ آخر، في الثقافة وغير الثقافة، يضع الإنسان وثقافته وحريته وكرامته وعيشه في أعلى السلّم، وأرفع الأهداف، وأبعد الغايات. أما كيف؟ فلهذا حديث يطول ويخرج بنا إلى بحث واسع جداً يشمل كل ما يتعلّق بهذا الكائن الذي هو الآن محشور في أسفل درك: من شرعة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، إلى »شرعة« المختار في أصغر حي عربي».
غسـان جباعـي:
إفــراغ الثقافــة
غسان جباعي، المخرج المسرحي وكاتب السيناريو التلفزيوني قال في إجابته: «السؤال الحقيقي الذي ينشأ هو من يملك الحق بتأميم الثقافة والوصاية عليها؟ قتلة الأنبياء الذين قصدهم عيسى ابن مريم عندما قال: «سامحهم يا أبت فهم لا يعرفون ماذا يفعلون»؟ أم أولئك الذين جزّوا رأس الحسين؟ قتلة سقراط؟ أم قتلة حسين مروة؟ أم قتلتي؟ ليس للثقافة أنياب ولا أظافر تدافع بها عن نفسها. ولكنها تملك ما هو أخطر منها بكثير. فالثقافة هي شكل الفكر وهو مضمونها. ولا يمكن الفصل بينهما ولا يجوز. ومهمة الدولة، بما هي مؤسسة، وسواء كانت دولة العسكر الأميين، أو دولة المثقفين والمفكرين، وكونها لا تستطيع أن تقوم أصلاً بمعزل عن الثقافة والفكر، فهي تعمل على تحطيم علاقة الشكل (الثقافة) بمضمونه (الفكر) وإفراغ الثقافة من محتواها كي تتمكن من تدجينها وتحويلها إلى جسر إعلامي يربطها بـ«الجماهير»، وبوق إيديولوجي مهمته الأساسية هي ترويضهم. وهكذا يصبح محتوى الثقافة هو الإعلام، أي أخذ العلم، لا الفكر، أي التفكير المستقل الحر. إن أكثر الناس حرصاً على وضع الضوابط هم الأصوليون والسلفيون، سواء كانوا ديناً أو حزباً أو قطيعاً بشرياً منغلقاً على نفسه يخاف من الآخر. والدولة العربية منذ نشوئها حتى الآن لم تجرب سوى الوصاية والتأميم تحت راية الحرص على ثقافة الأمة. كما لو كانت ثقافة هذه الأمة مجرد ريشة ما أن تهب عليها الريح حتى تتردى وتتلاشى. رغم أننا نعلم جيداً أن هذه الثقافة راسخة كالجبل، مشعة كالضوء، والذي دافع عنها وحماها حتى الآن ليس حرص المتشدقين بالدفاع عنها، بل قدرتها الذاتية على البقاء والإشعاع والتجدد عبر العصور. لذلك أقول دعوا الثقافة تعش بحرية أولاً، فهي قادرة على الدفاع عن نفسها إذا كانت ثقافة حقيقية. أما ما يسقط منها عبر مسيرة التاريخ فهو يستحق السقوط، ولا أسف عليه».
ممـدوح عـزام:
رخص الثمن ورخص المحتوى
الروائي ممدوح عزام أجاب بالقول: «عرض اتحاد الكتاب العرب في سوريا منذ الشهر الماضي جميع المجلات الصادرة قبل العام 2002 للبيع في جميع فروعه، أي في كل المحافظات السورية بسعر خمس ليرات للنسخة الواحدة. كما عرض بيع الكتب الصادرة قبل هذا العام بعشرين ليرة لأي كتاب بالوزن. وقد توصل المكتب التنفيذي إلى هذا القرار حلاً لمشكلة تكدس الكتب والمطبوعات الصادرة عن هذه المؤسسة في المستودعات، ومنافذ البيع، وليس من أجل نشر الثقافة بالطبع أو تشجيع القراءة. أذكر هذا النبأ هنا لأقول ان مؤسسة شبه حكومية عجزت طوال أكثر من أربعين سنة عن إنتاج ثقافة يقبل عليها القراء، علماً أن سعر الكتاب لم يكن أبداً هو السبب في ذلك، بل على العكس من ذلك، حاول الاتحاد أن يقدم كتباً رخيصة الثمن نسبياً قياساً لسعر السوق، ومداخيل السوريين، إضافة إلى الحسومات شبه الدائمة في مراكز بيع الكتب التابعة له. ومع ذلك فإن كتبه لا تباع، ولم يحدث سوى مرات قليلة أن نفدت نسخ إحدى مطبوعاته، وكما لم يحدث أن صدر في قوائمه كتاب هام، باستثناء ما قدمه في بدايات مشروع النشر الذي بدأ به. ليست المشكلة في عدد العناوين، أو كمية النسخ، بل في النوعية، أو في مبدأ الثقافة الموجهة التي يمكن نسبتها إلى مبدأ تأميم الثقافة، ففي كل الحالات أو العينات التي عرفها العالم، خاصة في القرن العشرين، حيث الاشتراكية الماركسية وأخواتها من اشتراكيات البلدان التي التحقت بالمعسكر الاشتراكي، من الاستيلاء على السلطة، انزلق التأميم عامة، وتأميم الثقافة خاصة، نحو رذائل البيروقراطية، ومحسوبيات الأفراد المسؤولين، وولاءات السلطة. صحيح أن الجهات المخولة بالإشراف على الثقافة قد تمكنت من إنشاء دور نشر، وإصدار مجلات فكرية، وسياسية، وأدبية، وجرائد، وغير ذلك من وسائل التثقيف، لكنها كانت محكومة دائما بروح النشرة، كما كان الإنجاز شكليا، لا يهم المسؤول المكلف بالإشراف عليها سوى تنفيذ الخطة، حتى بدا أحياناً أنه لا يختلف عن المشرف على مزرعة دواجن تابعة للدولة ذاتها، حيث يمكنه أن يقدم تقرير إنجاز الخطة مرفقاً بالأعداد المطلوبة، والأوزان أيضاً (حدث أن عرضت الأعداد المرتجعة من «الأسبوع الأدبي» للبيع بالكيلوغرام). الأخطر من ذلك ليس أحادية الاتجاه الفكري، المرتبط بالتوجهات الفكرية للنظام الحاكم، بل ارتهان الثقافة المؤممة لشخص المسؤول المشرف على أي مديرية ثقافية، وغياب الحضور المؤسساتي الثابت ذي الأسس الثقافية الواضحة، وقد يحدث، بل حدث بالفعل أن تبدل المنحى الفكري لوزارة كاملة هي وزارة الثقافة السورية، بتغير الوزير فقط، وتغير منحى النشر في الكتاب الدوري من العلمانية إلى الإسلاموية، بتبدل المشرف على السلسلة، كان الإشراف الثقافي عملا حزبيا، لا سياسيا، يتسم بالإكراه والروح الانتقامية، والرغبة في إقصاء الآخر، أو ثقافة الآخر، وطردها خارج الحلبة، واللافت في الأمر أن مثل هذه الثقافة المؤممة لا تعبأ بمطالب القارئ ومشاغله، بل تفرض عليه فرضاً الثقافة التي تناسب فكر المشرف، الأدهى أيضاً أنها تهدر المال العام دون أن تفكر بشروط السوق، ولا يهمها التنوع، والاختلاف».
ويتابع عزام: «لم تكن الثقافة المؤممة اختراعاً اشتراكياً فقط، بل يمكن تنسيب الثقافة الاستعمارية إلى هذا المجال، وقد أوضح إدوارد سعيد في الاستشراق اقتران خطاب السلطة بخطاب المعرفة، حين عمدت السلطات الاستعمارية إلى محاولة فرض ثقافتها، على ثقافة شعوب البلدان المحتلة، لمساندة قهرها لتلك الشعوب. في كل حال لم يحدث أن حمت الثقافة المؤممة الباحث أو الكاتب في بلد من بلدان العالم، بل فعلت العكس في ظل شعار الحماية ذاته، بحيث أوقعتنا، نحن المؤمنين بضرورة إنهاء أي شكل من أشكال الاستغلال، في مأزق، أي بين التأييد النظري لما أثبتت جميع العينات الملموسة فيه أنه لا يحدث أبداً، وبين الرؤية العملية التي تؤكد أن الثقافة الحرة، أو المخصخصة ظلت قادرة دائماً على منح الكاتب مساحة كافية من الحرية الضرورية لشغله، سيختار الحرية إذاً».
شوقي بغدادي اختصر القول أيضاً، وخَتَمَه، بجواب الحرية فـ«الحرية وحدها هي المناخ الذي يبدع الثقافة الحقيقية التي تبقى. وما من ريب في أن المبدعين قد يتعرضون حتى في مناخ الحرية إلى الجحود والنكران والفقر واغتصاب الحقوق وغيرها من ظلامات، ولكن ماذا تريد فتلك هي «الحرية». إنها تفتح الأبواب والنوافذ للريح والشمس والغبار واللصوص، فتعرّض البشر الى مخاطر كثيرة، غير أنها في الوقت ذاته هي التي تمنحهم فرصتهم الحقيقية لاكتشاف أنفسهم، والعالم حولهم، وتفجر طاقاتهم الإبداعية الكامنة لانتزاع الاعتراف بهم عن جدارة. إن الثقافة لا تصنع حسب مخطط مسبق، مثل الخطط الخمسية للتنمية الاقتصادية، ذلك لأن التنبؤ بمسالك الإبداع الفني وصعوباته وتجلياته مسبقاً مطلب مستحيل، فالقصيدة أو الرواية أو المسرحية أو المقطوعة الموسيقية أو اللوحة التشكيلية لا تثبت حضورها إلا بعد إنجازها، وكل حديث عنها قبل ذلك ضرب من الرجم بالغيب، إذ كثيراً ما يأتي العمل الأدبي بعد إنجازه مغايراً للفكرة أو الهواجس التي انطلق منها. هذا هو ثمن الحرية، ولا بد من تأديته كاملاً حتى نخلق ثقافة حقيقية».
(دمشق)