قضية فلسطين

فـي وهـج غـزة

سليمان تقي الدين
فلسطين مجدداً إلى واجهة الأحداث وصدارة الاهتمام العالمي. لا أحد يستطيع أن يجادل في عدالة قضية الشعب الفلسطيني، لكن المجتمع السياسي الدولي يختلف في وسائل معالجتها. المسألة كانت ولا تزال الغلبة للمصالح ولموازين القوى وليس لمعايير الحقوق والقيم الإنسانية.
في ثلاثة أسابيع دفع الشعب الفلسطيني تضحيات فاقت كل تصور كي يعيد بدمه وأشلاء أطفاله تأكيد وجوده على خارطة السياسة الدولية. كانت تلك معركة مفصلية بكل المقاييس لأن إسرائيل أرادت أن تلغي هذا الوجود هوية وطنية وكياناً مستقلاً. غزة كانت النواة الأكثر صلابة وصفاء وتماسكاَ في معركة الاستقلال، لذا أرادت إسرائيل تفكيكها.
لم يعد من قبيل التخمين والتحليل أن شركاء عرباً ودوليين قد تواطؤوا على محاولة تطويع الشعب الفلسطيني لحلول تصفوية. تخطى الجميع حتى الاعتبارات الإنسانية وهم يتفرجون بدم بارد على مأساة غزة بانتظار أن تنكسر راياتها وتؤدي فعل الطاعة والاستسلام.
لكن غزة صمدت وصبرت وانتصرت على إرادة المحتل ومن سانده وتعاون معه وتخاذل. كانت الجريمة الصهيونية في غزة تكثيفاً مريعاً لمسلسل الجرائم التاريخية ولكافة الممارسات التي استطاع بواسطتها الاحتلال أن يخضع الشعب الفلسطيني طوال
هذه السنوات. لكن حجم الجريمة فاق كل تصور وضاقت به كل محاولات التعمية والصمت وكل مساعي التبرير وكل أشكال التزوير والتلاعب بالقوانين والمعايير المتعلقة بالقانون الدولي وحقوق الإنسان. لقد عادت غزة ومعها كل فلسطين بدمها إلى المشهد السياسي بوصفها الشاهد الأكبر على اختلال القيم وانتهاكات الحقوق والثقافات التمييزية والعنصرية.
حضرت غزة في أربع قمم حضور الشاهد على جريمة العصر. مرة على هامش النزاعات العربية، ومرة على هامش أسعار النفط! لقد استطاع صمود غزة أن يرفع قيمة السهم الفلسطيني في الاهتمام العربي وأعلن إفلاس قوى ومحاور وقيادات، خاصة أولئك الذين لم يمتــلكوا جــرأة المواجهة فغابوا عن محفل القضية ليحــضروا إلى مائدة التعويضات المادية. يتخاذل العرب في »الجهاد« ويكتــفون بدفع »الجزية«. إنهم يعلنون غربتهم عن قضايا واهتمام الأمة وشعوبها.
لم توقف إسرائيل إطلاق النار استجابة لقرار دولي، ولا هي فعلت استجابة لموقف عربي، لقد أوقفت إطلاق النار لأنها استنفدت حقدها وأهدافها الجرمية ولأنها عجزت عن كسر إرادة القتال والصمود عند الطرف الآخر. أمام تضحيات الشعب الفلسطيني وإنجازاته ليس مقبولاً أي تفريط سياسي يعيد الأوضاع إلى ما قبل غزة ومذبحتها باسم شرعية تافهة وقادة مهزومين.
إنها معركة الحرية لغزة والضفة في آن معاً. يجب إخراج قوات الاحتلال نهائياً من غزة بدون قيد أو شرط. يجب أن يسقط الحصار الإسرائيلي والعربي لغزة. يجب أن تنطلق بزخم معركة إجلاء الاحتلال عن الضفة الغربية وهدم الجدار العنصري وإزالة المستوطنات.
يجب أن تعــود القيــادة إلى منظــمة التحــرير كإطار وطني جامع لنضال الشعب الفلسطيني ويتوقف التلاعب واللعب على القضــية بأدوات سلطة بائسة. يجب أن تفتح الشعوب العــربية ملف المحاسبة السياسية عن سلوك أنظمتها خلال العدوان وعن الخيارات التي اتخذتها تلك القيادات بوصفـها تــفريطاً خطيراً بالكرامة الوطنية وبالقضية القومية وتبعية مذلة لمشــروع أميركي ينهب خيرات الأمة ويذلها ويدوس على حقوقهــا وكــرامة شعوبها. يجب أن تنطلق حملة سياسية لتصحيح العلاقات والاتجاهات العربية.
فلا يجوز أن يختبئ التخاذل العربي خلف واجهة »الاعتدال«، والتنكر للقضية القومية خلف واجهة »العروبة« الزائفة ضد شركاء طبيعيين في المنطقة تمهيداً لتقاطع المواقف مع إسرائيل.
هذه لحظة تاريخية من حرارة الوجدان العربي والتضامن الإنساني الدولي من أحرار العالم، وهي لحظة من فورة الدم الفلسطيني يجب أن ينتصب معها الميزان.
إن الاتفاق الإسرائيلي الأميركي لترتيبات الأمن على الحدود المصرية يشكل إهانة غير مسبوقة لسيادة مصر وهيبتها ودورها. لقد آن لمصر أن تستعيد إرادتها في مسائل حيوية لأمنها القومي، وأن تجــد في غــزة والمقاومة أحد خطوط الدفاع الرئيسية عنها. إن صــمود مقــاومة الشعب الفلسطيني هو إحدى الوسائل الأساسية لتجنيب المنطقة مخاطر الحروب الكبرى وليس العكس. ليس مطلوباً أن تكرر القوى العربية أدوار بعضها لكن على الأقل المطلوب أن تتكامل الأدوار بين المقاومة العسكرية والسياسية والدبلوماسية العربية.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى