شعوب وقضايا وأنظمة وتواريخ مؤجلة!
بول شاوول
في هذا العالم المليء بالجنون والعنف والظلم والظواهر المستنبتة والحروب المتتابعة المتناسلة، والأحداث المتشابكة المتدافعة، كأنما، ومن فرط تسابقها وتنافسها تبتلع بعضها فيُهَمِّش حدث (وان عادياً احياناً) حدثاً اكبر، فيخلع عن المنصات والشاشات والميديا ويمحو من النفوس والضمائر والأفكار ما كان قد اجتاحها، وشغلها وَهَجَسَّها. وكانت غزة في “البنط” العريض من الصحف، والصوت الأول في الاذاعات والصورة الطاغية على الشاشات والصرخة اليومية في المنازل والشوارع والمقاهي… وكانت الهواء الذي يتنفسه الخبر الوافد على عجل أو على تكرار… فجأة، ازاحت اخبار تنصيب أوباما رئيساً للولايات المتحدة كل ما عداها: خطفت العناوين والصورة والتعليقات.. لتتراجع غزة، وما عانته من أهوال ومآس ومجازر وخراب الى المرتبة الثانية لكي لا نقول الثالثة بعد “المصالحات” العربية، ثم انتكاستها، ثم المساعدة السعودية (مليار دولار) لغزة.. ثم التوافق الفلسطيني ثم تصريح بعض حماس بأن اشتراط تقديم المساعدة لغزة باتفاق الفلسطينيين “ابتزاز”). (تأملوا ان مسؤولين فلسطينيين يعتبرون ان المساعي لمصالحتهم ابتزاز، (هل سمع أحدُ بمثل هذه الوطنية) ومتى! بعد كل المجازر التي ارتكبتها اسرائيل والتقدم الميداني الذي اجتاحت به مدينة غزة.
عال! حَدَثٌ يأكل حدثاً: قبل غزة كانت أزمة العقارات والزلزال الاقتصادي الذي هز العالم ومن ثم رحيل بوش كأسوأ رئيس عرفته الولايات المتحدة. لكن، واذا كان حدث يُزيح آخر عن المنصة، أو من دائرة الاهتمام، او من افق التداول فيعني ان لا شيء قد ادرك حلولاً: اختلاط الخبر الجديد بالخبر السالف بالخبر القديم بالحدث الكبير فالصغير فالمزمن، كل ذلك يعني ان كل هذه المشاكل والقضايا تتآخى، وتتجاور بلا حل ويحاول “الخبراء الاستراتيجيون” ايجاد عناصر مشتركة بينها لتكبر العقد وتنتفخ الأزمات وتتراكم الصراعات” الظواهر العاجلة تصبح ظواهر مؤجلة، وتتحول المقاربات حولها الى ما يشبه الكلام “البابلي”، والتحاليل الى ما يشبه ضرب المندل… لتكون هذه “المؤجلات” ، مقدمات لأحداث أخرى.. تلقى مصير اخواتها وشبيهاتها!
اليوم كل هذه الأمور بات على كل الطاولات: وهنا يمكن تغيير الأولويات بحسب الظروف وها هو أوباما ينقل الأولويات من ازمة الشرق الأوسط ومجازر اسرائيل في حماس، الى افغانستان والعراق والأزمة الاقتصادية التي تعانيها بلاده ويعانيها العالم: قضية فلسطين تتراجع. ويصبح الناس والأنظمة والدول والمنظمات كتلك المشاكل مجرد بنود مؤجلة مجرد مواعيد مؤجلة… ويصبح الزمن ايضاَ مؤجلاً. والتاريخ مؤجلاً.. برسم دماء جديدة تسفك، وأرواح تزهق، وشعوب على خرائط اخرى مهددة!
انها العدالة بامتياز! عدالة العالم. وانه حضور “الجماهير بامتياز! الجماهير التي تتقلب بين هذه المؤجلات والمقدمات، من دون ان يكون لها عبر صوت او مظاهرة.. أثر، لا تقدم ولا تؤخر في هذه المسارات الجامحة. انها الجماهير المؤجلة ايضاً!
الكل اليوم يخفي او يُمَوّه مواقفه في انتظار سياسة أوباما. عال! الكل يحمل وردة او ورقة في يده وخنجراً وراء ظهره لا سيما اسرائيل، ولا سيما بعض المعنيين بالصراع العربي الاسرائيلي والصراع العربي العربي! والصراع الايراني الأميركي.
لكن اذا كانت الأحداث المتضاربة المتناكرة المتنافسة تعطل بعضها بفعل ارادات القوى الطاغية والأزمات المفاجئة، فالغريب ان بعض اصحاب القضايا المصيرية المرتبطة بوجودهم وارضهم وشعوبهم ومستقبلهم، يسعون حثيثاً في ما يشبه التقاطع مع اعدائهم، الى الانخراط في لعبة تأجيل احتمالات حلول لتلك القضايا فقط بل الخلافات بين بعضهم.
فالعرب اليوم عَرَبان: عرب يعلنون خطاباً توافقياً، توحيدياً، مبنياً على قاعدة الالتفاف من اجل تشكيل فاعلية قوية ازاء المفاوضات والحلول، وعرب (قلة طبعاً) ما زالوا يرفعون شعارات الانقسام، والتشرذم والمزايدة لأسباب تتعلق بمصالح ضيِِّقة (سلطوية) ام لارتباطهم بأجندة غير عربية: وهذه الأجندة غير العربية (وتخصيصاً الايرانية) تستخدم الدم الفلسطيني واللبناني والعراقي لتقويض ما يسمى مركزية القرار العربي، أو ترسيخ الدولة العربية، او النظام العربي (على علاتها جميعاً) وخطف الورقة العربية استناداً الى ما عند هؤلاء من تأثير في بعض القوى والأحزاب المعنية المرتبطة بهم.
والعجيب الغريب أن الخطاب “المتشدد” الرافض الحل السلمي مع اسرائيل (ونحن معه اذا استكملت شروط المواجهة العربية بالاجماع) والذي تمثله ايران او النظام السوري او سواهما من بعض الأقطار العربية، لا يتجاوز مسافة الكلمة الى الميكروفون، ولا مسافة الوجه الى الشاشة التلفزيونية ولا مسافة الصوت الى الاذاعة.. ولا مسافة التظاهرة الى ما يعززها ميدانياً. والأغرب ان اكثر “الممانعين” من هنا وهناك، هم إما انهم لم يطلقوا رصاصة واحدة على اسرائيل (يستخدمون عرباً بدلاً منهم) واما انهم استنعموا بهدنة مع العدو على ارضهم المحتلة، او انهم يتمتعون بحماية أميركية عبر قواعد اساسية على ارضهم. وهؤلاء بالذات يُربكون كل اتفاق لا يكون في خدمة مصالحهم (النووي في ايران والمحكمة في سوريا…) بل وينشرون ما يسمى ثقافة “المواجهة عبر الآخرين واللاتفاوض في وقت نسمع فيه عن اعلان تفاوضات وتأييد للحلول السلمية: حيص بيص، لكن هذا “الحيص بيص” يسبح في دماء الفلسطينيين واللبنانيين، كساحتي مواجهة لإسرائيل دون الذين يقفون في الخارج وراء قرار المواجهة. فهم يحتاجون الى من يواجه عنهم. فعلى العرب ان يموتوا مثلاً من اجل حل المسألة النووية بين إيران وأميركا. أو من اجل حل ازمة العلاقات بين نظام الوصاية وبين اميركا… العرب يحاربون بشعارات هؤلاء لا للتوصل الى حلول، وإنما لمساعدة اسرائيل (عن قصد أو غير قصد) لكي تعطل كل الحلول: فالفريقان الخارجيان: عرب “الممانعة” (فقط في غزة (ولبنان وليس عندهما كمتفرجين نظيفين) واسرائيل لا يريدون حلولاً دائمة، وإنما إبقاء كل شيء معلقاً او مؤجلاً، فحل المشكلة الفلسطينية يأخذ من ايران وسوريا ورقة حماس، وايجاد حل لمزارع شبعا مثلاً يأخذ الورقة ذاتها من الاطراف ذاتها. (وهنا نفهم معنى رفض سوريا ترسيم الحدود ونفهم مدى تأجيل حل مسألة شبعا بين لبنان وسوريا الى ما بعد الصراع العربي الاسرائيلي! الله! يعني مزارع شبعا تصبح جولان آخر). أي تأجيل التأجيل. والامر الخطير ان بعض الانظمة تظن ان إبقاء كل الصراعات قائمة للحؤول دون التوصل الى حلول ثابتة او دائمة يعزز “وجودها” ويرسخ هيمنتها على شعوبها، باعتبار ان استمرار الازمات كفيل باستثارة المخاوف من “عدو” خارجي ينبغي ان يبقى موجوداً، ليكون “شماعة” لاستمرار قوانين الطوارئ، والحالات الاستثنائية التي تبرر لهم ضرب الحريات، وكم الافواه المعارضة، والقضاء على كل احتمال اصلاح في بنية النظام. فلتؤجل ايضاً هذه المعضلة الاصلاحية. فوجود انظمة دكتاتورية كاملة والهية ومتوارثة وفوقية وفاسدة ومستلبة لا يحتاج الى اي اصلاح: فاستمراره هو اصلاح الاصلاح، واي مطالبة بأي اصلاح يعني اتهام المطالبين به بالعمالة للخارج، او باستيرادهم انماطاً”غربية” لا تليق لا بالهوية الوطنية ولا الايمانية! فتأجيل الاصلاح (من باب اعدامه) يستدعي تأجيل كل شيء (إلا النهب والقتل والقمع) وما بين التأجيل والتأجيل حروب. وما بين الحروب والحروب موت ودمار ويأس وفقر وهجرات وخوف. وبين كل ذلك ازدياد نسب التخلف والتراجع والعقلانية والمناحي المدنية وتصاعد ظواهر العنف والطائفية والمذهبية والعنصرية والتبعية والتفكك والازمات الاقتصادية والاجتماعية. فكأننا بتنا شعوب التأجيل، لكي نكون الشعوب المؤجلة؛ وكأننا بتنا كائنات التأجيل، لكي نكون كائنات العدمية، والاهمال، واليأس والاقدار المتضاربة، والاستسلام والخنوع: وإذ كيف نفسر استمرار بعض هذه الانظمة المرعبة؟ بل كيف نفسر حالات القبول وظواهرها بالنسبة للمجموعات البشرية الخاضعة للاذلال والضياع منك قبل أنظمتها. كيف تستمر مثل هذه الانظمة التافهة، الاستبدادية الفاسدة، لو لم تنجح في استلاب هؤلاء الناس وانتزاع كل ذرة “مقاومة” او اعتراض، واطفاء كل جذوة تنتفض، أو حتى كل احتمال للغة نقدية؛ ولو لم تنجح (بالحديد والنار والبروباغندا الستالينية) في تحويل اهتماماتهم عما يتعرضون لهم، باختلاف صراعات خارجية، وتبريرات، وإبقاء كل شيء على حاله: أنظمة الثلاجات: كل شيء في الثلاجات بما في ذلك الناس والتواريخ والحريات والمصائر، وبما في ذلك ما يمكن ان تؤدي إليه مثل هذه التأجيلات: او تصير كل شيء حماية لهذا النظام او ذاك.
من هذا المنظار يمكن ان نقارب ما تراكم من صراعاتنا، وما ترسخ من فشلنا (نحن العرب وغيرنا في بلاد أليس العجائبية)، ومن ذلنا، ومن تفرقنا، ومن شرذمتنا، ومن تخلفنا. وهنا نسأل أهل التأجيل والتخطيط وباعة “الثلاجات”: أين فلسطين؟ التي كانت على امتداد ستين عاماً منذ النكبة، تنتقل من أيدٍ تؤجل الى أخرى تؤجل، حتى باتت اليوم اثنتين: واحدة قسمت بانقلاب حماسي “الهي” مظفر، وأخرى ضمن السلطة، من دون ان ننسى فلسطينيي الاراضي المحتلة 1948، وكذلك من دون ان ننسى الدياسبورا الفلسطينية في العالم العربي، وفي كل العالم؟ فلسطين تقسم وتتعرض للمجازر والقطع والبتر والاحتلال، ولا حل، بلا ولا محاولة توحد لصوغ حل بقرار مستقل عن هذه الدولة العربية الشقيقة وتلك “الاعجمية” الشقية: إذ كيف يمكن الابقاء على ما يشبه الدولتين الفلسطينيتين الناقصتين (والمحتلتين)، في الوقت الذي نسمع انتصارات انسانية والهية من أفواه بعض المفوهين بل وكيف يمكن الكلام على “هزم” اسرائيل وتحقيق الدولة الفلسطينية المستقلة، إذا كان بعضهم يعتبر ان المصالحة الفلسطينية مجرد ابتزاز. وهذا نفهمه جيداً نحن في لبنان فالانظمة ذاتها كانت تمنع تلاقي اللبنانيين ومصالحتهم، لتبقي حضورها ونفوذها، وتجعل من الشعب والقضية والارض مجرد ورقة، وذلك على امتداد اربعة عقود، ومن كثرة ما تبدلت الايدي التي تطمع بالورقة اللبنانية، كدنا نصير بلا ورقة وبلا وجود وبلا استقلال ولا ديموقراطية… ولا كرامة! اللعبة ذاتها تدار في فلسطين: لعبة التقسيم. وها هو احمدي نجاد وسواه من الجبلة ذاتها يعلنون انتصار ايران في غزة! الله! تماماً كما أعلنوا انتصارهم على أميركا في لبنان وفي العراق (لماذا لم ينتصروا في ايران مثلاً؟) وما لكم أيها السادة في لبنان وفلسطين لكي يكون لكم ان تغطوا توريطكم كل هذه الشعوب بحروب، وتقفون مكتوفي الايدي تتلذذون بطعم الدم العربي المراق!
ذلك لأن هؤلاء الناس، بتشجيعهم على تقسيم فلسطين، واختلاق “دويلة” في غزة، “تشبه بعض الدويلات والبؤر المنفصلة في لبنان وربما في العراق”، يريدون تأجيل قيام اي حل يؤدي الى بناء دولة فلسطين المستقلة، تماماً كما هي الحال في لبنان (فهل تجاوز العراق هذه الازمة، نتمنى ذلك)، عندما يكون لهذا التأجيل القسري تأجيل قيام الدولة الواحدة المستقلة ذات القرار المنوط بها دون سواها، وتأجيل قيام الدولة يعني تأجيل قيام الوطن، وتأجيل ترسيخ الحدود، وتأجيل الاستقلال، والسيادة، والنمو، ليكون لبؤر وظواهر مرتهنة، أن تنهش كل ما من شأنه استتباب الدولة: والنموذجان الشاهدان: لبنان وفلسطين (واللاعبون يعبث هذا الاستكمال هم أنفسهم بالأدوار ذاتها وبالأموال ذاتها، وبالأسلحة ذاتها، وبمخططات الفرقة والتقسيم والانفصال والانعزال ذاتها).
لكن نظن، ومع احترامنا لعبقرية هؤلاء الدخلاء المتدخلين، ولذكائهم الأقصر من أنوفهم، أن هذه “الاستراتيجيات” لن تفيدهم بشيء، سوى ببعض “الجوائز” الإعلامية، وبكثير من الخراب الذي لن يسلموا منه على المدى الطويل: فسياسة التأجيل بالحروب والأزمات والقسمة ستؤثر آجلاً أو عاجلاً حتى على “صمودهم” في السلطة، وعلى ادامتهم لمثل هذه الأنظمة المتداعية. ذلك أن إعدامهم لأي صوت مختلف، أو لأي وحدة حقيقية، أو لأي وعي نقدي، أو حتى لأي محاولة إصلاحية بذرائع أشرنا إليها، سيخلخل السلطة من تحت أقدامهم شيئاً فشيئاً، خصوصاً وأنهم حوّلوا أدواتهم العسكرية والأمنية عن مهماتها القتالية الى مهمات مخابراتية تحمي أنظمتهم الاستبدادية. فتأجيل حل “الجولان” مثلاً، سيكون له عواقب لاحقة، ولا تنفع بدائل واستعارات له، لا هنا ولا هناك. وتصدير الثورة الإيرانية عبر ذهنية المتشددين الجدد (النجاديين ومن وراءَهم) لاقتحام المجالات العربية وغير العربية، واستثارة صراعات عربية ـ فارسية، أو طائفية أو دينية، أو إيديولوجية ستزيد من تفاقم الأزمات الداخلية، وتضاعف الخلل الاقتصادي (لا سيما بعد تراجع أسعار النفط)، ونحو حركات احتجاجية داخل إيران نفسها ربما عنفية… وهذا ما بدأ يظهر من خلال تراجع شعبية نجاد في إيران والمتطرفين وتقدم الإصلاحيين وفي رأسهم الرئيس السابق محمد خاتمي: إذ لم ينفع هؤلاء لا سياسة التأجيل (لخدمة الداخل) ولا استراتيجية الغزو، ولا التفريط بمال الشعب الإيراني (كما فعلت بعض أنظمة النفط العربية “الثورية”)، ولا إشعال الحروب، ولا استخدام المال. وهذا ما نشهده حالياً ليس في إيران فقط في دول عربية نفطية تشتري نفوذها بالمال وبعلاقتها بإسرائيل وأميركا (القواعد شاهدة!).
ونظن أن السياسة التسويقية للكيان الصهيوني لن تؤدي سوى الى خرابه في المدى القريب والبعيد خصوصاً في ظل الأزمات الاقتصادية العالمية (أميركا وأوروبا) بحيث قد يؤدي ذلك الى تقلص الاهتمام بحمايتها ودعمها المادي، وتبرير جرائمها وتوسعها! ولا يظنن “أعمدة” (وعواميد) بني صهيون أن ما سببوه من خراب (وتأجيل لحلول يلتقون به مع بتوع الممانعة، العوذ بالله) لن يرتد عليهم: فالزمن قلاّب يا بتوع الجرائم والاغتصاب، ولن يعينكم لا كتب توراتية كمراجع إلهية تبرر الغزو والقتل، ولا “تلاميد” ولا أعمدة حكمة.. ولا شيء! وقد بدأت تلاويح لافتة في هذا المجال: فرعبكم من سلام في المنطقة، وتأجيل كل شيء بانتظار الانتظار، سيعود عليكم بالخراب؛ ونظن أن النظام الإسرائيلي (كغيره من الأنظمة الاستبدادية والاستعمارية) “سيستنقع” شيئاً فشيئاً وأن العالم لن يكون الى جانبه دائماً (بانتصارات إلهية دائمة: فبئس كل الانتصارات الإلهية!)، في هذه العزلة المعدنية حولكم. أما المستقبل، فمن يقول إنه مضمون لهذا الكيان؟ ولا نتكلم هنا على “حتميات” ولا على “تنبؤات” (وبئس التنبؤات!) وإنما على ما يمكن استخلاصه من تواريخ الشعوب والأنظمة العربية والعالمية وسواها…
فالأنظمة والمنظمات التي تسعى، وبكل الوسائل، الى منع التوصل الى حلول، وإلى عرقلة كل سعي باتجاه العدالة، والحقوق المشروعة، وحرية الشعوب، واستدامة سياسة “الغزو”، والتدخل، والاقتحام، والعنف، للسيطرة وللنفوذ، لن يكون لها سوى الخيبات اللاحقة، ولن يكون لها سوى ارتداد ما تظنه مفيداً عليها. ونظن أن اتباع “ثقافة” التأجيل، وإبقاء الأمور معلقة، وتخريب كل شيء، لن يعود عليها سوى بالتجمد، والتخلف، والتراجع…
أما في لبنان، فالذين دأبوا منذ 4 عقود على اعتماد هذه الثقافة، ثقافة اللاحل، واللاسلم، واللاحرب، ثقافة التأجيل، فإنهم هم الذين سيدفعون “الثمن”. فتأجيل قيام الدولة سيؤدي الى استفراسهم آجلاً أو عاجلاً ومهما بلغت قوتهم وجبروتهم واستكبارهم، وتأجيل الحل مع إسرائيل (بعد انسحاب جيوشها قسراً) في انتظار مصالح هذه الوصاية الى ذلك، سيبقى الجولان محتلاً ومُهَوَّداً، ومزارع شبعا رهينة بين إسرائيل وسوريا (كيف يمكن جعل مزارع شبعا جولان آخر! فهل بات وضع الجولان نموذجاً يجب احتذاؤه حتى في الجزر العربية الثلاث التي تحتلها إيران)، وتأجيل إلغاء البؤر الأمنية (الأسلحة كلها خارج المخيمات)، قد يرتد على حزب الله نفسه إذا ما تغيرت التحالفات… وتأجيل دعم الجيش ليكون القوة الأساسية المسلحة الوحيدة… قد يؤدي الى ما لا تحمد عقباه داخل الشعب وداخل الجيش نفسه حينما لا ينفع الندم ولا الأسف.
فسياسة التأجيل التي هي سياسة “الطغاة” وأهل الاستبداد، والارتهانات…. أي الضعف عملياً… ستزيد هؤلاء تعرضاً للخسارة، والهزيمة والضعف… والوهن. فللصبر حدود عند الناس وحتى عند الذين يؤيدون (حتى الآن) هؤلاء وللدعم الذي يتلقونه من الخارج حدود أيضاً ومدد زمنية ينتهي مفعولها… إسألوا من سبقكم ممن كانوا يتلقون المليارات والأسلحة في الحروب التي اندلعت على لبنان… وكان “القابضون” والمؤجلون للسلم الأهلي… والدولة والوحدة أول من دفع الثمن.
تذكروا تعتبروا! والعِبرة في النهاية لمن اعتبر.