المقاهي: بنية خبرات زمانية
رشيد لمهوي
لا نذهب بعقولنا ومخيلتنا بعيدا؛ فالكلّ لا الجزئي يتشظّى بنفسه من حولنا فلنكفَّ عن الابتعاد ولو لمرة واحدة ونستمع لنبض القريب والمجاور لأجسادنا ولعيوننا. فالمجاور يدلّ ويرمز بينما البعيد يخذل ويتملص. فلنرح العقول من البحث عن الحقيقة فيما هو متجاوز تخوم أنظارنا ومنفلت من حواسنا. الحقيقي هو ما يسكن في الجوار والداني منا والمألوف لدينا. في الجوار تتوالد آليات المعاني وتتكاثر؛ معاني تتناسل بعضها البعض في شكل لا متناه. الجوار المسكون بإيقاعات أنفاس الناس المشدودة وآثار تفاصيل ذكرياتهم ومماراساتهم اليومية. الجوار هو الحياة اليومية بعمقها الثري بمشاهدها المتواصلة كخيط ناظم يتمفصل في أبعاده شريط حياتهم المسكون تارة بالشقاء والبؤس وتارة ثانية بالسعادة والمسرات. ليست الحياة اليومية كما يروج في أذهان البعض منبع التفاهة واللامعنى، بالعكس هي مصدر أساسي يتوالد في حضنه المعنى وما يستحق لفظة الحقيقي. يقول المفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي على أن “التاريخ نفسه لم يعد أساسا تاريخ أمم وحضارات، وفنون وعلوم، وإنما انحلّ إلى تواريخ “جزئية” تشتغل بـ”التوافه” والبسائط وغدا تاريخا للموت والمرض والنقود والرياضة والملبس، بل تاريخا للعربة والحصان…”1
لقد سبق لرولان بارت كما يؤكد عبد السلام بنعبد العالي أن كتب ذات مرة أنّ” اللامعنى هو مكان الدلالة الحق”، إن توليد المعاني في المجتمعات يمكن رصده من خلال تحليل آليات الإشهار ومباريات الرياضة وخطاب الموضة ودليل السياحة ولعب الأطفال ومواد الغسيل ومائدة الطعام، وبكلمة واحدة من خلال سيميولوجيا الحياة اليومية.”2
لماذا آثرت هذا الكلام. لأنه يتبين لي أن مضمونه يعبر عن أشياء منحناها لامبالاة وعدم اهتمام مبالغا فيه. وما الإنسان في نهاية المطاف إلا ذلك الذي تنتعش قواه الجسدية والذهنية في مسار اليومي ومطباته ومفاجئاته وفوريته التي تتلاشى في حاضر ما ينفك يمضي ويتبخر. إن اليومي سكن الوجود الإنساني بامتياز. وتدبير الكائن لحياته إزاء العالم تتمظهر في الكيفية التي وفقها ينشئ كينونته في اليومي ويصقلها. الحقيقة التي لا مفر من مواجهتها الآن هي أن الحياة اليومية وجه معبر عن نزوعات ونمط وأسلوب حياة الفرد في العالم.
من بين الظواهر التي تفرض نفسها بإلحاح في مشهدنا اليومي وتستدعي تلقائيا النظر في ماهيتها وغائيتها وشروط وجودها هي ظاهرة المقاهي التي باتت اليوم تؤثث فضاءاتنا وأمكنتنا العمومية. أتساءل ما المقهى؟
الفرضية التي أروم تقديمها هاهنا وهي أن المقهى تجربة زمانية. يجدر بنا القول إنّ فضاء المقهى خبرة زمانية للفرد؛ فيها يتواطأ مع الزمان ويتحالف في أشكال من الطقوس المرصودة في أصلها نحو ممارسة نوع من اللعب إذا جاز التعبير مع الزمان؛ أو شكل من المماهاة مع طيفه الذي يرمي بأجنحته على المقهى وبظلاله غير المرئية. تكمن تجربة الزمان بالأساس في الفعل الذي يسلكه الفرد أثناء ممارسته المنذورة لتفريغ الزمان من زمانيته؛ بمعنى جعل الزمان يستعجل نفسه مهرولا في خضمّ فورية تكفّ من تلقاء ذاتها عن الرسوّ التوقف. هي بنية مغلفة بقصدية تواطئية يرسيها الفرد مع ذاته لاستدعاء الزمان وإفراغه من محتوياته وجعله في مواجهة العراء والعري الذي يستنزفه من يديه إلى أخمص قدميه. إنها والحق يقال عملية عسكرية حربية ترصد لها خطط واستراتيجيات تقوم على استدعائه ونزع ما يتضمنه من مصادر إكراهية طالما تصدّت بشراستها لأفق الفرد وممكناته. إن الفرد هنا إزاء حالة خالصة يسكنها الصراع والتحدي. لأن الزمان في جوهره ليس فريسة سهلة وقابلة للصيد السهل. إن استعجال الزمان وإجباره على المجيء يتمظهر في ممارسات الفرد بمقهاه حيث يغدو اللعب عملية تكتيكية لمواجهته. فلعبة السودوكو أو الكلمات المتقاطعة أو الكلمات المسهمة هي بمثابة تواطؤ ضمني مغلف ببنية يهيمن عليها منطق الاختزال والإبادة وإراقة الدماء. تواطؤ تساهم فيه قوى برانية تجعل من صفحات هذه الألعاب سوقا مفتوحة تستغل نوايا الأفراد في امتصاص مفعول الزمان ؛ صفحات تستنسخ الواحدة تلو الأخرى بسرعة لا تكلّ. الاستنساخ يخرج عن قصده في امتصاص الزمان إلى استنساخ الزمان. هو عودته في قالب المماثل ولكن في لبه ينخره التلف والاستحالة. ونجد على أن مضمون تلك الألعاب تساهم بدورها في استدعاء الزمان لفترة مديدة، بمعنى ما من المعاني، انه كلما كانت أكثر صعوبة وتمتنع عن الحل يكون حينها الزمان ممتدا في قدومه. قد تأسر الفرد ولن يجد بالتالي القدرة على الانفلات من متاهاتها. حيث تغدو قدرة الفرد في هذه الحالة على التيه غير واردة، وحدوث الانفصال عن استفزازاتها وإثارتها غير ممكن. في لحظات الاستدعاء المتوالية يحضر الزمان ويفيض. في هذا الفيض العارم يجبر الفرد على العطاء والعمل على إيجاد صيغ ابتكارية وبنزعة ماكرة في امتصاصه والحد من كثرة استرساله؛ امتصاص متاخم للقتل؛ هي جريمة كاملة مع سبق إصرار وترصد.. هي إبادة جماعية للزمان/للوقت، الزمان الذي يمارس فعلا إكراهيا ضد الكائن الذي بدوره لم يستسلم هكذا إلى هذا الهيجان المجنون. وهو ما يجد ترجمته المتعينة في ممارسات وخطابات الأفراد الذين لا يترددون في ترداد عبارة”لنعمل على قتل الوقت” .
هناك قنوات متعددة الأوجه يعمل الزمان على اختراقها ليجد تصريفاته وينزع عنه حمولاته الثقيلة. بعد ما كان الزمان خبرة فردية في مضامين اللعب المتعددة الألوان والضروب، هاهو الآن يتقمص دوره في تجربة الكلام.
أربعة كراسي وحيدة تتوسطها طاولة على سطحها النقي اللامع توجد منفضة سجائر موضوعة بعناية فائقة وبلمسة فنية عالية وساحرة. النادل يعدو من ركن إلى آخر، من الأعلى إلى الأسفل، بخفته المعهودة يتفحص أحوال الطاولات للتأكد من هل الوسخ اجتاحها أم حافظت على نقائها الناصع. يجول النادل بابتسامة عريضة حاملا الطلبات بخفة ورشاقة، خفة تصل في أحايين كثيرة إلى إبداء ألعاب تميل إلى البهلوانية، كيفية حمله لصينيته وجعلها تلتف على نفسها في شكل دائري فوق سبابته. على يمين الكراسي ينتصب تلفاز من نوع البلازما تتدفق من ينابيعه مختلف الصور وكتلة من الأخبار المستعجلة. تلك الكراسي هي وجود الزمان بالقوة . الكرسي هو القابلية المتاحة والمفتوحة لحضور الزمان. وجلوس الفرد عليها هو وجود الزمان بالفعل. فالكراسي لوحدها لا تغيب عنها الزمانية ولكنها هي جاهزية الزمانية. إذن امتلاء تلك الكراسي الأربعة هو حضور الزمان الممتلئ. في جلسة حميمية يعلن الكلام عن نفسه و يتوالد. هنا الزمان يمتطي حصان الكلام ويمضي؛ كلام يسترسل ذاته ويتناسخ عبر ثنايا وأمواج متلاطمة. وبين الرشفة وأخرى يحل الكلام ونسيان الكلام. الزمان ينفق ذاته في كلام مهدور. مستسلما لإنفاق مقصود. ولا يستنزف الزمان ذاته في صيرورة الكلام فحسب، بل يتعداه إلى النظرة؛ فيها يتمدد ويطول متباهيا بنفسه. في النظرة يرتبك الزمان ويتيه ولا يعرف من أين ابتدأ وأين سينتهي. النظر جوهر المقهى ولبها الوجودي؛ في عمقها يبني الأفراد مساراتهم وفي فجواتها وبين نتوءاتها المخفية يتصرفون، وفي ضبابيتها غير المرئية يتجادلون. هناك قاعدة للنظر أو النظرة. على هذا الأساس تحاول مجمل المقاهي بناء جدار زجاجي من مميزاته الأصلية والأصلانية هو حجب الرؤية ليس في وجه من يتواجدون في الداخل ولكن في وجه من يتواجدون في الخارج، على هؤلاء المارة الذين ينسحبون تباعا كتيار جارف. وقد فطنت شركات عالمية كبرى لهذه المسألة؛ التي ستجني من ورائها أرباحا طائلة وهي صنع زجاج فومي “مبخر” الذي يكشف الآخرين ويحجب الناظرين . لعبة الخفاء والتجلي هي المضمون الذي يسطو على طبيعة هذا الصنف من الزجاج.
قلنا أن الجلوس بالمقاهي هي تجربة زمانية. جلوس يكرس للزمان الميت وللثقالة والعطب. لماذا؟ لأنه جلوس يثمن للسكون والثبات، الكائن يبحث عن ما يحفظ ويثبت وليس عن ما يتحرك ويندفع. هنا يغزو الزمان الراكد. فعملية الترحال بين أروقة المقاهي لا يتغيى البحث عن مصادر القوة والتجدد في مظاهر الحياة بقدر ما هو بحث يتأسس على القبض على ما هو ثابت وراسخ وجاهز. والكرسي من طبيعته المتأصلة فيه هو جاهزيته المنقادة والسلسة. حيث بروز شعار مرصوص بالبند العريض”كرسي جاهز في متناول الجميع”؛ كرسي يقدم كرم حاتم، كرسي خشبي يلصق أظافره بالوافد الجديد وضيفه المحبوب. أما الرحل على العكس من ذلك فهم يرتحلون ليس بنية البحث عن الاستقرار والركود، بل عن ما يعطي للحياة وثبة ودفعة حيوية تخول لهم القدرة على البقاء. نحن الآن بين نقيضين يسبحان في تيارات متضاربة. تيار يرتحل بين مقاهي ينكشف فيها الخلود الدائم في حضن الكرسي المخملي، وتيار يرتحل عبر الصحراء من أجل خلق متجدد ودؤوب.
اتخذت المقهى في الوجود الإنساني المعاصر سمة المنزل. ومن خصائص المنزل الجوهرية هو عمله المتخصص في امتصاص التيه الذي يتجذر في الكائن الإنساني بحيث أن المنزل هو التجلي الملموس للعود الجبري. على هذا الأساس يكون وجود الكائن الإنساني مرتهن في يد المقهى التي يختفي عنها لحظات ويعود من ثمة أدراجه إليها مغمض العينين وبوعي معطل. علما أن المنزل هو ما يجعل الحركة رسوا والترحال استقرارا. بناء على ذلك، فالمقهى صارت في زمننا الراهن أكثر ألفة وأكثر عددا. ونجد على أن الكائن لم يعد بإمكانه أن يدبر حياته اليومية و يضع مشروعاته المستقبلية ويعقد قراناته ويؤسس صداقاته ويخطط لطموحاته ويعلن تمرداته ويفصح عن ميولاته ويزكي انتماءاته إلا في المقهى التي غدت منزلا مضاعفا. بالمقهى توضع أحلام وتولد أفكار وتنشئ تنظيمات وتيارات وتتخذ زمام مبادرات وقرارات وتنفصم عرى علاقات.
يمكن القول إن الكائن اليوم هو كائن يميل إلى الجلوس جدا أكثر من ميله إلى المشي والحركة. لكن يبدو لي أننا الآن بصدد مفارقة صارخة ترمي بظلالها على المشهد الحياتي اليومي بقوة ضاغطة. وهي في الوقت الذي نعاين فيه الانتشار الزاحف والكاسح للمقاهي تصنع بانتشارها هذا أفرادا ميالين إلى الجلوس، نجد في الواجهة المقابلة حياة مشمولة بمنطق السرعة. السرعة نبض الحياة و المفصل الذي تتقاطع فيه إرادات وحيوات الأفراد. السرعة لغة العصر المسكوكة في الأذهان والأبدان والسلوكيات. لقد اخترقت أغلب المجالات وانسلت إلى تطلعات الأفراد وأحلامهم. ويظهر لنا جليا على أن الفرد لم يعد له النفس الطويل في تسلق السلم الاجتماعي درجة درجة، خطوة بخطوة، بل يسعى إلى أن تتحقق طموحاته وأمانيه بسرعة وبأي منوال مقصيا مبادئه ملوحا بها في سلة المهملات، تاركا إرادته مشدودة بكاملها لإيقاع السرعة. فمشاهد السياقة هي حالة مجهرية لواقع السرعة الذي يدب في عروق حياتنا المعاصرة. في كنف هذا الواقع السريع يسكن الثبات والاستقرار فيما تقدمه المدينة بمقاهيها من إمكانات الجلوس . اليوم غدا الجلوس بمثابة ضريبة على الفرد أن يدفع ثمنها. ليست رغبتي في تمييع الكوجيطو الديكارتي إن تجرأت على القول أن الصيغة التي أضحت تفرض نفسها هي “أنا أجلس، إذن، أنا موجود”، فموجودية الفرد هو قدرته اللامتناهية على الجلوس. الفرد محاصر بنبتة المقاهي التي تنتشر في أمكنة المدينة شبيهة بنبتة الجذمور في انتشارها الأفقي الكاسح. وهي منذورة إلى عدم التوقف طالما أن فائض الزمان ساري المفعول. لاشيء يردعها ويعيدها إلى رشدها، ويلزمها بضبط النفس و الكف عن التناسل غير المشروع . حقيقة من سخريات الوجود هي التي تدفعني للتساؤل ترى من أي رحم خرجت علينا هذه المواليد دفعة واحدة؟
لا يجب التنكر لهذا الواقع الذي ما ينفك يفصح عن حقائق و غرائب الأشياء. ماذا عساه الواقع أن يكون سوى أنه مسكون باللاواقع والغرابة وطفرات ومفاجآت تتبادل المواقع وتتناضد؛ من واقع إلى لاواقع إلى فوق-واقعي إلى اصطناعي،هي مفاهيم باتت تخترق وجودنا وتستفزنا بمعطياتها وبمعانيها ودلالاتها المخبوءة. لا يجب التنكر إلى واقع المقهى التي هيمنت بطبيعة الحال على وجود الفرد المعاصر بكامله وتجذرت كضرورة، ومجرد النية في الانقطاع أو التملص من هذه الضرورة يضحى مستحيلا. ولنفترض جدلا على أنه حتى ولو كانت ثمة عملية حسم في اتخاذ المبادرة فإنك ستجد نفسك أمام أسطول ضخم من المقاهي التي تفاجئك في كل خطوة تخطوها. إن لم تجتاحك الرغبة في الجلوس في مقهى معينة ستلفي ذاتك عرضة وفريسة مباشرة للمقهى الموالية وهكذا دواليك. لن تنفلت من هيمنتها الشمولية لسبب بسيط وهي أنها اقتحمت باب المشروطية والضرورة .
المقاهي هي الصيغة التي يتبدى من خلالها مفهوم الزمان وينكشف. ليس الزمان بمفهومه النيوتوني أو الإنشتايني، بل هو زمان الكائن الذي يتدبره ويكيفه على سطح اليومي. لا نبحث عن الزمان في معانيه من مرجعيات نظرية، بل في كينونات تنقش آثار أقدامها على رمال المقاهي. هذه الأخيرة بمثابة المعقل الأصلي لبروز اليومي في تجلياته المتنوعة؛ هي إخبار معلن عن علاقة الكينونة بالزمان. لا نبتعد بتحليلاتنا بعيدا إلى الأقاصي مهملين هذا المعقل الذي يشكل بالنسبة إلينا الرسالة المسروقة اللاكانية الذي لم تنتبه إليه حواسنا اليقظة
الهوامش:
1-عبد السلام بنعبد العالي ثقافة الأذن وثقافة العين. دار توبقال للنشر،الطبعة التانية 2008 صفحة 83.
2- نفسه ص 84.
موقع الآوان