خمس عبر تاريخية
جمال باروت
رغم أن مقاربة المستقبل محفوفة بالمخاطرة بحكم ما يتسم به من ضعف تيقن، فإن الحرب الفلسطينية-الإسرائيلية الراهنة تنطوي على بروز مؤشرات خمسة أو خمسة اتجاهات كبرى في منظور تاريخ الفترات الطويلة الأمد للصراع العربي-الإسرائيلي عموماً منذ قيام دولة إسرائيل في العام 1948. وتتمثل هذه العبر أو الاتجاهات فيما يلي:
العبرة الأولى: مهما كانت ملابسات وأسباب ووظائف عملية إعلان إسرائيل عن وقف إطلاق النار من طرفٍ واحدٍ، فإن هذه هي المرة الأولى التي تعلن فيها إسرائيل وقف إطلاق النار، بينما درجت العادة على أن يطلب العرب المعتدى عليهم في الحروب الإسرائيلية-العربية السابقة وقف إطلاق النار، أو يستعجلون الإعلان عنه. وقد يكون من المبكر استنتاج اتجاهات نهائية لذلك غير أنه ينطوي على تغير كبير في الاتجاهات التي حكمت الحرب العربية-الإسرائيلية خلال العقود الخمسة المنصرمة.
العبرة الثانية: هذه هي الحرب الأولى التي تستأنف ما كرسته حرب تموز 2006 من نقل آثار الحرب في شكل مؤشرات قابلة للقياس إلى داخل إسرائيل بعد أن كان هذا الداخل “محصّن” ضد الهجمات العربية. فلأول مرة يعيش ما يقترب من خُمس سكان إسرائيل على الأقل داخل مربع “الإنذار الأحمر”، ويعيشون بعض ويلات العدوانات الإسرائيلية على الفلسطينيين والعرب في شكل “هلع” يثير قلقاً كيانياً أو وجودياً.
ووفق توازنات القوى السائدة بغض النظر عن مدى استثمارها فإن هذا الميزان قد تحول استراتيجياً من الاختلال الكبير إلى نوع من التوازن الردعي العربي المقاوم لإسرائيل، والقادر على فرض ميزان “رعب” قابل للقياس. ويرتبط مستقبل ذلك بإعادة النظر جذرياً في مفهوم موازين القوى من ميزان توازن بين الجيوش إلى ميزان توازن بين حركة المقاومة وبين الجيش الإسرائيلي.
العبرة الثالثة: أن حركة المقاومة قد تحولت من شكل حركة الفدائيين الذين يتسللون إلى داخل أرضهم ويقومون ببعض العمليات العسكرية، ومن شكل الانتفاضة الشعبية، إلى شكل المقاومة الشعبية المسلحة، التي تستند فيها العصابات المقاومة إلى انغراس عميق في النسيج الشعبي. وهذا مؤشر على تحول كبير تستطيع فيه حركة المقاومة وبإمكانات ذاتية وبسيطة وأسلحة تقليدية جداً قابلة للتطوير أو لاستخدام أسلحة تقليدية أكثر تطوراً أن تتحدى التفوق العسكري النظامي الإسرائيلي، وتفرض ميزاناً يمتلك سمات الردع مع أن حركة المقاومة الفلسطينية في غزة ليس لديها نمط داعم من النمط التقليدي الذي مثله نموج هانوي.
وفي مثل هذا التحول أبدى الجيش الإسرائيلي ارتباكاً كبيراً في عملية تطوير مراحل حربه، ولم يستطع أن يغامر في الدخول إلى غزة، بينما كان يستطيع في فترة سابقة أن يصل إلى بيروت ويحتلها، وأن يحاول قطع خط بيروت- دمشق، أو يطل على بعض المدن المصرية.
العبرة الرابعة: أن حركة المقاومة هي حركة لاجئين، فهي وإن كانت حركة حماس تقودها، وتجد غطاءها وسياجها في الشعب، فإنها حركة مقاومة فلسطينية “غزاوية” تجد الوجه الآخر لها في أنها حركة مقاومة للاجئين فلسطينيين، فما يتم عدم الاهتمام به بشكل كاف أن ما لا يقل عن ثلاثة أرباع فلسطينيي غزة هم من اللاجئين.
وسوسيولوجياً ينحدر معظم المقاومين من عائلات اللاجئين، ويمكن بدقة رسم خطوط اللجوء في غزة وعلاقته بالمدن والبلدات الفلسطينية التي هجروا منها. وفي مثل نوعية التركيب الغزاوي الفلسطيني يبدو “ساذج” جداً أن يتصور مخططو الحرب الإسرائيليون، أنهم بالاستمرار بعملية الحصار والفتك بالمدنيين، وتحويل الحياة اليومية إلى جحيم في “قفص” فيما يعرف بـ “عقيدة الضاحية” سيجعلون الشعب ينفض عن حركة حماس، لأن هذه الحركة بغض النظر عن تعبيرها الإسلامي هي من الناحية السوسيولوجية الأهم في تقرير اتجاهات الأحداث حركة لاجئين، أي حركة الشعب نفسه، التي قد تتخذ في فترة غطاءً أيديولوجياً قومياً أو يسارياً أو وطنياً صرفاً أو إسلامياً. فالغطاء الأيديولوجي -بالإذن من المتربلرين العرب على نمط ليبرالية منتدى المستقبل- في حيوات الشعوب التي تخضع لنير الاحتلال يفهم ليس في عناصره الأيديولوجية المفردة بحد ذاتها بل في ضوء وظيفتها التعبوية، وقدرتها على تحقيق التماسك المعنوي للشعب المضطهد.
والغريب ألا يعرف المخططون الإسرائيليون هذا الدرس الذي طبقته أميركا ضد الفيتناميين، وحصدت ما حصدته. وبمقياس الحروب العربية-الإسرائيلية فإن حربي تموز وغزة هما أطول حربين خاضتهما إسرائيل. وحقق فيه الشعبان الفلسطيني واللبناني صموداً “مفاجئ” قلب التقديرات رأساً على عقب.
العبرة الخامسة: إن نتائج حرب تموز والحرب الفلسطينية-الإسرائيلية الراهنة بين اللاجئين الفلسطينيين في غزة وبين إسرائيل تنطوي على تغير جذري في العقيدة الأمنية الإسرائيلية التي كانت تعرف في السابق حزب الله وحركة حماس كمجرد “مخاطر أمنية” يسهل التعامل معها. فلقد سقطت نظرية الصواريخ “العبثية” إلى لا رجعة. وهذا شيء جديد تماماً في منظور إسرائيل للخطر الأمني والخطر الوجودي الكياني.
تنطوي هذه المؤشرات على عبر ودروس لم تصبح بعد نهائية لكن اتجاهاتها تتسم بالأمامية. والأهم في ذلك أن تطورها يثير احتمالات شديدة “الخطورة” على المسألة الكيانية الإسرائيلية نفسها.
إن الشرق الأوسط يتغير حقاً، ويتطور في اتجاهات لم يستطع أن يتنبأ بها خبراء إعادة تنظيم المنطقة، وهناك تاريخ آخر يتمخض في المنطقة.