كارلوس لاتوف الذي حرر رسومه من الملكية الفكرية دعماً لغزة
رشا الاطرش
الأممي الحالم والتفرعات الداخلية للقضية المناصَرة
ليست المرة الأولى التي تتداول فيها رسائل البريد الإلكتروني دعوة رسام الكاريكاتور البرازيلي، كارلوس لاتوف، إلى الاستفادة من رسومه السياسية التي رفع عنها الملكية الفكرية لتكون في متناول كل من يريد استخدامها، وكيفما أراد: في موقع على الإنترنت، أو في تظاهرة، على قمصان أو لافتة، أو حتى على صفحات أي جريدة حول العالم. وذلك، كما يقول، للفت أنظار العالم أجمع إلى غزة »التي تعيش أوضاعاً مفزعة ولا إنسانية« بسبب العدوان الإسرائيلي عليها.
زار لاتوف فلسطين للمرة الأولى في العام ،١٩٩٩ بدعوة من »المركز الفلسطيني للسلام والديموقراطية«. وعلى مدى ١٥ يوماً، تنقل اليساري بين رام الله ونابلس والخليل، ولم تعد الكوفية تفارق عنقه، كأنه ولد بها. هناك تعرّف إلى إدريس الذي شُوّهت طفلته بمولوتوف المستوطنين الإسرائيليين. وصارت فلسطين، بل المنطقة بأسرها، في صلب اهتماماته المتمحورة أصلاً حول العدالة الاجتماعية والقضايا التحررية في كل مكان وزمان. لكن انغماسه في الكاريكاتور السياسي عموماً بدأ قبل ذلك بسنوات، أي منذ شاهد فيلماً وثائقياً عن ثورة زاباتيستا في المكسيك.
يساري حتى النخاع لاتوف. ملتزم حدّ الجذرية. رومانسي كما اليساريون الأوائل. مساعيه المتكررة إلى تعميم أو دمقرطة رسوماته، من أجل القضية، أي قضية محقة، تساهم في تكوينه كصورة حية عن الحالم/المناضل الأيقونة. لعله قيمة في ذاته، بهذا المعنى وغيره. وذلك ما قد يعجّل في استدعاء جدليته. لا سيما مع توسّع البيكار إلى »اليسار الجديد« و»الماركسية الجديدة«. ومع إعادة تركيب مفاهيم العدالة الاجتماعية والديموقراطية، في الأدبيات والفلسفة المعاصرة، بعد الاستفادة من تجارب وتاريخ اليسار.
العدالة المبدئية والبراءة المفرطة
رسم لاتوف (من وحي الأزمة المالية العالمية) كتاب »رأس المال« يسقط على رأس »أنكل سام« فيسحقه، والشرطي اليوناني يطلق النار على متظاهر شاب، و»الانفصاليين البوليفيين المدعومين من وكالة الاستخبارات الأميركية«، وملفات الديكتاتورية البرازيلية تنزف دماً في الأدراج محكمة الإغلاق وإن تسربت منها صيحات باسم العدالة.. مفهوم.
ورسم أيضاً جندياً سويدياً في أفغانستان وقد علِق في لحية مقاتل طالباني كما تعلق الفريسة بين مجسّات أخطبوط، ومقاتلاً ملتحياً من »حماس« يحمل البندقية بيد ويكوّر الأخرى في قبضة ـ أراد تصويرها مجيدة وعارية ـ ستلكم عدوّها في اللحظة التالية، و»الرفيق« منتظر الزيدي على هيئة »رامبو« في أفلامه القتالية لكنه يحمل حذاء عملاقاً بدل الرشاش، وصاروخاً مذيّلاً بالعلم العراقي ينطلق، ليأخذ من الخلف جندياً أميركياً يشعل بدوره الألعاب النارية بمناسبة الرابع من تموز (عيد الاستقلال الأميركي)…
ثم بالكلام: قال لاتوف في إحدى المقابلات الصحافية إن الحرب التي يناهضها على العراق ليست سوى »النزاع على النفط الذي تستفيد منه إسرائيل«. وعن حرب تموز إن »أطنان القذائف استهدفت اللبنانيين، وواجه حزب الله ضغوطاً من العالم أجمع، لكنهم (الإسرائيليين) لم يتمكنوا من إخضاع المقاومة«.
وبمناسبة إعادة لاتوف توزيع أعماله الفنية على الإنترنت، محررة من الملكية الفكرية، بالتزامن مع إدراج رسوماته في بعض النشاطات الثقافية اللبنانية المتضامنة مع غزة، يضبط المرء نفسه معيداً التفكير في لبّ مثل هذه المواقف. الحماسة للقضايا التي لا شك في عدالتها المبدئية والعضوية، فيما نصرتها من على مسافة، قد تبسّطها وتضفي عليها شيئاً من البراءة المفرطة. إذ قد يقفز هذا النوع من التأييد الخارجي المؤدلج، من فوق تعقيداتها الداخلية ضمن سيناريوهاتها المختلفة (العراق الغارق في صراعاته الطائفية، والطالع من نير ديكتاتورية صدام حسين طوال عقود، ليرزح تحت وطأة الاحتلال الأميركي. فلسطين المكوية، كما بنيران العدو الإسرائيلي، كذلك بانقسامات قياداتها، والصراعات على السلطة وأسلمة قضيتها. أفغانستان التي عادت بها الطالبانية قروناً إلى الوراء، قبل أن تدمرها »الحرب الأميركية على الإرهاب«. لبنان الذي ينخر دولته وسلمه الأهلي المشتهى احتراب أبنائه على دوره ضمن محيطه، وعلى موقع السلاح في التوازنات السياسية المحلية، ولو كان هذا السلاح يحارب إسرائيل، الخ..).
مفرحون هؤلاء الأمميون المعاصرون، مثل لاتوف، وصادقون. منعش بقاء شيء من »الخير اليساري المطلق« على قيد الحياة. ما زالت هناك جمالية للغيرية، للاكتراث للمعاناة الإنسانية، أينما كانت، إذ يصبح أي قمع في ذاته قضية جامعة. لكن ألا يحتم نفسه السؤال عن الفرق بين مناصرة القضية ومناصرة أطراف فيها؟ وهل تتسع الديموقراطية، في صدور هؤلاء الذين هم »معنا«، لرؤية انتهاكاتنا نحن لها، من قلبها؟ وهل تسمح المسافة التي تفصل بين المثقف الأممي المناصِر والشعب المناصَر بأن يسأل الأول الثاني: كيف حالك فعلاً؟ وماذا تريد فعلاً؟ وأي ثمن تستطيع دفعه، أو توافق على دفعه فعلاً؟ وهل تخطر في البال فكرة أن احتجاب مثل هذه الأسئلة قد يضر بالقضية نفسها؟… هذا إذا استبعدنا إشكالية القول إنه ما دام هناك احتلال وظلم فلا مكان للبحث في تقدّم المجتمع على صعيد الأفكار والحريات والتعليم والاقتصاد والصحة والفئات المهمشة تقليدياً.. وإذا نحّينا جانباً أننا، في هذه البقعة من العالم، نورث الأزمات للأجيال المتوالية، في حين أن ثمة من يرى الخطرين الداخلي والخارجي متصلين بدائرة مفرغة.
الأسئلة الخافية
يكتب إيدي بورتنوي (صحيفة »فوروارد« الأسبوعية، اليهودية ـ الأميركية، يسارية الهوى) مراجعة لكتاب جويل كوتيك »الكاريكاتور والتطرف: إسرائيل واليهود في الإعلام العربي والغربي«. يصفه بأنه »غاليري محمول لأكثر الرسومات الكاريكاتورية المقززة في معاداتها للسامية، بدءاً من الأصول الدينية في العصور الوسطى، إلى ألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي، وصولاً إلى الرسوم المناهضة لإسرائيل والمعادية للسامية في الصحافة الغربية والعربية والإيرانية المعاصرة«. المهم أن بورتنوي يتوقف عند استحضار الكتاب لكارلوس لاتوف باعتباره »درومونت المعاصر على الإنترنت«. وإدوارد درومونت هو مؤسس »رابطة المعادين للسامية« الفرنسية، وناشر مجلة »الكلمة الحرة« التي نشرت العديد من رسوم الكاريكاتور الكلاسيكية في معاداتها للسامية خلال مرحلة »قضية داريفوس« التي انقسمت حولها فرنسا أواخر القرن التاسع عشر.
وإذ يعتبر بورتنوي أن »لاتوف يجيد البروباغاندا لمصلحة الفلسطينيين، ورسوماته تزعج كل من يدعم إسرائيل، ولو لفظياً«، فإنه يرى أن هذا بالضبط ما يغيظ كوتيك، إذ »ينجح لاتوف في تلافي ما يقع فيه معظم الرسامين العرب، أي تصوير اليهود على طريقة الكليشيه الأوروبي المندثر، فيجعلون لهم أنوفاً ضخمة وظهوراً محدودبة، ويهاجمون اليهود كشعب«. »لكن فلنكن واضحين«، يكتب بورتنوي، »إن لاتوف يتوجه برسومه إلى دولة إسرائيل، قادة وجيشاً. ولا يصنّف أي من رسومه الشعب اليهودي كجماعة، وهذا هو الشرط الضروري والمفتقد في اتهام لاتوف (من قبل كوتيك) بمعاداة السامية«. وهنا، يأخذ بورتنوي على كوتيك أنه لا يتطرق إلى السياق السياسي والتاريخي السائد في الدول التي تخرج منها رسوم الكاريكاتور التي جمعها في كتابه، وأنه لا يطرح أسئلة من نوع: لماذا؟ وكيف؟.. وبحسب بورتنوي، فإن كوتيك »يتجاهل المنظومة الديكتاتورية المسيطرة على بلدان المنشأ، حيث تسود البروباغاندا، وتساهم الرقابة المتعاظمة في تنامي نظريات المؤامرة«. ويعتبر أن الحل، في ما يخص الثقافة عموماً، ورسوم الكاريكاتور خصوصاً، لا يكون إلا بالحوار بين صانعيها.
وإذا كان بورتنوي محقاً تماماً في دفاعه الموضوعي عن لاتوف، فلعله من المجدي طرح الأسئلة الناقصة في كتاب كوتيك على لاتوف نفسه: هل يخفى عليه ما خفي على من يتهمه بمعاداة السامية؟ أو لنصُغ سؤالاً أصوب: إلى أي مدى هي مجدية، للقضايا التي يتحمس لها لاتوف ورفاقه في العالم، المناصَرة التي لا تأخذ في الحسبان التناقضات الضمنية، والمؤثرة هي أيضاً في تحديد مصائر وحيوات الشعوب المعنية، لمجرد أن العدو هو دائماً العدو (إسرائيل، السياسة الأميركية، الرأسمالية، الامبريالية، الخ..).
أي هولوكوست؟
يستحضر لاتوف المحرقة النازية في العديد من رسوماته ليقول إن المضطهَد (بفتح الهاء) قد يتحول إلى مضطهِد (بكسر الهاء). يريد أن يلفت انتباه اليهود، في إسرائيل وخارجها، إلى معاناة الفلسطينيين، من خلال تحريك ذاكرتهم وتراث آلامهم. وللتأكيد على منطلَقه هذا، يستعيد لاتوف، في مقابلة أجراها معه بورتنوي نفسه، كلام يوسف لابيد (وزير عدل إسرائيلي سابق وناج من الهولوكوست). إذ صرّح الأخير ذات مرة أنه عندما رأى صورة لامرأة فلسطينية تنبش الردم بحثاً عن عائلتها، تذكّر جدته التي قضت في معتقل أوشفيتز النازي.
يسأله بورتنوي عن مشاركته في »المسابقة الإيرانية لرسوم الكاريكاتور حول الهولوكوست«، والتي »تضمنت رسوم بعض المشاركين فيها دلالات معادية للسامية« (خصوصاً بعد تصريح الرئيس الإيراني الذي أنكر فيه المحرقة): فهل يشعر أن رسومه ستقترن بالتالي بما شاب زملاءه المشاركين، ولو أنه مختلف عنهم؟ يجيب لاتوف: »إن الرسم الذي شاركتُ به، وحاز المركز الثاني في المسابقة، يصوّر رجلاً فلسطينياً مسناً بلباس المعتقلات النازية.. ويقول البعض إني أنكر الهولوكوست! هذا سخيف. فأنا، على العكس، أؤكدها. وقد اعتبرت أن هذه المسابقة تشكل مناسبة جيدة لإظهار المعاناة الفلسطينية أمام الرأي العام العالمي، بالإضافة إلى طرح الأسئلة عن ازدواجية المعايير في الغرب. أعني أنهم يهينون المسلمين بالكاريكاتور (الدنماركي) الذي يظهر النبي محمد كقاذف للقنابل، تحت شعار حرية التعبير، أما الرسومات عن الهولوكوست، فهي كراهية لليهود«.
هكذا، يكون لاتوف قد صادق على التباسين، ولو عن غير قصد: أولاً، عدم الفرز بين العنصرية التي اتسمت بها الرسوم الدنماركية (والعنصرية محرّم سياسي ـ أخلاقي في الغرب كان استخدامه ليثبت نجاعة أجدى في حركة الشجب)، وبين رد الفعل ذي السمة الدينية المحافظة، ما يساهم بخلط الأوراق التقدمية والرجعية. ثانياً، اعتبار المسابقة الإيرانية رداً طبيعياً على الرسوم الدنماركية، والتغاضي عن خلفية التشكيك بالمحرقة النازية، ما يعتّم على فكرة لاتوف حول استخدام المحرقة نفسها لإظهار معاناة الفلسطينيين.
ويبرم الكلام ليعود إلى مسألة مركزية: لمن يتوجه مناصرونا الآتون من بعيد؟ لاتوف، ومثله عدد من المفكرين والكتّاب والمثقفين الغربيين؟ للرأي العام المحيط بهم (الولايات المتحدة، أوروبا، أميركا اللاتينية،..)؟ إذا لم ينجحوا في التبشير بين غير المؤمنين سلفاً بقضايانا في هذا المحيط، فما المغزى؟ أم أنهم يتوجهون لنا، لشد أزرنا في الداخل، بغض النظر عن ماهية القوى التي تستخدم خطابهم، وكيف يُستخدم؟
ربما لا تكون العاطفة الأممية اللطيفة كافية للقول إننا نساهم، قدر المستطاع، في الدفع قدماً بمطلب محق، وبالشعوب المرتبط مآلهم بالقضية ـ الصراع. ألم يكن ذلك، في الأصل، لبّ أي حركة تحررية، رومانسية كانت أم لم تكن؟
ربما يكون مفيداً طرح الأسئلة نفسها على أنصار »لا صوت يعلو فوق صوت المعركة« من أبناء جلدة القضية أيضاً…
÷ كارلوس لاتوف رسام كاريكاتور سياسي، يساري، برازيلي.
ولد في ريو دي جانيرو العام .١٩٦٨
له سلسلة شهيرة بعنوان »كلنا فلسطيني«، والتي تضع عبارة »أنا فلسطيني« على ألسنة المقموعين في أماكن وأزمان مختلفة: اليهود في غيتوهات وارسو، السود في جنوب إفريقيا، السود والهنود الحمر في أميركا. بالإضافة إلى سلسلة »الغفران«، التي تظهر مشاهد مصالحات بين اليهود والفلسطينيين. بالإضافة إلى رسم شهير بعنوان »بما أنه لم تعد هناك مستوطنات إسرائيلية، غزة الآن منطقة حرة لإطلاق النار!«.
كما أنجز العديد من الرسومات خلال حرب تموز، وربطها أحياناً بالحرب على غزة (العام ٢٠٠٦)، منها »العقاب الشامل«، و»حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها«، و»لبنان يحــترق«، و»أهلاً وسهلاً في لبنان«. بالإضــافة إلى العديد من الرسومات التي تناهض الولايات المتحدة، كقوة امبريالية ورأسمالية متوحشة، والآن تستعمر العراق.