يتامى في العراء الإعلامي
مالك التريكي
قبل أيام كتب قارئ إلى جريدة ‘الاندبندنت’ البريطانية يقول: ‘إنها لمسألة محيرة حقا. كل المتحدثين الإسرائيليين الذين يظهرون على قنوات التلفزيون الغربية هم من اليهود ذوي الثقافة الراقية واللسان الإنكليزي المُبِين وممن يعبرون برصانة تامة عن وجهة نظر مدروسة بعناية، هذا مع أن الإسرائيليين هم الذين يقترفون جرائم الهدم والتذبيح! أما المتحدثون الفلسطينيون فعلاوة على أن جميعهم تقريبا من أصحاب اللحى الكثة والمظهر المنفر، فإنهم لا يستطيعون التحدث بالإنكليزية ويخفقون إخفاقا ذريعا في مجرد التعبير عن محنة أهل غزة. فأخبروني، هل هذا شيء متعمد ومُبَيَّتٌ بِليْل؟
سؤال قديم جديد لطالما آلمنا وأخجلنا وأنزلنا منزلة اليتامى. نبدو أمام العالم بأسره مرتجفين في العراء الإعلامي كأنه لا يوجد في بني قومنا امرئ واحد ينطق بلسان حالنا بالجدارة الواجبة والبراعة اللازمة. سؤال قديم جديد لطالما نكأ جرحنا وعمّق شعورنا بالهوان. ذلك أنه لا يتعلق بالمقارنة بين أسلوبين في الدعاية السياسية أحدهما أنجح من الآخر (إذ ليت الأمر كذلك) بل إنه يتعلق بالإقرار بمهنية الدعاية الإسرائيلية وانضباطها وثباتها المنهجي على مجهود الدُّربة والمران، كما يتعلق في الوقت ذاته بالحسرة على انعدام المتحدث الفلسطيني القادر على مجرد استخدام اللغة، ناهيك عن مخاطبة القوم بما يفقهون! إذ منذ أن اختفت السيدة حنان عشراوي من شاشات التلفزيون الغربية (فهي لا تظهر الآن إلا لماما)، لم نعد نرى متحدثا فلسطينيا، سواء من فصائل منظمة التحرير أم من ‘السلطة’ أم حماس، يستطيع مخاطبة الإعلام الأمريكي والبريطاني بما ينبغي من وضوح البيان وقوة الحجة.
هذا الضعف الفادح الفاضح في الأداء الإعلامي مشكلة عربية شاملة، وحقيقة بديهية ‘لا يتناطح فيها عنزان’ حتى أن النظام الرسمي العربي نفسه، الذي لا يشق له غبار في مضمار إنكار الحقائق، قد اعترف بهذه الحقيقة وبدا كأنه يقدّر مدى كارثيتها عندما دارت مناقشات في أروقة الجامعة العربية قبل عامين أو ثلاثة حول وجوب وضع استراتيجية في مجال التعامل المهني العصري مع الإعلام الغربي، وشاعت آنذاك أنباء عن احتمال تكليف السيدة عشراوي بهذه المهمة….
لم نعد نرى منذ سنوات، سواء من منظمة التحرير أم من الفريقين المتنازعين على وهم الحكم، متحدثا فلسطينيا بالإنكليزية يجدر أن ينطبق عليه هذا الوصف. الاستثناء الوحيد الذي نحمد الله عليه هو الدكتور مصطفى البرغوثي العضو المستقل في المجلس التشريعي. إذ ان أداءه يتميز دوما، في جميع إطلالاته في الإعلام البريطاني، بمتانة الموقف وسلاسة التعبير وسهولة الإتيان بالدليل. بل إن حنكته أصبحت تسمح له بتفكيك الكليشيهات السياسية وبوضع مواقف الإعلام الغربي المسبقة موضع السؤال وبأخذ زمام المبادرة السجالية بدل الاكتفاء بموقف الدفاع السلبي.
ومن أسف أن السيدة ليلى شهيد مندوبة فلسطين لدى الاتحاد الأوروبي والسيد إلياس صنبر مراقب فلسطين لدى اليونسكو، وهما مثقفان لامعان، لا يظهران بشكل لافت إلا في الإعلام الفرنسي. كما أن السيد عفيف صافية الذي يتقن اللسانين الإنكليزي والفرنسي، والذي يتميز بالمهارة في الاستدلال وبسعة الثقافة التي تتيح له الاستشهاد بما يسمح به المقام من اقتباسات أدبية أو شواهد تاريخية، قد قل ظهوره في الإعلام الغربي منذ أن غادر لندن، ثم واشنطن، ليصبح ممثلا لفلسطين في موسكو. كما أننا لم نعد نرى أو نسمع السيد مايكل طرزي خريج جامعة هارفارد الذي كان مستشارا قانونيا للسلطة الفلسطينية، والذي مثل الموقف الفلسطيني تمثيلا جيدا لمدة عامين أو ثلاثة على قنوات التلفزيون العالمية مثل ‘بي بي سي’، و’سي ان ان’ و’سكاي’.
أما من نسمعهم ونراهم الآن من المتحدثين الفلسطينيين فإنهم جميعا، إلا استثناء أو اثنين، لا يسجلون أهدافا إعلامية إلا ضد مرماهم. يسيئون إلى القضية وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا لاعتقادهم، على ما يبدو، بأن الأداء الإعلامي ما هو إلا مسألة ‘صدق في القول’! (ويا ليت ذلك كان صحيحا، إذن لأصبح الأداء السياسي مجرد مسألة ‘إخلاص في العمل’!) يسيئون إلى القضية ويرسخون لدى العالم صورة العربي الذي لا يحسن الخطاب لأنه لا يحسن التفكير. هذا بينما ينصّب الشعب الأمريكي رئيسا مثقفا متميزا بحُسن البيان، وبينما يستعد شعب إسرائيل لاحتمال اختيار رئيس وزراء أمريكي اللكنة معروف بحضور البديهة وذرابة اللسان.