رائحة القرفة – 1
سمر يزبك
إلى نوّار.. حين غبْنا وحيدتين في هذا العالم المجنون.
إنه خط الضوء المائل!
الباب كان موارباً. ولولا الضوء المنبعث كخط مائل نحو مرآة الممر، لََمَا انتبهت حنان الهاشمي إلى الهسيس، وهي تمشي حافية القدمين، بعد أن قفزت من فراشها كملسوعة، تحلم أنها تحولت إلى امرأة بخمسة أذرع، وثلاثة أثداء.
كانت ما تزال تهذي. تتلمس جسدها. تتحسس الدانتيلا النبيذي الملتصق بصدرها. تبحث عن استطالات وأذرع جديدة. لم تصدق أنها ما زالت على حالتها الطبيعية، حتى هبطت درجات السلم الخشبي، وركضت نحو مرآة طولا نية، احتفظت بها من أثاث بيت المهاجرين القديم. تعرف أن المرآة لن تكذب عليها، وستجعلها تطمئن إلى أن أذرعاً نحيلة ومخيفة، لا تتراقص حول جسدها كأفاع.
لكنه خط الضوء!
خط النور المائل الذي قسّم الممر إلى شطرين، هو ما جعلها تفيق من كابوسها، وتنتبه إلى أنها حافية القدمين. تسمع هسهسات تنبعث من غرفة زوجها.
وقفت متصلبة. عيناها جاحظتان، لم تحرك قدميها لتعرف ما يحدث داخل الغرفة التي لم تدخلها منذ سنوات، ولا تذكر محتوياتها. لم ينتَبْها أي فضول لمعرفة المكان الذي ينام فيه زوجها. فقط، كانت تنتظر رحيله.
خطت نحو المرآة. وقفت بعريها بعد أن أضاءت الممر. ولم يكن يسترها سوى ثوب الدانتيلا القصير. حملقت في المرآة. لمعت فكرة غبية في ذهنها؛ فضول أعمى لمعرفة ما يفعله زوجها. هل جننتُ ؟ تساءلت.
دقّقت في وجهها بالمرآة. لمعت عيناها. مسدت وركيها، وهي تحبس أنفاسها. ضحكت وشعرت بامتلاء بالسعادة. نسيت للحظات، ما وصل أذنيها من الغرفة، مستغرقة في الغبطة التي تحسها بتأمل تفاصيل جسدها، أمام المرآة. ترفع ثوبها القصير، تتأمل ردفيها بفضول، وكأن ما تشاهده هو جسد امرأة أخرى. تتلمس سطح المرآة. تنتقل بأصابعها إلى وجهها، تمسد خدها. تحس بالرضا للنعومة التي تشبه سطح المرآة الصقيل. تشرع في الضحك. تضع كفها على فمها كتلميذة خجول.
مدت يدها وأطفأت النور، تفكر بالّظل الذي ستلمحه أمام المرآة، بعد أن تيقنت أن وجهها بقي على حاله. لكنها غرقت فجأة في العتمة، وانتبهت إلى أن الضوء المنبعث من غرفة زوجها، قد اختـفى، والباب الموارب قد أُوصد. ارتجفت.
حاولت أن تتماسك. الاحتمال الوحيد الذي مرّ على بالها، هو أن لصاً اقتحم الفيلا. تيبس الصراخ في حنجرتها، وبحثت وسط العتمة عن الجدار، تتلمس الأمان. تنفست بصعوبة. فكرت في الوصول إلى أقرب هاتف، لأنها متأكدة أن زوجها لن يستيقظ حتى ساعة متأخرة. وإذا حدثت معجزة وفعل، فلن يُطفئ الأنوار فجأة، عندما يسمع وقع خطواتها.
التصقت بالحائط حتى صارت جزءاً منه. كورت جسدها وذراعيها، كتمت أنفاسها. عندما انقضت دقائق، وهي ما تزال على هذه الحال، سطع ضوء من الغرفة، وعادت الهسهسات ثانية.
هسهسات ناعمة. ضحكات خافتة، وأنين ملتاع. مشت ببطء وتثاقل، محاولةً التكهن بمصدر الصوت. جسدها يرتجف بشدة. وقفت أمام مقبض الباب. التصقت به. فتحته بحركة عنيفة. صارت وجهاً لوجه، أمام ما يحدث في الغرفة التي تحولت إلى مسرح مظلم، تضيئه بقعة ضوء شاحبة. بهُِق وجهها، وتحولت مسام جلدها إلى حواف سكاكين حادة، برزت على شكل حبيبات ناعمة، من أخمص قدميها حتى مفرق شعرها المنكوش.
كان زوجها العاري ممدداً على السرير، وتغضنات ألم واضحة على وجهه. ليس الألم تماماً. هذه التعابير لم تعرفها من قبل. تعيد تشكيل ملامحه. لم يكن هو نفسه، لكنه زوجها، وهناك مثل نفق عميق وسط الضوء الباهر، كانت… عليا.
هذا ليس حلماً؟ هي ليست مستلقية على فراشها، وقطرات العرق تنز من كابوسها. إنها عليا التي تعرفها أكثر مما تعرف نفسها! إنها هي!
عليا التي تتلوى لصق الزوج بغنج، وقد تصلّب جسدها فجأة، عندما لمحت سيدتها، لكنها بقيت تحدَق في عينيها بثبات حاد. كانت كلتاهما تمتصان خيطاً حاداً من النور المتوهج، استقر في بياض عينيهما، واخترق مسام الجلد كحد سيف. لم تتفوه أي منهما بحرف. وجسد الزوج الفاصل بين جسديهما، ساكن، مفضوح بعريه الذي لا تعرفه. عاشت عمرها معه، وهي تعتقد أنه بلا تفاصيل. حتى إحساسها بثقل جسده فوقها، لم يكن إحساساً أنثوياً بوزن رجل. كان إحساساً بالثقل فقط. لكنه الآن عارٍ! متهالك، ينظر إلى الفراغ، ويبدو غير عابيء بما يحدث حوله. صالب يديه فوق بطنه، وتنفس بعمق، وكأنه يستعد للغوص في محيط عميق. انزلقت عينا حنان سريعاً على جسده. عادت للتحديق داخل عيني عليا وفي تأمل تفاصيل جسدها. الأصابع التي تعرفها جيداً يابسة، شديدة الزرقة، وعروقها الخضراء ترتجف وهي تحاول إفلات قطعة اللحم الرخوة. ضمت حنان أصابعها، أحست بتيبسها. بدت عليا كما لو أنها ستنطلق في سباق طويل، منحنية، متوثبة فوق السرير. لم تجرؤ على الاستقامة. شعرت أن ظهرها سينقصم إذا بقيت ثواني أخرى على هذه الحال. انحبس الهواء في رئتيها، وخافت أن تتنفس، فتحدث كارثة، وتقع جدران البيت على رأسها. وحنان التي تسمع ضربات قلبها المتسرعة، وتتنفس بصوت عال أقرب إلى حشرجة اختناق، أمسكت بطرف السرير، وتقدمت خطوة. وفي اللحظة التي رفعت كفها في الهواء، انزلقت عليا تحت السرير، ومرت كسحلية من تحت أقدامها، يلمع الضوء في عينيها، وتركض نحو غرفتها، وهي تسعل بشدة، بعد أن تنفست قليلاً، وهي تكاد تختنق.
تتأمل حنان قبح عضو زوجها المتدلي كخرقة، تصرخ: عليا.
لم تعرف من أين يخرج صوتها. من حلقها أم من مسام جلدها الإبرية؟ أم من الأثداء والأذرع التي تطايرت فجأة في فضاء الغرفة!
كان طعم الخيانة المباغت، السبب في جنونها ذاك. أخذت تدق بجنون، باب غرفة الخادمة المغلق عليها من الخارج. تصرخ فيها لاهثة. وفجأة قررت أن تتماسك. توقفت أصابعها عن معالجة الباب، وخطت نحو غرفتها، بعد أن أصدرت بصلابة، الأمر للخادمة بالرحيل.
أغلقت بابها وراءها. جلست تحاول السيطرة على لهاثها الذي يتصاعد من جديد. قررت أن تمحو عليا من حياتها نهائياً، وكأنها لم تكن يوماً هنا. ستشطبها مثل كلمة مدونة بقلم رصاص باهت، جاهزة للمحو السريع. تسمع دبيب أقدامها في الممر، وهي تتسحب كلصة. تمضي إلى ذلك الزقاق الضيق القذر الذي خرجت منه؛ بين أكوام الصفيح، وبكاء الأطفال الحفاة، الأطفال العراة الذين يلعقون مخاطهم، ويتدلون من حاويات القمامة، كأغصان برتقال محروق.
شعرت بارتياح مَنْ يستيقظ من كابوس، وهي تسمع صرير باب السور الخارجي. ثم ساد الصمت. فجأة هبت إلى النافذة. أزاحت الستائر, وتلصصت بخوف. تراقب خيال عليا، وتتمنى أن يكون هذا الخيال حلماً أيضاً، مثل خط الضوء المائل. تحاول أن تفتح النافذة بيديها المرتعشتين، فتتحول إلى تمثال من الحجر، وتأنف أن تصيح باسم عليا، وتطلب منها العودة. لوهلة فكرت بذلك، لكنها تراجعت عن قرارها في اللحظة نفسها. ضغطت ثانية بقسوة حتى طقطقت عظامها، وتأكدت أنها كائن من لحم ودم.
بقيت تراقب خيال عليا في الفجر الأزرق، وتذهب بعينيها إلى البعيد، حيث لاحت أسراب من الطيور الغريبة، وكأنها تودع الصغيرة المتعثرة في مشيتها. عندما اختفى خيال عليا، أغلقت الستائر، واندست في فراشها، وهي تتشمم رائحة شراشف الليلة الماضية، رائحة القرفة.
* *
إنه خط الضوء المائل!
الضوء الذي سيجعل لياليها تغرق في العتمة، بعد أن نسيت إقفال باب غرفة السيدة، عندما انسلت من الطابق العلوي، إلى غرفة السيد.
وفي الوقت الذي كانت فيه حنان الهاشمي تنزل الدرج، كانت عليا ترتجف من الخوف. فكرت أن سيدتها لحقت بها، وستكشف أمرها أخيراً. توقفت عن الحركة، تنتظر أن ينفتح الباب، وتلمح الظل الذي يتحرك وراءه. تيبست يدها، وأرخت ثقلها من فوق جسد السيد. تهاوت بجواره. لم تستطع فك أصابعها المتشنجة حول شيئه. تفكر في القفز من النافذة، أو الاختباء تحت السرير، لكنها لم تقوَ على الحركة، كأنها في حلم. كان خط الضوء هو الحقيقة التي جعلتها تمرق كسحلية من تحت أقدام حنان الهاشمي.
تستغرب كيف طارت من سرير السيد إلى غرفتها. وفي اللحظة التي ارتطم رأسها بالأرض، ظنت أنها في كابوس تهوي فيه نحو حفرة لا قرار لها. لكن صوت الأقدام الذي يقترب من غرفتها، جعلها تتأكد أن ما يحدث أمر واقع. وعندما أخذت السيدة تدق بعنف على الباب المقفل بإحكام، أفاقت وعرفت أن وقت اللعب انتهى. كانت تعرف أن سيدتها تريد أن تمزقها بأسنانها، لأن صوت اصطكاك أسنانها كان مسموعاً كصرير باب عتيق. تنشج مثل طفلة. تصرخ وتصفها بالمتسولة القبيحة ذات البثور السوداء.
قبل أن ترتدي ثوب نومها، وتمضي من غرفة سيدتها إلى غرفتها، كما طلبت منها حنان الهاشمي، كانت تشعر بغبطة سرية تحول جسدها إلى كتلة من الارتعاشات اللذيذة، وهي تتذكر كيف كانت عينا حنان تفوران بالرضى والحب.
كيف تصفها الآن، بالمتسولة القبيحة؟ كيف تحولت العينان الجميلتان إلى حريق؟ أخذت شفتاها ترتجفان، وهي تجمع ثيابها، بينما تهب من أطرافها رائحة برد غريب. البرد غريب في عزَ الصيف الحارق، عندما تنز قطرات العرق المالحة فوق الجلد، فينتفض جسد عليا بإحساس جليدي عن صور في ذهنها المشوش، لحكايات الموت برداً، وسط شارع خاو ورصيف قذر. لذلك كانت تقضي نهاراتها تحلم بالليل الذي سيحولها إلى ملكة. تفكر بالتفاصيل، تفاصيل الليل الذي تحبه، وتنتظره. الليل الذي تطلبها فيه سيدتها بعد عودتها من إحدى سهراتها. ليل التواطؤ القادر على ملامسة شغاف قلبها.
تمسك صولجانها في النصف الأول من الليل. تتحسس تاج سيادتها اللامرئي، تغفو قليلاً، وعندما تصحو تتناوم في سريرها، مرة أخرى، جاهزة لاستدعاء السيدة.
في النصف الثاني، تتسلل إلى غرفة سيدها. تنام قربه عارية، تعبث بلحمه المترهل. ثم تغادره إلى غرفتها، لا يتأفف من عبثها بجسده، حين لا تفلح في جعله يستعيد بعضاً من رجولته، وهو ما لم يكن يعنيها في شيء؛ لأنها تفضل الاستلقاء بحضنه، والإصغاء إلى أنفاسه المحروقة.. في كل مرة تفعل ذلك، وقبل طلوع الفجر بقليل، تعود إلى غرفتها. تستحم، وتنام كقتيلة، فهي تعرف أن النهار قادم، وستخلع عنها رداء السحر. وتعود إلى تلقي الأوامر.
لم تدرك أن خط الضوء المائل الذي نسيته في غفلة، سيحّول مملكتها إلى خراب، رغم أن عرشها ذاك، لم يكن يحتاج إلى الكثير من المهارة، بعد أن تعلمت فنون الحياة، وكيف تستطيع أن تكون الأقوى في السرير. وغاب عن خيالها، التفكيرُ بمرور سيدتها الخاطف آخر الليل، إلى غرفة الطابق السفلي، بعد أن تركتها تعوم في نومها.
اللحظة التي نظرت فيها الشرر بعيني سيدتها، قذفت بها إلى ذكريات خوف استعادته تماماً؛ الخوف من شيء مجهول لم تعرف كنهه يوماً، مع أن طعم الخوف سكن قلبها منذ زمن بعيد، لكن غشاوة كانت تفصلها عنه، غشاوة رقيقة وهشة لن تزيدها صلابة كل التجارب التي ستعيشها في سنواتها القادمة. فهي محفورة حتى أعمق نقطة في قلبها. ولم تستطع السنوات التي ابتعدت فيها عن عالم الطفولة، أن تمحو من عينيها ذلك الارتجاف القلق، والتشنجات الحادة في وجهها، التشنجات التي وجدتها حنان الهاشمي مصدر جاذبيتها، وهي نفسها التشنجات التي عادت في لحظات، إلى تشنجات رعب؛ تتحرك عضلات وجهها بشراسة.. خدها الأيمن يعلو، فيهبط الخد الأيسر، وتنفرج شفتاها عن أسنان صغيرة، ثم تعض الأسنان الشفتين، وترتجف العينان، وهي تحاول منع دموعها من التدفق. فتختنق بها.
في ذلك الزمن الخاطف الطويل كمئة عام، وهي تهرب إلى غرفتها، تذكر كيف اختفى الضوء من عينيها، وكيف هربت بعريها من غرفة العجوز، وشعرت بسقوط في الهاوية، فأقفلت الباب، وألقت بنفسها على البلاط، وأجهشت ببكاء أوقفه صوت حنان الهاشمي، يأمرها بالرحيل.
كانت تفكر في أنها لو خرجت من غرفتها، ورمت بنفسها في حضن سيدتها، فإنها ستقلب السحر على الساحر، وستجعل قلبها يرق. فالليل ما يزال ليلاً، والنهار لن يطلع عما قريب، وما تزال هي الملكة الوحيدة. وعندما يطلع النهار، وتتحول إلى خادمة من جديد، سيكون لها شأن آخر. فكرت أنها تستطيع أن تفعل ذلك لثقتها بسحر الليل، لكن الشراسة التي رأتها في عيني سيدتها منعتها، فحملت حقيبتها بهدوء، وانسلت من الفيلا، دون أن تنظر إلى الخلف. ولم تنتبه وهي تغادر، أن حنان الهاشمي لم تزل واقفة وراء النافذة.
* * *
بإذن من الكاتبة سمر يزبك، خصيصا لصفحات سورية