إسرائيل والمفهوم المطلق للسيادة
صالح بشير
تلك هي حدود الشكوى وذلك هو مداها، لا تثمر أكثر من دعوات إلى وقف العدوان، من قرارات دولية توصي ولا تُلزم، من شجب ومن استنكار، شاملين جارفين ولكنهما لا يجديان، أما الدولة العبرية، فكانت مالكة زمام حربها، فاعلا وحيدا أوحد، لا يأتمر بأي اعتبار من قيم أو من ميزان من قوة، مبادَرةً وتوقيتَ اجتياح، ثم قتالا ليست له من مرجعية غير ذاته، فوقفا لإطلاق النار أحادي الجانب.
إن كانت الدولة العبرية قد أتت في كل ذلك فعلا مطلق السيادة طليقها، فهي قد أوغلت في ذلك إيغالا ينقض منطق السيادة ذاك، كما هو سارٍ في الحياة الدولية ناظم لها، إلى درجة الخروج من العالم وعنه، وبلوغ مرتبة لم تجرؤ عليها، حديثا، غير الإدارة الأميركية المنصرمة، في بعض لحظات جموحها الأقصى والاستثنائي والذي عُدّ من قبيلها غلوّا لا يُطاق ولا يُحتمل.
ذلك أنه إذا ما استوى مبدأ السيادة والإقرار بها لكل دولة عضو في مجموعة الأمم، أو الدول-الأمم، وإن وفق إدراك محض قانوني قد لا ينطبق دوما على واقع، فلم يجر التنكر له إلا لماما واستثناء، فإن شرط سريان ذلك المبدأ ونجاعته، ومبعث اعتماده أساسا للحياة الدولية ولبنة أولى لها أنه يقيم تواشجا بين السيادات، لا ينفي بعضها البعض، فلا تتأكد كل سيادة إلا باعترافها بما عداها، حتى في حالات المواجهات القصوى.
وتلك ليست حال السيادة كما تفهمها الدولة العبرية وكما تبدت، على سبيل المثال المخزي لا الحصر، في حربها الأخيرة على غزة، فكانت اقترافا ذاتي المرجعية بالكامل يخرج بتلك السيادة عن كل تواشج كذلك المشار إليه، خروجا مبرما من العالم ومن تبعات الانخراط فيه، فلا يعبأ بمواقف الدول ولا يقيم اعتبارا لهيئاته التي لاتزال، مهما كان الرأي فيها وحتى إشعار آخر، حيز التداول بين الأمم ومظهر الانخراط في الحياة الدولية.
وهكذا، كان بإمكان إيهود أولمرت، وهو يقدّم قرار دولته وقف إطلاق النار على قطاع غزة أن يدعي بأن القرار ذاك استجابة لإرادة من مجلس الأمن، «أجازتها» الولايات المتحدة بأن أحجمت عن إجهاضها بحق نقضٍ لم تتورع عن استخدامه في ما مضى، ولدعوات كانت أطلقتها الجمعية العامة كمحفل أممي ولمنظمات إقليمية أو لدول، آية اعتراف، لا يكاد يلزمه، بذلك النصاب الدولي، واستعادة انخراط فيه وإن على سبيل الافتعال، ولكن دولته حرصت صارم الحرص على ألا تفعل.
لم يكن هاجسها في ذلك، حصرا وكما قد يتبادر إلى الذهن، حرمان حركة «حماس» من صفة الشريك، لا سبيل إلى التفاهم معه، وإن بالواسطة، حتى حول شأن، محض تقني، أي يمكن التنكر لكل ما قد يلابسه من أبعاد سياسية، إذ إن تاريخ النزاعات، وهو وافٍ وثرّ، لا تعوزه حالات وقف لإطلاق النار، مُتفاوض عليها ومُتفق عليها، بين أطراف متقاتلة، دون أن ترتب اعترافا، تضن به تلك الأطراف عن بعضها البعض إلى أمد قد يطول، على ما يشهد تاريخ النزاع العربي-الإسرائيلي ذاته، ولكن الدولة العبرية إنما أرادت، بوقفها الأحادي الجانب لإطلاق النار، ما هو أكثر من ذلك، وما هو لذلك السبب إياه، أخطر منه وأنكى: مفهوما لـ«السيادة» مطلقا، لا يتغذى إلا من ذاته، يدير الظهر إلى كل قانون أو قيمة، ساري المفعول في الحرب كما في السلم، أو بالأحرى في مجرد وقف العدوان، بل بتدقيق أكثر في مجرد الإقلاع المؤقت عن بعض أوجهه.
والحال أن الدولة العبرية كانت قد احتاطت لذلك سياسيا ومفهوميا وتهيأت له، فهي «تعاملت»، كما يقال بلغة العسكريين، في هذا الصدد العيني، مع «مصادر نيران»، مع «مطلقي صواريخ» كان وصْمُهم بالإرهاب قد نزع عنهم كل صفة سياسية وحشرهم في خانة الإجرام، وهم إلى ذلك ينتمون إلى ما كان قد أُعلن «كيانا معاديا» في ذاته وبكل ما فيه، وهو بذلك غير مُعرّف بما هو كيان، لا يسري عليه أي قانون، لا فارق فيه، تبعا لذلك، بين مقاتل ومدني (وقد قدمت الحرب الأخيرة على ذلك أبلغ التجليات وأبعدها فظاعة)، أو أن «الكيان» ذاك مُعرّف حصرا بحالة العداء.
ليس تناول ذلك الجانب بالأمر النظري ولكنه يرتب تداعيات عملية فادحة بعيدة الغور، أما ما تعلق من تلك التداعيات بالحرب، فقد شهدناه ووقفنا عليه، على النحو الأشنع، أثناء العدوان الأخير على غزة، وأما ما تعلق منه بـ«السلام» أو بـ«التسوية»، ينشدهما مثلا ما يسمى بـ«معسكر الاعتدال» العربي، فإن السؤال يبقى قائما، ممتنع الإجابة ضربا من تربيع الدائرة: كيف السبيل إلى نيلهما من دولة توغل في تبجيل السيادة إلى درجة التنكر للقانون وللأعراف ولمفهوم الاتفاق والاتفاقات نفسه؟
* كاتب تونسي