مجزرة غزّة والتدنّي الأخلاقي للغرب
خيرونيمو بايث
بغضّ النظر عن ايّ سفسطة وعن استفزازات حماس وإطلاقها للصواريخ محليّة الصنع وعن أيّ مظاهرة غير مجدية رافضة للمحرقة، فإنّ اجتياح غزة مجزرة غير مقبولة. لا بدّ أنّ المجتمع الإسرائيلي قد تدنّى كثيرا وأنّه قد تمّ تغذيته بحقدٍ مفرطٍ لكي يلقى هذا الجنون دعم أغلبيّة الشعب.
إنّ إسرائيل، ومنذ عديد السنوات، وبتعلة أنّها مهدّدة في أمنها، تعتبر أنّها تمتلك حقّ التّدخل في الدول المجاورة إن كانت لبنان وسورية أو فلسطين وحقّ توسيع حدودها وتدمير كلّ من يعترض نواياها ومصالحها وذلك احتماء بشمّاعة القضاء على الإرهاب. لو قبلنا جدلا هذه الطروحات يمكننا الخلاص إلى النتيجة الغير المقبولة التالية: على الهند قصف كاراتشي إثر تفجيرات بومباي وعلى الحكومة الإسبانيّة أيضا قصف الأماكن التي يختبئ ويحتمي بها إرهابيو المنظّمة الانفصاليّة إيتا.
إنّ إسرائيل تمتلك، من دون شكّ، حقّ الدفاع عن مواطنيها وعن أرضها ولكن الفلسطينيين يمتلكون الحق نفسه . إننّا نتناسى أنّ الإسرائيليين قلمّا كانوا مستعدّين للاعتراف بالفلسطينيين وأنّهم تجاهلوا مرارا توصيات الأمم المتحدة وأنّهم أقاموا مستوطنات بالأراضي المحتلّة وأنّهم رفضوا اقتسام القدس وعودة اللاجئين وأنّهم حاصروا الأرض الفلسطينيّة وحولّوها إلى سجن مفتوح يمكن لقادتهم العسكريين ان يقوموا فيه بأي نوع من الهجمات الشرسة والاغتيالات المستهدفة. أمّا الآن فقد حولّوا قطاع غزة إلى جحيم حقيقي مخلّفين مئات القتلى وآلاف الجرحى جاعلين منه مصيدة قاتلة لا يمكن الخروج منها أو حتى الدخول إليها لإسعاف الجرحى. ‘المسؤولة المعتدلة’ الإسرائيليّة، الوزيرة تسيبي ليفني، تجرّأت على القول في فرنسا، أمام إذعان الرئيس ساركوزي، بأنّه ‘لا توجد أيُّ أزمة إنسانيّة بغزة’. بالإمكان المغالطة في الخطاب ولكن الصور لا تغالط، فهي واضحة وضوح الشمس.
إنّ هذا التدمير لم يكن ليتحقق لولا سلبيّة القوى العظمى والدعم الصريح من الولايات المتحدة الأمريكيّة. الرئيس بوش أكّد أنّ’السبب في اندلاع العنف هو حركة حماس وأنّ تصرّف إسرائيل هو الإجابة المناسبة أمام إطلاق الصواريخ’. البلدان الأوروبيّة اكتفت بالتعبير ديبلوماسيّا عن رفضها المحتشم، وقليلٌ ما يمكن ذكره عن الصمت المتواطئ لروسيا والصين أو البلدان العربيّة الإسلاميّة العاجزة عن تكوين جبهة موحدة ومعارضة فعّالة. تعيس هو المشهد الإعلامي الغربي الذي، لو استثنينا جانبا صغيرا منه، يقدّم إسرائيل على أنّها الضحيّة وليست الجلاّد. البعض من المقالات التي ينشرها ما يُعرف ‘بالفلاسفة الفرنسيين’ كآندري قلوسكمان وبرنار هنري ليفي كادت تكون فاشيّة في طرحها. المثقفون الإسرائيليون، الذين كانوا قديما ملتزمين بالسلام على غرار دفيد قروسمان اكتفوا بالطلب من الجيش الإسرائيلي عدم الإفراط في القمع. وبعبارات مماثلة عبّر أغلبيّة المحلّلين الأوروبيين والأمريكيين عن موقفهم. ‘إنّ العالم المتمدّن’ أدار ظهره لغزة وهو موقف مخجل يتمّ استغلاله للتصعيد في القمع.
ولكن هذا الوضع ليس بجديد فالتصعيد العسكري المراد به منع إقامة دولة فلسطينيّة أو إجهاض هذا المشروع وإبقاءه في طور الفكرة قد بدأ منذ فترة حكم شارون، كما يفسّر ذلك بإسهاب آفي شلايم في كتابه ‘الحائط الحديدي’. ايهود اولمرت، خليفة شارون في الحكم، كان يفتقر لصفات السلطة والهيبة ولم يكن سوى مجرّد دمية في أيدي الجيش الإسرائيلي، فهذا الأخير هو الذي يحكم فعليّا بدعم من اليمين المتطرّف وتشدّد جانب كبير من المجتمع الإسرائيلي، خاصة المعمّرين.
إنّ الهجوم على غزة والمقصود منه أيضا تسليط عقوبة قاسية على الشعب الفلسطيني ليس مرجعه تشدّد حماس أو إطلاقها للصواريخ محليّة الصنع، ذات التأثير المحدود أمام القوّة العسكريّة لدولة إسرائيل ويكفي معاينة البون الشاسع بين الأضرار التي لحقت الفلسطنيين مقارنة بالإسرائيليين.
إنّ اجتياح غزة كما كان الحال في اجتياح أمريكا للعراق، تمّ إقراره مسبقا. الجنود الإسرائيليون تدربوا طوال أشهر في صحراء النجف فوق مجسمات مصغّرة لقطاع غزة، بحسب اعتراف الناطقين باسم الجيش الإسرائيلي. لا بدّ أنّهم قالوا:’إلى حدّ الساعة وجّهنا ضربات موجعة لمقاتلي حركة حماس ولكن يجب القضاء عليهم’. ومثّلت استفزازات حماس الذريعة المثلى لذلك، لكن بقي تحديد زمان الضربة واختاروا أفضل توقيت لذلك وهو الفترة الانتقاليّة لتسليم مقاليد الحكم في الولايات المتحدة الأمريكيّة بالإضافة للغموض الذي يعتري مواقف باراك أوباما وهل أنّه سيتحلّى بنفس انحياز الرئيس السابق جورج بوش.
أراد الإسرائيليون أن يثبتوا للعالم الغربي ولبلدان المنطقة وخاصة لعدوّهم اللّدود إيران أنّه ما من شيء أو أحد يمكنه منعهم من مهاجمة أيّ هدف أو بلد يعتبرونه مصدر تهديد لوجودهم. ما يقلق الجيش الإسرائيلي ليس حركة حماس إنّما إيران البلد الإسلامي الأقوى في المنطقة، والذي تدعّم موقفه الريادي بصعود الشّيعة في العراق وحزب اللّه في لبنان، وخصوصا لأنّه على وشك أن يصبح دولة نوويّة. وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، بنيمين بن إلعازر، كان قد حذر الأمريكان ‘بأنّ العراق كان يمثّل قلقا ولكنّهم يعتبرون أنّ إيران تمثّل خطورة أكثر على أمن إسرائيل’.
كتب مؤخرّا، دنيال فنكلشتاين، حفيد أحد مؤسّسي دولة إسرائيل في جريدة ‘لندن تايمز’:’بما أنّ إيران على وشك امتلاك السلاح النووي، بما يمكنّها بالقيام بمحرقة جديدة، فإنّ اعتداءات إسرائيل هي أفضل من سلبيّة العالم إزاء هذا الوضع’.
على ما يبدو فإن الحكومة الإيرانيّة، التي لا تتميّز بديمقراطيتها ولا باحترامها لحقوق الإنسان، لن توقف برنامجها النووي (والآن تحديدا الأمر يبدو أكثر صعوبة) فمن الممكن إذا أن ننقاد في المستقبل إلى وضع أكثر تعقيدا. اقترف الغرب عامة وباراك أوباما خاصة خطأ مزدوجا، الأوّل اخلاقي، لعدم امتلاكه الشجاعة للتنديد بهذه الكارثة بكلّ وضوح، والثاني، استراتيجي والمتمثّل في فتح المجال للصقور الإسرائيليين لكي يظنّوا أنّ لهم الضوء الأخضر والحريّة المطلقة للقيام بعمليّات عسكريّة بدون أيّ قيود دفاعا عمّا يعتبرونه مصالح استراتيجيّة، رغم ما يخلقه ذلك من مواجهة شاملة في المنطقة.
لا يوجد الكثير من الدواعي لكي نتحلّى بالأمل، فإن لم يتحرّك المجتمع الدولي بصفة جذريّة لمنع هذه التصرفات، فالخوف أكثر الخوف أنّ السلام الوحيد الذي سوف نحقّقه هو سلام القبور.
محام ومدير مؤسسة التراث الاندلسي