الردع غير النصر

محمد ابرهيم

اثناء الحرب الباردة كان مفهوم الردع يقوم على نظرية “الدمار المتبادل الأكيد” (MAD) التي تعني انه لدى كل طرف القدرة على ايقاع الحد الاقصى من الخسائر بخصمه، دون ان يملك القدرة على منع خصمه من ان يوقع به ما اوقع به هو.

حتى المبادرة الى اطلاق الحرب الشاملة لم تكن كافية لتجنب مثل هذا المصير لأن الطرفين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي) كانا يضمنان دائما وجود قدرة احتياطية قادرة على تدمير الخصم بعد تلقي الضربة الاولى.

هذا الوضع الذي كان يُسمى “الرعب المتبادل”، ضَمِنَ السلام العالمي لأكثر من أربعة عقود، لا بل انه شكل الاساس لاتفاقات خفض الاسلحة الاستراتيجية بين موسكو وواشنطن، على اساس ان كلاّ منهما يملك ما يفيض عن المطلوب لتدمير الخصم “عدة مرات“.

وهذا التوازن هو الذي هدده في السنوات الاخيرة للاتحاد السوفياتي سعي الرئيس الاميركي رونالد ريغان، بالاستناد الى الامكانات التكنولوجية الجديدة التي يدعمها الازدهار الاقتصادي، الى تغيير معادلة “الدمار المتبادل” بالقدرة على اعتراض صواريخ الخصم قبل دخولها المجال الجوي الاميركي، وبالتالي جعل المعادلة في اتجاه واحد: تجنب التدمير مع الاستمرار في القدرة على تدمير الخصم.

قد تبدو هذه “المقدمة” غير ملائمة اذا ما انطلقنا منها لتناول موضوع “التوازن” بين اسرائيل والمحور الايراني – السوري وامتداديه اللبناني والفلسطيني. وعدم الملائمة الظاهرة مصدره اختلاف الاحجام: أحجام الاسلحة واحجام القوى التي تحملها، فايران لم تصل بعد الى القدرة النووية ولذلك يصعب الكلام عن امتلاكها سلاحاً قادراً على اقامة معادلة “الدمار المتبادل“.

لكن رغم ذلك يمكن استعمال “اجزاء” من النظرية التي تناولناها لوصف الحالة الراهنة للمواجهة بين المحور المذكور واسرائيل.

فالمحور يملك من القدرات الصاروخية المتنوعة المدى والحجم. ومن الاسلحة الكيميائية التي يمكن تركيبها على هذه الصواريخ ما يجعل قدرته على ايقاع اذى بالغ باسرائيل امراً بات يشكل مادة للسيناريوات “الكارثية” التي تنشرها الصحف الاسرائيلية. ويضاعف من فاعلية اسلحة المحور الحساسية الخاصة للمجتمع الاسرائيلي للخسائر البشرية، وهي حساسية “يتفوق” فيها حتى على حليفه الغربي. لكن ذلك كله لا يعني بالطبع ان المحور بات يملك القدرة على الدخول مع اسرائيل طرفاً في معادلة الدمار الشامل بالمعنى الذي كان سائداً اثناء الحرب الباردة.

في المقابل من المعروف ان طاقة اسرائيل على ايقاع الأذى بخصومها اكبر بكثير، لامتلاكها السلاح النووي وسلاحاً جوياً قادراً على نقل الدمار الى مدن الخصم. يخفف من هذه القدرة الاسرائيلية الاختلاف في الحجم السكاني والجغرافي للطرفين مثلما تخفف منه حساسية دنيا تجاه الخسائر البشرية.

لكن اذا كانت كل مقومات نظرية الردع المتبادل غير متوافرة فان ما هو متواز من عناصرها يسمح بتفسير التردد الذي يصيب طرفي المواجهة هذه الايام في مباشرة مواجهة شاملة. فمستوى الخسائر المتوقع اسرائيلياً وعربياً – ايرانياً مرتفع الى حد يجعل كل طرف يحاذر وضع الطرف الآخر في موقع المواجهة الشاملة الحتمية.

هذه المعادلة يمكن ان يكسرها اقتراب طهران من حيازة السلاح النووي وقرار اسرائيلي منفرد بتوجيه ضربة استباقية، لكن تتجمع المؤشرات الى انه حتى في هذه الحالة يتكون “اتجاه اسرائيلي الى اعتبار السلاح النووي الايراني مسؤولية دولية، اي عملياً التعايش مع ايران نووية، واقتراب نظرية “الدمار المتبادل” من الاكتمال.

لكن حتى في هذه الحالة نكون بعيدين من توقعات انهيار احد الخصمين. فامتلاك القدرة على التدمير يردع الطرفين وليس طرفاً واحداً، وهو كان حتى الان، عالمياً، اساساً لعهود من السلام لا الحرب. كيف يمكن اذاً في ظل الاقتراب من توازن الردع توقع انهيار “النظام الصهيوني” أو ما يقابله؟ لا بد هنا من دخول اعتبارات لا علاقة لها بالسلاح. والمراهنة على تفاعلات داخلية لكن سلمية، تؤدي الى “الانهيار الصهيوني” المرتقب.

اما التحذير المنسوب الى بن غوريون من ان الحرب الاولى التي تخسرها اسرائيل هي حربها الاخيرة فكان صالحاً ولا يزال، لكنه يتناول الحرب الكلاسيكية، لا حرب الصواريخ ولا حرب العصابات، واللحظة الوحيدة التي اقتربت فيها اسرائيل منه كانت في بداية حرب تشرين 1973. عندها قالت غولدا مائير لهنري كيسينجر: “اسرائيل وقعت”… فظهر الاحتياط الاستراتيجي الاميركي قبل ان تتبين هشاشة الاحتياط المصري السياسي والعسكري.

في الحرب الكلاسيكية، ما زال “المحور” في مرحلة تحصيل القدرة على ردع الجيش الاسرائيلي من دخول “ارض الخصم”، والمسافة بعيدة عن التهديد الكلاسيكي للنظام الصهيوني.

لا شك في وجود موجة تفاؤلية، تدعمها استطلاعات الرأي، بالنسبة لمستقبل المنطقة والصراع مع اسرائيل. لكن لا ضمان حتى الان ان هذه الموجة تستند الى وقائع او الى حسابات واقعية.